Pixabay CC0 PD

كن صيادا للبشر، اختبار من واقع الحياة

“سأجعلك صياد بشر” (لو٥: ٩)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الذي يريد اكتناه عمق دعوة القديس بطرس الصياد، عليه أن يتأمل مليا في البحر، يراقب الصيادين كيف يمخرونبقواربهم عباب البحر، ليلقوا شباكهم في قعره، من أجل الصيد– رزقة الحياة،،ولا يمكن أبدًا أن يغفل النظرفيالتطلّع الى وجوههم الملفوحة بأشعة الشمس المذهّبة، وعندما ينصت الى اصواتهم (الاصواتالخافتة أحيانا كثيرة)، سيسمع الى بعض حفنات من الكلمات، لأن الفعل أبجدية الكلمات كلّها…فعندهاسيدرك،حقيقة سرّ دعوة القديس بطرس من خلالها سيفهم أهميّة الدعواتفي الكنيسة.

 أقدّم في هذه المقالة المتواضعة إختبارًا متواضعًا لحقيقة اختبرته شخصيًّا يوم كنت في رحلة بحرية، علّ وعسى يساعد في التأمّل بعمق وإيمان في ماهية الدعوة الملقاة على كاهل خدام المذبح والنفوس.

          كنت يوما في نزهة على متن قارب سياحي أقوم بجولة سياحيّة في بحر صيدا الفينيقية وحول جزيرتها التاريخيّة، ولفتني يومها، مشهد القبطان- الصياد،كيف أن الفرح لم يبارح محياه، فأخذني الدهش والعجب، وسألته :” ما هو البحر بالنسبة لك؟”
أجابني والابتسامة مرتسمة على ثغره، وعيناه تنظران دومًا نحو الأفق الواسع البعيد، وقال :” البحر هو موطني، البحر ارضي وحياتي، فيه اجد ذاتي، هنا ارى بوضوح، استمع بصفاء إلى امواج البحر، انا انتمي الى هذا البحر الازرق الوسيع، انتمائي اوسع من اي حدود، هنا ارى حقيقة السعة هنا من على قاربي الصغير الضيّق، أتحدّ ذاتي، هنا ملاذي”.
فقلت له :”إذا ماذا تعني الارض لك؟”
فأجابني :” على الارض، أشعر بضيق في صدري، لا استطيع ان ابقى طويلا عليها دون أن انزل إلى موطني الى ارضي البحر، وإذا لم أقوم بنزهة في قاربي، أشعر كأنني في جحيم من باطون، وزفت، وحديد، وحجارة، البحر اوسع من اي مكان، أنه سعة الأمكنة كلها، هنا أنا، هنا وجودي”.

ثم عدت وسألته حول الصيد :” ما هي الشروط الأساسيّة ليكون الصياد صيادًا ماهرًا؟ “

أجابي: ” عليه أن يكون أولاً وآخرًا، قبطانًا جيدًّا، يجيد فن قيادة المركب، يعرف بالتمام أين توجد الأسماك، ويفطن لأحوال الطقس ولتقلباته، وأن يحب المغامرة، ولا يخاف المصاعب، إنه رجل التحديات، من المميزات الأساسية للصياد، أن يتحلى بالصبر “وطولة البال” وإذا يومًا ما فاجأته عاصفة، عليه أن يعرف كيفية التصرّف بشكل فطن ومسؤول وواع، الصياد ثمرة القيادة الناجحة”.

وعندما انتهينا من الرحلة ،عدت الى غرفتي، أتأمل في كلام الرجل القبطان- الصياد، واضعًا أمام ناظري حقيقة وعظمة دعوة يسوع إلى الصياد بطرس، رأس الرسل، وفهمت من خلال الصياد والابحار، هوية بطرس القديمة: صياد السمك، لتتحوّل فيما بعد وتنتقل تدرّجيًا، من عالم الأمواج والبحار والأسماك والصيد، والإبحار على القوارب “معا”،الى عالم صيد البشر، وذلك في امواج التغيرات والتحولات الإنسانية، في هيجان القلوب وخفقانها المضطرب، في عواصف الفكر والتناحرات، في هدير بحر اللامعنى واللامبالاة، دعوةعملها اصطياد النفوس الثكلى التي لفظتها ثقافة الإستهلاك والإباحية والعنف، على شواطئ الكره والأحقاد والحروب،فتضعها الدعوةمن جديد، في اوقيانوس محبة الرب، حيث هناك تجد عمق الرأفة والحنان والشفاء؛ وضمن هذا السياق يقول القديس أفرام السرياني فيما معناه :” هناك على شاطئ جرن المعمودية، يقف الصياد، فبعدما كان بطرس يصطاد السمك حيّا من عمق البحر، فيموت على الشاطئ، هنا  الكاهن على جرن المعمودية يصطاد النفس من موت العالم، ليعيدها من جديد وتحيا في حياة المسيح”.

نعم، ليست الدعوة تهرب من مسؤولية الحياة، بل هي تدخل في صلب تلك المسؤولية الخلاصية، إنها المشاركة مع البابا خلفية القديس بطرس، في خوض غمار بحر العالم المتقلّب، فكل مدعو هو علامة حسيّة- أسراريّة للقديس”بطرس”، فبفضل الدعوة يصير صياداَ للناس، فحياة المدعو، ومداه وانتماؤه وأرضه وسعته وراحته، وهويته تشبه اختبار ذاك البحار القبطان الصياد، الذي روى لنا اختباره مع البحر – ارضه/ موطنه.

 فلا يمكن أن تكون صيادًا للناس، إذا لم تجد وتسعى الى تعلّم فن الإبحار، أي قيادة النفوس بحسب الأصول. أن تكون قبطانًا عليك أن تساعد الأشخاص في حلّ أزماتهم، مهما كان نوعها وطبيعتها وتحدياتها، فكل صياد هو بالأصل بحارًا- قبطاناً…

يبقى الوطن الحقيقي للمدعو إلى خدمة النفوس، هو دومًاالعالم، حيث هناكسيجد نفوسًا تنتظره بفارغ الصبر، تنتظر شبكة المحبة، لتُجمع وتُلقي مجددًا في رحمة الله بعدما أضناها ألم العزلة.

حيث هناك الكنيسة- قارب النجاة، هناك يكون ربانها يسوع القبطان الإلهي، ونجمتها مريم، وهناك لا محال سيجد كل إنسان البركة الحاضرة على شاطئ حياته،والتي لا يزاليتردد صدى كلماتها في كل الأجيال:” ألقوا شباككم للصيد” (لو5: 4)، “فألقوا، ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك” (يو21: 6). ” فناولوه قطعة من سمك مشويّ، وشيئًا من شهد عسل” (لو24: 42)، وهنابالتحديد، ما يستطيع التلميذ أن يقدمه الى الرب، جهده وتعبه وفرحه وسعادته في خلاص النفوس، إنها العطية المجانية الممنوحة من الله مصدر كل عطية صالحة (ر.ا، يهو 1: 17). آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الخوري جان بول الخوري

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير