Pixabay CC0 Creative commons

إنثقافٌ في الموسيقى لأجل صون هوية الواقع المسيحيّ ونموّها .. بين الموسيقى الروحيّة والموسيقى الحسيّة (الشَبَقيّة)!

القسم السادس من الموسيقى والليتورجيّا

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

إنّ الثورة الثقافيّة في هذه السنوات الثلاثين الأخيرة، تضع أمام الكنيسة تحديًا ليس أقلّ خطورة من التحدّيات التي لقيتها قبل الآن. فبعد تجربة الغنوص (المعرفة)، وعلمنة الموسيقى المقدسة في عصر النهضة، ثم في القرن التاسع عشر، فإنّ المسألة التي على الكنيسة أن تجابهها، يقول البابا بنديكتس، في ما يخصّ الموسيقى الليتورجيّة، هي متعدّدة. فالأمر يتوقف، أوّلا، على تجاوز  حدود الروح الاوربيّ لايصال الكنيسة إلى ثقـــافة شامـــــلة حقّا. فما هي الأوضاعُ والمعايير لإنثقاف، في مضمار الموسيقى المقدّسة، التي في آن واحد تصونُ هويــــــّة الواقع المسيحيّ، وتتيح لشموليّتها أن تنمو؟ هذا هو، بحسب البابا، التحدّي الذي يجب مجابهته.

إنّ الكنيسة، في هذا البحث، معنيّة مباشرة بتطوير هذين النموذجين من الموسيقى اللذين نشآ في الغرب، واللذين منذ عقود ٍ عديدة يكيّفان الثقافة على نطاق الكوكب. فمن جهة، هناك موسيقى ” تجاريّة ” مخصّصة للشعب، ولكنّها لم يعُد لها شيءٌ من الشعبيّ بمعنى الكلمة التقليديّ.  فإنها تـــُنتَج صناعيّا وهي تعود إلى ظاهرة الجمهور وليس شيئا آخر، في نهاية ا لأمر، سوى عبادة تافهة. وثمّة، من جهة أخرى، موسيقى ” روك ” ومشتقاتها، ولا سيّما اليوم ” تكنو ” التي هي اليوم إتجاهات الأهواء البدائيّة، والتي في الإحتفالات الكبيرة تنشر طابــــعا ثقافيّــــا، وحتى إنها تقوم بدور ضدّ العبادة بالنسبة إلى العبادة المسيحية. فالمشارِكون، وقد أُخِذوا في حركة الحشد، وخضعوا لحركة الوتيرة والضجــــّة وتاثيرات الضوء، يشعرونَ وكأنّهم تحرّروا من ذواتهم. وفي الإنخطاف الذي أثيرَ بإنعدام كلّ حاجز وسقوط كل منع، يطلقون نوعًا ما القوى البدائيّة للكون التي فيها يختفون في نهاية الأمر. فلكي يكونَ لموسيقى ” ألسُكر المُعتَدِل ” للروح القدس حظّ لتؤثر في هؤلاء الأفراد السُجناء، وهذه الأفكار المأسورة الذين يبدو لهم أن التهرّب في هذه الخبرة الجماعيّة، مهما كان قصيرًا، يكونُ لهم الوعد الوحيد بالنجاة؟

ما العملُ أمام هذا كلّه؟

إنّ الحلول النظريّة تبدو أقلّ تطابقا في المضمار الموسيقيّ ممّا هي في الفنون التشكيليّة. ومرّة أخرى أيضا، إن تجديدًا باطنيّا وحده، ونوعيّة عميقة من شأنهما أن يكونا ناجعين.

بعد أن قال البابا هذا، يُعطينا  جوابًا، بإستعادة النقاط الرئيسيّة التي أظهرها في بحثه عن الموسيقى المقدّسة المسيحية….

يقولُ البابا، إنّ موسيقى العبادة المسيحيّة تعود إلى اللوغوس بثلاثة أشكال :

1- إنها ترجعُ إلى تدخّلات الله المذكورة في الكتاب المقدّس، والمتداخلة في تاريخ الكنيسة والمؤوّنة في الليتورجيّا. وهذا العمل الإلهيّ ينــبثقُ من مركز لا يتغيّر: فصح يسوع المسيح – الصلب، والقيامة، والصعود – وهو يحتوي ويؤوّل ويؤدّي إلى نهاية تاريخ الخلاص للعهد القديم، وكذلك خبرات فداء البشـــرية ورجائها. فالموسيقى الليتورجيّة الموضوعة على قاعدة الإيمان البيبلي، تقيّم الكلمة والإعلان. وهذا النشيد الرابع من المحبّة يُجيب على محبّة الله الذي إذ تجسّد في المسيح، وأحبّنا حتى إنه ماتَ لأجلنا. وواقع القيــــــــامة لا يُقصي الصليب في الماضين ونشيدُ المحبّة الذي يرتفعُ يبقى موسومًا بالألم المحفور بصمت الله، في الألم الذي يحتفظُ بصدى الصرخة الآتية من أعماق الشدّة. فالتضرّع والرجاء يتلاقيان في كلمة ” كيرياليسون “، إلا أنّ هذه المحنة تستطيعُ أيضا، باستباق، أن تجري خبرة حقيقة القيامة، وهي تحتوي أيضا على فرح الإنسان بأن يكونَ محبوبًا هذا الفرح الذي كان (هايدن) يقولُ عنه إنه كان يغمره، إذ كان يضعُ موسيقى النصوص الليتورجية.

فالعلاقة باللوغوس تعني إذا أوّلا علاقة بالكلمة. ومن ثمّ أوليّة النشيد، دون إستثناء، على الموسيقى الآلية في الليتورجيّا. فإنّ النصوص البيبليّة والليتورجيّة، إذا ظلّت نقاط إرساء للموسيقى الليتورجيّة، فهي لا تمنع أبدًا خلق أناشيد جديدة. فعلى النقيض من ذلك، إنها تزوّدنا بمصدر إلهام، تضمنُ أساسًا متينا بهذه الإبداعات الجديدة: محبّة الله التي لا تتزعزع، وهي منظورة في عمل الفداء.

2- يذكّرنا القديس بولس بأننا لا نعرف أن نصلّي كما ينبغي، ” لكن الروح يشفع لنا بأنّات لا توصَف ” روما 8 : 26. أن نعرف أن نصلّي، والأكثر من ذلك أيضا، أن نعرف أن ننشد ونعزف بالموسيقى أمام الله، فهذه هبةٌ من الروح القدس. فالروح محبّة، ولذلك فهو يثيرُ فينا المحبـــــة، محرّك الشوف إلى الإنشــــــاد. وبما أنّ الروح يأتي من المسيح، فالمسيح يقول عنه: ” إنه يأخذ ممّا لي ويُخبركَم به” يوحنا 16 : 14. فإنّ هبة الروح التي تتجاوَز كلّ كلام، تعود دومـــــــًا إلى الكلمة، المعنى الذي يخلق ويحمل الحياة. ولذا، يمكن أن يجتاز النشيد الكلمات، فإنّ الإلهام الآتي من الكلمة، من اللوغوس، لا يُـــتجاوَز أبدًا. هذا النوع، يقول البابا، هو النوع الثاني والأعمق الذي به تعود الموسيقى الليتورجيّة إلى ” اللوغوس” وإليها يشيرُ تقليد الكنيسة حينما يتكلّم عن ” السُكر المعتدل” الذي يُثيره الروح القدس.

السكر المعتدل “، يقدّم لنا تاريخ الموسيقى مثلا للقناعــــة، وللعقلانيــــــــة المتفوّقة، وهما قادرتان أن تضعا كابحًا للإنغماس في عدم العقلانيّة وتجاوز المقياس. وحسب كتابات أفلاطون وآرسطو في الموسيقى،كما يرى بنديكتس، وجدَ العالم الإغريقيّ نفسه في المُجابَهة مع الإختيار بين شكلين من العبادة ومفهومين لله وللإنسان. وقد أعربَ عن ذلك بنوع ٍ واقعيّ جدّا بالإختيار بين نموذجين أساسيّين مو الموسيقى. فكان هناك من جهة واحدة الموسيقى التي ينسبها أفلاطون إلى أبولون، إله ” النور والعقل“. إنها موسيقى، دون أن تلغي الحواسّ، ترفعها وتخلطها بالروح، في إتحاد يقود الإنسان إلى كيانه الكليّ. وبإقامة هذه العلاقة للحواسّ مع الروح، يؤشر هذا  النموذج من الموسيقى تأشيرًا واضحًا جدا إلى المكان الخاصّ بالإنسان في النظام العامّ للوجود.  ومن جهة أخرى، كان الإغريق يعرفون الموسيقى التي ينسبها أفلاطون إلى مرسياس، والتي، من وجهة نظر التاريخ الثقافيّ، يمكننا أن نصفها بـــ” الديونيسيّة “. وبعكس سابقتها، تأخذ الإنسان كلّه إلى سكر الحواسّ، وتلاشي كلّ عقلانيّة، لكي، في نهاية الأمر، تـــُخضِع الروحَ للحواسّ.

كان أفلاطون (وبنوع أكثر إعتدالا أرسطو) ينسبُ إلى كلّ موسيقى ألات وأنغاما نفسيّة خاصّة، يمكن أن تبدو لنا اليوم هذه الأنساب غريبـــــــــة من نواح ٍ عديدة، وحتى متـــجاوَزَة. إلاّ أنه من المهمّ أن نشاهد أن التناوب بين الموسيقى “الروحيّة” والموسيقى ” الحسيّة “(الشبقيّة) يجتازُ تاريخ الديانة كلّه، ويطرح نفسه علينا مرّة أخرى بنوع واقعيّ جدا.

 ليس من المعقول، يقول البابا، أن يكون لأيّ موسيقى كانت مكانها في العبادة المسيحيّة. لأنّ هذه العبادة تحدّد سلّما للقيم مقياسها هو اللوغوس. وإذا أردنا أن نميّز بين الروح القدس وروح شريرة، فإننا سنعرفُ الأوّل (أي الروح القدس) حسب القديس بولس، بأنه يجعلنا نقول ” يسوع ربّ ! ” ( 1 كورنتوس 12 : 3). فالروح القدس الذي يقودُ إلى اللوغوس يثيرُ موسيقى ترفع القلب ” ارفعوا أفكاركم إلى العُلى ” ! كما يرد في الليتورجيّا المقدّسة. فبعيدًا عن الإنحلال في سُكر ٍ غامض، أو في محض شبق ، فكمالُ الإنسان كلّه يتوقّف على ما يرفعه والذي يكوّن معيار موسيقى بحسب اللوغوس.

يتبع النقطة 3

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير