Pixabay CC0

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة (36)

رأي كاثوليكي في التنمية البشرية (13)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

من إشكاليات التنمية البشرية: هل تساعد التنمية البشرية Le développement Personnel  في أن نصبح قدّيسين؟؟؟

 المحبة هي التي تقودنا إلى السماء!

لا شكّ أنّ الرياضة ممارسة جيدة جدًا من أجل تنمية الشخصية والحفاظ على توازن صحيّ أفضل. فهي تنمّي العضلات وتحسّن الآداء الجسدي ما ينعكس إيجاباً على الصحّة النفسية أيضًا. ينطبق هذا الأمر نفسه على تقنيات التنمية البشرية المتوّفرة اليوم: تدريب وتقوية الذاكرة، إدارة الوقت، إدارة النزاعات، فنون التواصل، تنمية القدرات الدماغية، تنمية القدرات النفسية وأيضًا قدرات التحكّم في قرارات الآخرين وإقناعهم والسيطرة عليهم، تنمية الموارد المالية، التنظيم الإداري إلخ. مع الإشارة إلى أنّ لا وجود لقدرات لامحدودة للدماغ كما يروّج روّاد التنمية ومدرّبو الحياةLife Coach ، لأنّ الإنسان محدود في طبيعته البشرية. هذا الإدّعاء هو من الخيال العلمي ولا أساس له من الصحّة. إنّ كلّ هذه التقنيات تُشبه ما للرياضة الجسدية من إيجابيات. ولكن هل تنمّي هذه الإيجابيات فضيلة المحبة بمفهومها المسيحي؟ وماهي الأخطار التي قد نواجهها في تقنيات التنمية البشرية؟

سنتكلّم عن شكليْن أساسيَّين ممكنين لانحراف التنمية البشرية.

خطر التمحور حول الذات Le Risque du Selfisme

من انحرافات التنمية البشرية الممكنة، تنمية “الأنا”، الغرور والأنانية، والتمحور حول الذات. وحدها المحبّة قادرة أن تُبعد عن مركزية الأنا والتمحور حول الذات، مع الإعتراف بالحقّ المشروع في تنمية القدرات البشرية. لا شكّ أنّ تنمية القدرات الشخصية، يمكن أن تجعل خدمة المحبة والرحمة أكثر تنظيمًا وفاعلية. لكن في نهاية الأزمنة، سيتمّ الفصل بين شخصيْن، أحدهما اهتمّ بتنمية شخصيته وآخر لم تكن له قدرات بشرية كبيرة إلا أنّه أحبّ كثيراً.  إنّ الراهبة البسيطة التي لم تحضر دورات في البرمجة اللغوية العصبية PNL ، أو في العلاج بحركات بؤبؤ العينEMDR[1] ، أو التحليل التفاعلي Analyse Transactionnelle أو السوفرولوجي Sophrologie، لكنّها عاشت وصيّة المحبة بأمانة طاعةً للمسيح، وكانت خادمة معطاء وغير أنانية، لا شك أنّ لديها قلب أكثر نموًا من المتخرّج في العلوم الإنسانية والذي بقي، ويا للأسف، متمحورًا حول ذاته وأنانيًا. في هذه الحال لا قيمة بتاتاً لشهاداته. هذا لا يعني أن نتخلّى عن العلم والشهادات، لكن أن نعي خطورة الإنتفاخ والتمحور حول الذات. يقول الرسول بولس: “العلم ينفخ ولكن المحبة تبني” (1كو8/ 1).

أغلب المواضيع الأساسية في التنمية البشرية تتمحور حول الذات: تهتمّ بالتعامل مع الإنتقادات الموجّهة نحو الذات، كيف تكون الأنا في حالةٍ إيجابية لتكون أكثر سعادة، تهتمّ بكيفية إدارة المشاعر الذاتية، التعرّف على الأدوار الممكن أن نلعبها في الحياة، إدارة وقتنا، تحفيز وإثبات الذات، تنمية القدرات الذاتية، شفاء الذاكرة الذاتية، مسامحة الذات ومسامحة الآخر، المصالحة مع الماضي الشخصي، التعرّف على الذات، محبّة الذات، … لكنّ محورية الذات تشكّل عائقاً أمام الإتحاد بالله لأنّها تغذّي الأنانية والنرجسية. وهذا ينطبق أيضًا على تقنيات التنمية التأمّلية المستوحاة من ديانات الشرق الأقصى.

يقول الكاردينال “روبير سارا” في كتابه “قوّة الصمت”: “بدون أدنى شكّ، إنّ الصمت يؤدّي إلى الله بشرط أن يكفّ الإنسان عن النظر إلى ذاته. لأنّه في تجربة الصمت يوجد فخّ: النرجسية والأنانية”[2] في التأمّل المسيحي، الصمت يجعلنا في يقظة دائمة لنفهم مشيئة الله، يُخرجنا من ذاتنا إلى ذات الله وإلى الآخرين. في الصمت المسيحي حركة وديناميكية، بحيث أنّ عينيْ الله تصبح أعيننا وقلب الله يُزرع على قلبنا. بالصمت نلج إلى صمت الله الذي يحرقنا ويطهّرنا بلهيب الحبّ. وكلّما أُفرغنا من ذواتنا، يملأنا الله من ذاته، فتلمع وجوهنا في حضرته وتشعّ نورًا كما شعّ وجه موسى عندما خرج من حضرة الله. (خر34/ 29-35). نحن نصمت لنصغي إلى صوت الله ونتعلّم كيف نحبّ. نفرغ ذواتنا لنمتلئ بمحبة الله فتفيض النعمة فينا محبة لله وللعالم.

في وصفه لأهمية التأمّل الصامت، يشير أوغوستين غييوران Augustin Guillerand إلى أنّ مصدر حزننا هو في تأمّلنا لذواتنا، بينما مصدر الفرح هو أن نوجّه أنظارنا نحو الله لنفتكر بالله بدل أن نفتكر بذواتنا. يتبيّن لنا كيف أنّ محورية الذات في تقنيات التنمية البشرية وتأمّل حركات الأنا الداخلية، مصدرٌ أوّلي لتعاستنا. بينما السعادة الحقيقية هي في الخروج من “الأنا” إلى “أنت” الله، لنتأمّل جمال وجهه. “يا ربّ وجهك وحده ألتمس” !

الإختزال الأنتولوجي الوجودي Le Réductionnisme Ontologique  

هذه المقولة يُقصد بها أن تُختزل الأنا في بُعد التنمية البشرية فقط. لهذا السبب تفضّل الكنيسة تعبير الباباوات وتعليم الكنيسة الإجتماعي: التنمية البشرية  المتكاملة Le Développement humain intégral لا تهمل تنمية القدرات البشرية، لكن توضع في إطار المحبة، الخلاص وصليب المسيح. إنّ التنمية البشرية المبالغ فيها تحجّم الإنسان وتجعل منه مجرّدَ آلةٍ تعمل بشكلٍ جيّد أو كائنًا تكنولوجيًا لامعًا روحياً في الظاهر. لكن لا يمكن اختزال الكائن البشري في تنمية بشرية فقط: يلزمه نموٌ متكامل يمرّ حتمًا عبر الصليب![3] إنّ البعد الروحي المسيحي يُعيد موضعة الإنسان ككائنٍ بشريّ مخلوق. إذن ضمن محدودية. لكن نظريات التنمية البشرية لا تأخذ بهذه المحدودية بل على العكس، تتكلّم عن قدرات الإنسان اللامحدودة. هنا يكمن خطر “البلاجية” أي خطر الإعتماد على الجهد البشري وإهمال عمل النعمة والخلاص المجّاني المعطى بالصليب في محاولة لخلق نوع من الكمال الوهمي. هكذا وهو يهتمّ بتنميته الشخصية، يكتفي بذاته ولا يعود بحاجة الى الله وخلاص الصليب. كلّ هذا يلهيه عن التوبة القلبية الضرورية لولوج باب الملكوت والعودة إلى بيت الله الآب بالربّ يسوع المسيح!

الله يدعونا إلى البساطة!

نشير أيضًا إلى أنّ المنظومات المعرفية التي تُدخلنا إليها هذه التقنيات، تتناقض في جوهرها مع البساطة الإنجيلية. في كتابه “حبٌّ وصمت”، كتب “جان باتيست بوريون” Jean Baptiste Porion : “يدعونا الرب نفسه أن نكون ودعاء كالحمام (مت10/ 16). الإنسان الساقط كائنٌ كثير التعقيد ويبدو أنّه يعمل على زيادة تعقيداته حتّى في علاقته مع الله. بينما الله هو البساطة المطلقة. كلّما كنا معقّدين كلّما ابتعدنا عن الله. بينما إذا ازددنا بساطة نستطيع أن نقترب منه”[4] في عالمنا هذا المريض بالضوضاء والمشغول بالخوارزميات الرقمية، فقد الإنسان بساطة الطفولة الروحية لذلك يجد الصمت أمرًا صعبًا للغاية، وكلّما رفض الصمت كلما أراد ان يكون هو نفسه الله!

في صمت تقنيات التنمية التأمّلية، مثلًا “تأمّل الوعي الكامل” Mindfulness ، يبحث الشخص عن ذاته ويسعى للقاء ذاته وليس عن لقاء الآخر الذي هو الله! الله يدعونا للدخول إلى حجرتنا الداخلية – أي إلى قلبنا لنلتقي به في الصمت والبساطة وقمّة هذا اللقاء تتحقّق في حضوره الإفخارستي.

 إنّ “التنمية البشرية المتكاملة” التي هي موضوع الإرشادات البابوية وتعليم الكنيسة الإجتماعي، تتجنّب هذا الإختزال الأنتولوجي، يعني أن تختزل الإنسان في الإنسان. فالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، مدعوّ لأن يتألّه بنعمة المسيح وأن يصير شريكاً في طبيعته الإلهية، بحسب تعبير الرسول بطرس (2بط1/ 4). الإنسان هو أسمى المخلوقات نفخ الله في أنفه نسمة حياة من حياته، خلقه على صورته ومثاله وسلّطه على الخلائق كلّها. إنه كائنٌ مدعوّ لعيش السماويات في شركة الملكوت. حتى إنّه يتذوّق منذ الآن مأكلاً إلهياً تشتهيه الملائكة نفسها وهو جسد ودم الرب يسوع!

صحيح إنّ التنمية البشرية جيّدة، لكن تلك التي تُعطي الإنسان كينونته الكاملة بالمسيح وهويّته كابنٍ لله. إنّ التنمية البشرية المتكاملة ليست ممكنة بدون مرجعية الله الخالق والمخلّص. هكذا فالكائن المخلوق والمحبوب من الله، لا تكتمل بشريته إلّا بقوّة الصليب المحيي.

 لنفكّر بالقدّيسة تريزا بنديكت للصليب، إديت شتاين، اليهودية الأصل، الفيلسوفة المتمكّنة بقوّة واللاهوتية اللامعة، الراهبة الملتصقة بديرها… لقد أسلمت ذاتها للرب وذهبت بملء إرادتها إلى محرقة أوشفيتز.

إنّ حبّها لشعبها، قادها إلى الحبّ الأكبر الذي في المسيح يسوع، مخلّصها وفاديها!

يتبع

لمجد المسيح

[1] EMDR: Eye Movement desensitization and Reprocessing

[2] Cardinal Robert Sarah, La Force du Silence, Ed Fayard, 2016, p104-105

[3] سنتكلم عنه بالتفصيل في المقالة المقبلة  هذا الاخنزال الانتولوجي يتطرّق إليه البابا بندكتس السادس عشر في الإرشاد الرسولي “المحبة في الحقيقة”

[4] المرجع السابق، ص 106

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير