woman praying CC0 Pixabay

woman praying

إنها مغامرةٌ! جميلٌ أن نغوصَ فيها وندخلُ في سراديبها

الجلقة الحادية عشرة من سلسلة مقالات الحرية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

رينيه ديكارت (1596 – 1650)، فكـــــّر هذا الفيلسوف بالإنسان كما لو كانّ غريبـــــــــًا عن بلده، وشعوره بالغرابة هذه شعورٌ واع ٍ، هذا الوعيُ كلمة مبهمة تعني بالعربيّة ” الإستيقاظ إلى المعرفة “. والإنسان في استيقاظه يشكل جزءًا لا يتجزّأ من هذا العالم، وهو يقف إزاء العالم عند حدود عيه بالوجود، هذه الفكرة كان ابن طفيل قد طرحها بشكل ٍ مشابه في كتابه ” حي بن يقظان” في الأندلس ضمن مجموعة  فلاسفة اسمهم ” اخوان الصفا “.

عندما نتكلّم عن الإيمان أيضا، نرى أنه لا بدّ لنا من اللقاء مع الله . والمغامرة الإيمانيّة تبدأ بكلمة ” الإستيقاظ “، والإنفتاح وإكتشاف ما في أعماقـــنا من تعطّش ودعوة إلى ” التحرّك “. فهو تحرّك يقظ ومنتبه إلى ” الآخر”. فالأخر حاضرٌ دائمًا لا كسوفَ وخسوفَ يعتريان وجوده بالنسبة إلينا.

بهذا الوعي، يكتشفُ الإنسان إمكانيّة العبور ما وراء الحدود، وعبور العالم هذا شيءٌ ممكن لدى الإنسان إذا ما طرحَ أسئلة حول هذا العالم. وهذا التساؤل يتحقّق فيه دائمًا عندما ” يتراجع ” و” يبتعد ” فـــيخلق ” مسافة ” بتساؤله. هذا هو الإنسانُ الواعي، أي إنه فعّال ويشعر، يفكّر ويعرف إنه يفعلُ ذلك، أي يشعر أنه يفكّر، وهو في النهاية يتمكّن من تخيّل الأشياء، وبذلك يبني بين ” الأنا ” وبين بقيّة الأشياء مسافـــــــــة. إذا ما أردتم مثلا نقول : الحيوان يتألم ويرغب ويرى ويتذكّر، لكنّ الحيوان لا يعرف أنه يفعل ذلك، لذا قالَ الفيلسوف (آلأن Alain): ” أن أعرف تعني: أعرف أنني أعرف “.

يشكّل الوعيُ لدى الإنسان الفعل الحقيقيّ المقرّر، ويحدث هذا خلال حياته في هذا العالم، ويساعده ذلك على تحقيق نوع ٍ من الهيمنة على العالم. فالوعيُ قابليّة لدى الإنسان تساعده أن يفكّر ويتصرّف وينفصل بقية العالم، لأنّ الإنسان ليس مجرّد شيء أو قطعة ٍ في هذا العالم مثل باقي الأشياء، وهو ليس أيضا حيّا بين باقي الأحياء، الإنسان ” يقفُ أمام مسرح العالم شاهدًا ومراقِبًا “، وفي هذه المواجهة، يتشكّل العالم بالنسبة إليه كـــــ ” موضوع ” ومعرفة وفهم وحكم وتغيير.

هناك إذن قطيعةٌ مع العالم الآتي. أمّا قدرةُ الوعي هنا فـترفع الإنسان بشكل عظيم فوق جميع أشكال الحياة الأخرى على الأرض، وبذلك يصيرُ الإنسان شخصـــًا (لا مجرّد فرد)، علاقة لا مجرّد ذرّة. وكما يقولُ الفيلسوف عمّانوئيل كانط: الوعي هو ما يجعلُ من الإنسان إنسانا، فالوعي يسمح له أن يندهش، ويتعجّب، ويستغرب، ويتساءل حول نفسه وحول العالم وحول الله. وهذا ما يمكّنه من الوصول إلى في أعماق الأمور كلّها، فيصل إلى منطقة التصوّر التي تحوم حوله، وبذلك يصلُ إلى ما هو أكيد.

إنّ الشيء الأكيد هو كلّ ما يقاوم الشكّ، وهذا ما أراد الفيلسوف ديكارت أن يقدّمه في كتابه ” مقالة في المنهج ” الذي ألّفه في عام 1637، فحين قال: ” أنا أفكّر، فإذن أنا موجود”، كانت غايته أن يبحثَ عن الحقيقة في العلوم بواسطة الشكّ. ونَهَج الشكّ هذا للوصول إلى ما هو أكيد (أو بديهيّ).  فالبحثُ عن المعرفة إذن ليس شيئا سهلا في متناول اليد. فلا تتحقق الحقيقة إلا عندمـــــا لا يبقى  هناكَ شكّ. ديكارت إذن يُوجــــّه شكّه نحو كلّ ما يحيطُ به، فحواسنا تخدع أحيانا كثيرة، والتصوّر الذي تعطينا إيّاه تلك الحواس ليست أكيدة ولا حتى أفكارنا ليست أكيدة. إذن، أنا أخطئ على الدوام، لذلك يجبُ أن أشكّ. وهنا تأتي اللحظة الحاســـــمة، في فلسفة ديكارت وفي شكّه الذي ينتهي عندما يشكّ ديكارت بأنه يُخطئ بخصوص الأشياء المحيطة به كلها، ولكن لا يمكنُ أن يشكّ بأنه يشكّ، أي إنه يفكّر، وبما أنه يُفكّر في شكّه، فهذا يُبرهِنُ على وجوده هو.

إني أعلمُ أنّ هذه الطروحات هي فلسفيّة بعض الشيء، أو هي كذلك حقّا، ولربّما يجدُ من يقرأها صعوبة  في الفهم. صحيحٌ هذا! فهي بحاجة إلى قراءة مرّة ومرتين وأكثر. فهي وبرغم أنها فلسفيّة، لكنّها بمثابة ” رياضة فكريّة ” للدماغ كي يفكّر ويحلّل. ورغم هذا، نحن لا زلنا في صدد كلامنا عن موضوع الحريّة الكبير. كلّ هذه الفقرات وما يليها، هي مدخلٌ إلى فهم الحريّة والحقيقة والمعنى. إنها مغامرةٌ فعلا، لكنها مغامرةٌ جميل أن نغوصَ فيها وندخلُ في سراديبها .

يتبع

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير