La Vierge de Fatima, sanctuaire de Fatima (Portugal)

كيف نقرأ ظهورات فاطيما بطريقة لاهوتية؟

“سيكون لكم في العالم ضيق. ولكن ثقوا: أنا غلبتُ العالم”

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry
مقدّمة
الظهورات والآيات الفائقة الطبيعة، موجودة على مدى التاريخ البشري. هذه الظهورات هدفها التركيز على الموضوع الأساس في بشارة المسيح: “محبّة الآب التي تحضّ الناس على التوبة”. وظهورات العذراء في فاطيما هي في هذا الإتّجاه. إنّه بدون شكّ ظهورٌ نبويّ (يحضّ الناس على التوبة) أكثر من جميع الظهورات المُعاصرة.
هذا الظهور الذي نحن بصدده، ينقسم إلى أسرارٍ ثلاث: الأوّل والثاني يتعلّقان برؤيا جهنَّم المخيفة، والعبادة لقلب مريم البريء من دنس الخطيئة، والحرب العالميّة الثانية، والأضرار التي تسبَّبَت بها روسيا بحقّ الإنسانية عندما أنكرت الإيمان واعتنقت الشيوعيّة.
أمّا القسم الثالث أو السرّ الثالث فبقي محفوظًا ومختومًا، إلى أن طلب يوحنّا بولس الثاني المغلَّف الذي يحوي هذا السرّ، وذلك بعد الاعتداء عليه في ١٣ أيّار ١٩٨١، وعلى ضوء ما قرأه قداسة البابا في مضمون السرّ، قرَّر حالاً تكريس العالم لقلب مريم البريء من الدَّنَس.
في ٢٥ آذار سنة ١٩٨٤، قرَّر البابا يوحنا بولس الثاني أن يوضح فعل التكريس الذي قام به سنة ١٩٨١، ومن مضمون صلاة التكريس يمكننا أن نستشفّ إمكانيّة ما يحتويه السرّ الثالث:
“لذلك، يا أمّ الناس والشعوب، أنتِ يا من تعرفين كلّ آلامَهم وآمالهم، أنتِ يا من تشعرين بصورة أموميّة بكلّ الصراعات بين الخير والشرّ، بين النّور والظلمات التي تهزّ العالم المُعاصر… ونحن في قلقٍ شديد على مصير النّاس والشعوب الزمنيّ والأبديّ…
أيّها القلب البريء من الدّنَس! ساعدنا لنغلب تهديدات الشرّ الذي يتأصّل اليوم بسهولة في قلوب النّاس، ويُلقي بثقله على الحياة الحاضرة بنتائجه التي لا يمكن حصرها، حتّى ليكاد يقطع السبيل صوب المستقبل!
من الجوع ومن الحرب، نجّينا!” .
وقد أكّدت الأخت لوسيّا (الشاهدة على الظهورات) أنّ فعل التكريس هذا هو مطابق تمامًا لما كانت تريده العذراء.
لذلك، فكلّ جدال، يبقى دون أساس.
في حديثنا سنتوقّف على الأمور التالية:
• القسم الثالث من السرّ كما شرحته الأخت لوسيّا في رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثاني في ١٢ أيّار ١٩٨٢
• إختصار ما يحتويه القسم الأوّل والقسم الثاني من السرّ
• مضمون القسم الثالث من السرّ
• الشرح اللاّهوتيّ بحسب الكاردينال جوزف راتزينغر (البابا بينيدكتس السادس عشر) رئيس مجمع العقيدة والإيمان حينها
١- القسم الثالث من السرّ كما شرحته الأخت لوسيّا في رسالة إلى البابا يوحنا بولس الثاني في ١٢ أيّار ١٩٨٢
القسم الثالث من السرّ تقول، يشير إلى كلمات سيّدتنا: “وإلاّ فروسيا (الشيوعيّة) ستنشر أضاليلها عبر العالم، مشجعةً على الحروب والاضطّهادات ضدّ الكنيسة. سيُستَشهَد الصُلاّح، والأب الأقدس سيتألّم كثيرًا، وأمم عديدة ستُدمَّر”.
بحسب الأخت لوسيّا هذا القسم هو رمزيّ، وهو مشروط بقبول أو رفض مطالب العذراء: “إذا قُبلَت مطالبي، فستهتدي روسيّا، ويحلّ السلام، وإلاّ فهي ستنشر أضاليلها عبر العالم…”
ولأنّنا لم نقبل مطالب العذراء، فإنّ روسيّا نشرت أضاليلها. وإن لم يتحقّق هذا القسم بالكامل، إلاّ أنّنا نسير نحوه بخطى ثابتة، إن لم نمتنع عن طريق الخطيئة والعنف وانتهاك كرامة الإنسان والشخص البشريّ.
لا نتحجّج ونقول كيف أنّ الله محبّة وهو يقاصصنا بهذه القساوة. فالإنسان يهيّء قصاصه بنفسه. أمّا الربّ فيشجعنا لنسير على الطريق الصحيح ولكنّه يحترم حريّتنا التي وهبنا إيّاها إلى أبعد حدود. “إنّ عمل الله، سيّد التاريخ، وتجاوب الإنسان بحريّته المأساويّة والخصبة معًا، هما المحوران اللّذان عليهما يُبنى تاريخ الإنسانيّة”.
 ٢- إختصار ما يحتويه القسم الأوّل والقسم الثاني من السرّ
أرى أنّي أستطيع أن أبوح بالقسمين الأوّلين من السرّ، لأنّ السماء سمحت لي بذلك، والذين يمثّلون الله على الأرض قد أذِنوا لي به.
يتضمّن السرّ ثلاثة أمور مختلفة، سأكشف منها أمرين:
أ- الأمر الأوّل هو رؤيا جهنَّم. “أظهرت لنا سيّدتنا بحرًا كبيرًا من نار، وكأنّه تحت الأرض، وفي هذه النّار يغوص الشياطين والنّفوس، وكأنّهم مجرّاتٍ شفّافة، سوداء لمّاعة، في شكلٍ بشريّ. كانوا يعومون فوق النّار، محمولين باللّهيب المتدفّق منهم، مع سُحُب دخان. ثمّ يتساقطون مثل شراراتٍ في وسط حريقة واسعة المدى بدون ثقلٍ وبدون اتّزان، مع صراخ وتنهّدات من ألم ويأسٍ مخيفة ومرجِّفة من شدّة الهول. ولكنّ الشياطين مميَّزون بأشكالهم المُرعبة والباعثة إلى الاشمئزاز، في أشكال حيواناتٍ مروِّعة وغير مألوفة، ولكنّها شفّافة وسوداء”.
ب- الأمر الثاني، وبعد هذه الرؤيا، رفعنا أعيننا إلى سيّدتنا –والكلام للأخت لوسيّا- فقالت لنا بطيبةٍ وحزن: “لقد رأيتم جهنَّم حيث تذهب نفوس الخطأة المساكين. ولكي يخلِّصها، يريد الله أن يقيم في العالم العبادة لقلبي البريء من الدّنس. فإذا عمل الناس بما سأقوله لكم، تخلص نفوس كثيرة، ويكون السلام. وتنتهي الحرب. ولكن إذا ما برح الناس يهينون الله، في أثناء حبريّة بيّوس الحادي عشر، فسوف تبدأ حرب أشدّ منها بكثير. وعندما سترون اللّيل مشعًّا بنور غير مألوف، إعلموا أنّها العلامة الكُبرى التي يُعطيكم الله إيّاها، على أنّه سيقاصص العالم على جرائمه بواسطة الحرب والجوع والاضطّهاد ضدّ الكنيسة والأب الأقدس. ولكي أمنع تلك الحرب، سآتي وأطلب تكريس روسيّا لقلبي البريء من الدَّنَس، والمناولة التعويضيّة في كلِّ أوّل سبتٍ من الشهر. فإذا قبل الناس مطالبي هذه، فسوف تهتدي روسيّا، ويحلّ السلام. وإلاّ فهي ستنشر أضاليلها عبر العالم مثيرةً حروبًا واضطّهادات ضدّ الكنيسة. سيُستَشهد الصُلاّح، والأب الأقدس سيتألّم كثيرًا، وأمم عديدة ستُدمَّر. وفي النهاية سينتصر قلبي البريء من الدَّنَس. والأب الأقدس سيُكرِّس لي روسيّا التي ستهتدي، فيوهَبُ العالم وقتًا من السلام”.
 ٣- مضمون القسم الثالث من السرّ
أُوحيَ بهذا القسم من السرّ في ١٣ تمّوز ١٩١٧، وقد أفشَت الأخت لوسيّا بهذا القسم طاعةً للربّ الذي أمرها بذلك من خلال الأسقف، وطاعةً للسيّدة العذراء كما تقول. ماذا يتضمّن هذا القسم؟ تقول:
“بعد القسمين اللذين سبقتُ فعرضتُهُما، رأينا إلى جانب سيّدتِنا الأيسر، وقليلاً نحو الأعلى، ملاكًا يحمل بيده اليُسرى سيفًا من نار، وكان هذا السيف يلمع ويُرسل شُهُب نار مُعدّة، على ما يبدو، لتُحرق العالم، ولكنّها كانت تنطفئ لدى ملامستِها البهاء الذي كان ينبعث من يدِ سيّدتنا اليُمنى في اتّجاه الملاك. والملاك الذي كان يشير بيده اليُمنى إلى الأرض، قال بصوتٍ قويّ: توبوا! توبوا! توبوا! ورأينا في نورٍ عظيم، من هو الله: أشبهُ بما يَرى فيه الأشخاص أنفسَهُم في مرآةٍ عندما يمرّون من أمامها، أسقفًا لابسًا ثوبًا أبيض، وقد أحسَسنا مسبقًا بأنّه الأب الأقدس. ورأينا أساقفة آخرين عديدين، وكهنة ورهبانًا وراهبات صاعدين إلى جبلٍ وعرٍ، وفي قمَّتهِ كان ينتصب صليب كبير من جذعين خشِنَتَين وكأنّ قشرَتَهُما من سنديان ونخيل. فالأب الأقدس، قبل أن يصل، جاز في وسطِ مدينةٍ كبيرة، نصفها مدمَّر، وفيما كان يرتجف ويمشي بخطى مترجرجة، وهو مقتَّمٌ من الألم والتعب، كان يصلّي من أجل نفوس الجثث التي كان يصادفُها على طريقه. ولمّا وصل إلى قمّة الجبل، وسجد على ركبتيه عند اقدام الصليب الكبير، قتله رَهطٌ من الجنود أطلقوا عليه عدّة طلقات من سلاحٍ ناريّ وأسهُم. وبالطريقة عينِها مات الواحد بعد الآخر الأساقفة الآخرون والكهنة والرّهبان والراهبات وكثيرون علمانيّون، رجالٌ ونساء، من مختلف فئات المجتمع، وتحت ذراعي الصليب، كان ملاكان يحملان كلُّ واحدٍ منهما بيده مرشّةً من بلَّور، فيها كانا يجمعان دماء الشهداء، ومنها كانا يسقيان النفوس التي كانت تدنو من الله”.
 ٤- الشرح اللاّهوتيّ بحسب الكاردينال جوزف راتزينغر (البابا بينيدكتس السادس عشر) رئيس مجمع العقيدة والإيمان حينها
بدايةً، وبالرغم من كلّ ما قيل عن القسم الثالث لسرّ فاطيما، فإنّ هذا القسم الذي نُشر كاملاً بأمر من الأب الأقدس، لم يوحِ بأيّ سرّ عظيم، ولم يكشف شيء عن المستقبل. ونرى العذراء قد تحدّثت بلغةٍ رمزيّة يصعب فهمها. فهل هذا ما أرادت العذراء أن تنقله إلى المسيحيّة وإلى الإنسانيّة، في زمنٍ مليء بالمشاكل الكبرى؟ وماذا يفيدنا ذلك مع بداية الألفيّة الجديدة؟ وهل يُعقل أن تكون مجرَّد تصوّرات أطفال تعكس لنا عالمهم الداخلي، وقد ترعرعوا في بيئة من التقوى العميقة، ولكنّهم كانوا في الوقت نفسه مضطّربين بالعذاب الذي يهدّدُ عصرهم؟
كيف ينبغي إذًا أن نفهم هذه الرؤيا، وما يجب أن يكون رأيُنا فيها؟
أ- لاهوت الوحي العام والإيحاءات الفرديّة
يجدر بنا بدايةً أن نفهم كيف يجب أن نقرأ ظاهرات مثل ظاهرة فاطيما، بحسب عقيدة الكنيسة. فالتعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة يميّز بين “الوحي العامّ” و”الإيحاءات الفرديّة”، حيث أنّ بين الإثنين فرقٌ في الجوهر لا في الشكل فقط.
الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، هو ما يُسمّى ب “الوحي العامّ”، لأنّ من خلاله قد عرّف الله بذاته تدريجيًّا للبشر: الأنبياء ومن ثمّ تجسّد الابن… ليوحّد العالم به من خلاله. وذلك ليس تصرّفًا عقليًّا بل تصرّف حيويّ بامتياز، بحيث أنّ الله تجسّد ولبس بشريّتنا ليصير قريبًا منّا. لكن بالرغم من أنّه تصرّف حيويّ، إلاّ أنّه يهمّ العقل أيضًا، فنحن بحاجة إلى العقل لنفهم سرّ الله. فتصرّف الله وعمله في التاريخ يهمّ الإنسان بكليّته، إذًا يهمّ أيضًا عقله، ولكن لا العقل وحده. ولأنّ الله واحد، فالتاريخ الذي عاشه مع الإنسان هو أيضًا واحد (بالرغم من وجود عهدين: قديم وجديد، إلاّ أنّ تاريخ الله مع البشر هو تاريخ واحد) وصل إلى كماله بموت وقيامة يسوع. في المسيح قال الله كلّ شيء، وكشف عن ذاته بشكلٍ كامل. بهذا المعنى يقول يوحنا الصليبي: “لقد أعطانا الله ابنه، الذي هو كلمته، فلم يعُد لديه كلمة أخرى يعطينا إيّاها. قال لنا كلّ شيء معًا دُفعةً واحدة في هذه الكلمة الواحدة…، لأنّ ما كان يقوله مجزّأً للأنبياء، قاله كلّه كاملاً في ابنه…”.
من هنا يمكننا أن نقول والكلام للكردينال جوزف راتزينغر: “كلّ من يريد الآن أن يسأل الله، او يرغب في الحصول على رؤيا أو على وحي، لا يرتكب جنونًا فحسب، بل هو يهين الله…”.
بالتالي فإنّ وحي الله الموجّه إلى الإنسان قد اكتمل مع المسيح، وذلك في البيبليا التي تتضمّن هذا الوحي وتفسّره. هل هذا يعني أنّه محكوم على الكنيسة أن تبقى أسيرة الماضي وأن تبقى في دوّامةٍ عقيمة؟
يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة في الفقرة ٦٦ منه: “ولو أنّ الوحي قد اكتمل، فهو لم يتّضح كليًّا، ويبقى على الإيمان المسيحيّ أن يُدرك تدريجيًّا مغزاه على مرّ الأجيال”. هذه الديناميكيّة بين الوحي ومحاولة فهمه، قد عبّر عنها يسوع نفسه عندما ودّع تلاميذه، فقال: “لديّ أمور كثيرة أيضًا أقولها لكم، ولكنّكم لا تقدرون الآن أن تحتملونها. ومتى جاء الروح الحقّ فهو يقود خطاكم في الحقّ كلّه، لأنّه لا يأتيكم بشيء من عنده… وهو سوف يمجّدُني، لأنّه سيأخذ مّما لي ليُنبئكم به” (يوحنا ١٦: ١٢-١٤).
فالروح القدس إذًا هو القائد الذي ينهل من كنز يسوع ليُظهر كنزه الخفيّ للكنيسة (المؤمنين). والقدّيس غريغوريوس الكبير وعلى خطاه المجمع الفاتيكاني الثاني يذكران ثلاث طرق أساسيّة ليتحقّق هذا العمل القياديّ للروح في المؤمنين:
– بواسطة التأمّل والدّرس
– بواسطة الفهم العميق الناتج عن الإختبار الروحيّ
– بواسطة تبشير أولئك الذين بالتسلسل في الأسقفيّة، نالوا موهبة الحقيقة.
في هذا الإطار يُصبح بإمكاننا أن نفهم “الوحي الفرديّ”، حيث ينبغي أن نضع رسالة فاطيما (وهي وحيٌ فرديّ…). وأبدأ بما تعلّمه الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا الصدد في الفقرة ٦٧:
“على مرّ الأجيال، كانت إيحاءات تُدعى فرديّة، وبعضها أقرَّت به سلطة الكنيسة… ليس دروها (هذه الإيحاءات)… في أن تُكمِّل وحي المسيح النهائيّ (وحي المسيح ليس ناقصًا لتكمّله)، بل في أن تُساعد على العيش منه بصورةٍ أكمَل في حقبة معيّنة من التاريخ” (الإيحاء الفرديّ يفسّر ما يريده الله في هذه الحقبة لننهل منه كمؤمنين فنحيا).
من هذا التعليم نستنتج أنّ الوحي الفرديّ هو مساعد للإيمان، ويكون قابلاً للتصديق لأنّه يُعيدنا إلى الوحي العامّ والنهائيّ. بالتالي، كلّ وحيٍ فرديّ يتعارض مع الوحي العام أي البيبليا، فهو مرفوض من الأساس.
واللاّهوتي الفلمندي دانيس، وهو العالم والخبير في موضوع الإيحاءات الفرديّة، يؤكّد أنّ مصادقة الكنيسة على أيّ وحيٍ فرديّ يرتكز على عنصرين اثنين:
أن لا تحوي رسالته شيئًا يناقض الإيمان والأخلاق الحسنة من جهة، وأن يكون نشره شرعيًّا بإذنٍ من الكنيسة من جهةٍ أخرى. المقياس إذًا لصحّة الوحي الفرديّ، إنّما هو توجيهه نحو المسيح نفسه. أمّا عندما يُبعدنا عنه أو عندما يدّعي أنّه يمنح خلاصًا آخر وأفضل وأهمّ من الإنجيل، فحينئذٍ لا يكون من الروح القدس الذي يقودنا داخل الإنجيل لا خارجًا عنه. كما على الوحي الفرديّ أن يكون غذاءً للإيمان والرجاء والمحبّة.
بعد أن استعرضنا ما ليس بوحيٍ فرديّ، أنتقل معكم إلى تحديداتٍ إيجابيّة للوحي الفرديّ، وذلك بالعودة إلى أقدم رسالة حُفظت لنا للقدّيس بولس: الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي: “لا تطفئوا الروح. لاتحتقروا النبوءات. بل اقتحموا كلّ شيء وتمسّكوا بما هو حسَن” (١ تسالونيكي ٥: ١٩-٢١).
علينا إذًا ألاّ نحتقر النبوءات بل أن نفحصحها على ضوء الوحي العامّ. وعلينا أن نُدرك، أنّ النبوءة في معناها البيبليّ لا تعني الإنباء بالمستقبل، بل شرح إرادة الله في الزمن الحاضر، وإظهار الطريق المستقيم نحو المستقبل. بالتالي فالكلمة النبويّة هي إمّا إنذارٌ إمّا تعزية أو الإثنان معًا. في هذا الإطار نضع ظهورات العذراء في فاطيما.
-ب- شرح سرّ فاطيما بحسب الكاردينال جوزف راتزينغر (البابا بينيدكتس السادس عشر)
في القسمين الأوّل والثاني من سرّ فاطيما، سأُلقي الضوء على النقطة الأهمّ والأساس دون الوقوع في الترداد لأنّه سبق وتمّ شرحهما في كتاباتٍ عديدة: يركّزان القسمان الأوّلان أنّ الأطفال قاموا باختبار رؤيا جهنَّم، ورأوا نفوس الخطأة تسقط. من ثمّ قالت لهم العذراء لماذا قاموا بهذا الاختبار: “ليبيّنوا للخطأة طريق الخلاص”ما هو هذا الطريق؟ “إنّه العبادة لقلبي البريء من دنس الخطيئة”.
والقلب البريء من الدّنس بحسب إنجيل متّى ٥: ٨ هو القلب الذي حقّق الوحدة الداخلية: “طوبى لأطهار القلوب فإنّهم يشاهدون الله”، أي الذين لا ينشطر قلبهم بين ما هو لله وما هو للعالم (لذلك فالأطفال هم الذين يشاهدون هكذا إيحاءاتٍ فرديّة…). إذًا من أراد أن يقترب من الله عليه أن يتعبّد لقلب مريم، فهي التي توجّهه صوب ابنها. ومن أراد أن يعترض على ذلك بقوله أن لا وسيط بيننا وبين الله سوى يسوع الوسيط الوحيد، سأجيبه من خلال بولس الرسول: “فأحثُّكُم إذًا أن تقتدوا بي”
(١ كورنتس ٤: ١٦) “إقتدوا بي كلُّكُم معًا، أيُّها الإخوة، واجعلوا نُصبَ أعيُنِكُم أولئك الذين يسيرون على ما لكم فينا من قدوة” (فيليبي ٣: ١٧). وهل يكون لدى بولس ما هو أفضل من أمّ الله؟!.
على هذا الأساس يمكننا أن نشرح ونفهم القسم الثالث من السرّ. أنطلق من قول للأخت لوسيّا الشاهدة بعد أن لاحظت أنّها قد نالت الرؤيا دون شرحها، فقالت: “فالشرح، ليس هو من شأن الرائي، بل من شأن الكنيسة” وبعد أن شرحته الكنيسة قالت: “هذا الشرح يُطابق ما اختبرته…”.
ما استفضنا في شرحه طيلة الوقت، ليس إلاّ تمهيدًا سيُساعدنا على فهم ما سيقوله رئيس مجمع العقيدة والإيمان آنذاك في سياق شرحه للقسم الثالث. ننطلق في شرحنا من الكلمة المفتاح في القسمين الأوّلين، ألا وهي “خلاص النفوس”، أمّا الكلمة المفتاح للقسم الثالث ليست ببعيدة بمعناها عن الأولى، وهي “توبوا! توبوا! توبوا!” بالتالي من الكلمة المفتاح يمكننا أن نحدّد ما هو هدف وغاية هذا القسم (الهدف ليس الخوف والرعب إنّما الحثّ على التوبة…). ويستعيد راتزينغر حديثًا دار بينه وبين الأخت لوسيّا حيث قالت له: “يتضّح لي كلّ يوم أكثر فأكثر أنّ الغاية من كلّ الظهورات كان النموّ دومًا وأكثر فأكثر في الإيمان والرجاء والمحبّة. وكلّ الباقي لا يعني إلاّ البلوغ إلى هنا”.
ماذا تقول الكنيسة عن شرح الصور التي كشفتها العذراء للأطفال في فاطيما؟
– الملاك مع سيف من نار، إلى يسار أمّ الله، يذكّر بصورة مشابهة في سفر الرؤيا. فهو يرمز إلى التهديد بالدينونة التي ترفرف فوق العالم. ورؤيا أنّ العالم سيبتلعه بحرٌ من لهيب، لم تعُد صورة خياليّة بنظر راتزينغر، فالإنسان نفسه بحسب قوله، قد هيّأ باختراعاته لنفسه سيفًا من نار. وتتابع الرؤيا فتقول، أنّ بهاء مريم هو القدرة التي ستتصدّى لهذه القوّة المدمّرة شرط أن نتوب. ماذا تستنتج الكنيسة من هذه الدعوة إلى التوبة؟ تستنتج أنّ المستقبل ليس محدّدًا بصورة قدريّة لا تتغيّر. والصورة التي رآها الأطفال ليست فيلمًا مسبقًا عن المستقبل، لا يمكن تغيير أيّ شيء منه. على العكس، كلّ ذلك ليفهم الإنسان المنغمس في الخطيئة أنّه إذا أراد أن يغيّر هذا الواقع، عليه بالتوبة. بالتالي –والكلام لراتزينغر- كلّ شرح “قدَريّ” للسرّ (حتميّ) هو مضلِّل ومرفوض من أساسه. كالذي يقول مثلاً أنّ الإعتداء على قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في ١٣ أيّار ١٩٨١ هو تصميم إلهيّ محتوم، وسيّرته العناية الإلهيّة، بالتالي “علي أقجا” لم يكن حرًّا في فعلته.
– صورة ثانية كشفتها العذراء في الرؤيا للأطفال، هي مكان الحدث. وهذا المكان عبّرت عنه الرؤيا برموزٍ ثلاث: الجبل الوَعِر، المدينة الكبيرة التي نصفها مدمَّر، وأخيرًا الصليب الكبير المصنوع من جذوع أشجارٍ خشنة. ماذا تعني هذه الرموز؟ فالجبل والمدينة يرمزان إلى مكان التاريخ البشريّ. فالتاريخ هو الزمن الذي يعيش فيه الإنسان، وهو صعود مضنٍ ومُتعب صوب الأعالي. والصليب هو نهاية التاريخ، وهو الذي يحوّل الدّمار والموت إلى خلاص.
– صورة ثالثة، حيث يظهر شخصان بشريّان: الأسقف اللاّبس ثوبًا أبيض (تقول لوسيّا أنّنا أحسَسنا مُسبقًا أنّه الأب الأقدس)، ثمّ اساقفة آخرون وكهنة، ورهبان وراهبات وأخيرًا رجالاً ونساء من كلّ الطبقات الإجتماعيّة. ويبدو البابا في الطليعة مرتجفًا ومتألّمًا بسبب كلّ المصائب المحيطة به. وليست البيوت في المدينة نصفها مدمَّر وحسب، بل هو يسير بين الجثث. كلّ هذه الصورة هي وصفٌ لمسيرة الكنيسة التي هي مسيرة درب صليب. وتقول الكنيسة هذه المسيرة تختصر قرنًا كاملاً (القرن العشرون) سارته الكنيسة (حرب عالميّة أولى وثانية وحروب متعدّدة…). في هذه المسيرة يقوم البابا بدورٍ خاصّ. هذه المسيرة سارها بابوات عديدون من بيوس العاشر إلى يوحنا بولس الثاني، حيث بذلوا جهدًا كبيرًا في وسط هذه الآلام، حتى يصلوا إلى الصليب وبالتالي للخلاص. ويوحنا بولس الثاني نفسه يقول بعد محاولة اغتياله في ١٣ أيّار ١٩٨١: “هي يدُ أمٍّ قد وجَّهَت مسار الرصاصة، فأوقفت البابا المنازع (نسبةً لألفاظ الرؤيا في فاطيما) على عتبة الموت”. هذا الكلام لقداسته يؤكّد مرّةً أخرى أنّه وبالرغم من قول مريم في القسم الثالث أنّ من يلبس الثوب الأبيض سيموت، فإنّ المصير ليس محتومًا، بل الإيمان والصلاة هما أقوى من الرصاص والانقسامات.
– أمّا خاتمة القسم الثالث من السرّ، هو رؤية معزيّة، وأرادت أن تُظهر أنّ تاريخ الدمّ والدموع ستخترقه قوّة الله الشافية، فتقول الرؤيا: “هناك ملائكة يجمعون تحت ذراعَي الصليب دم الشهداء، ويسقون منه النفوس التي تدنو من الله”. هؤلاء الذين استشهدوا آلامهم متضامنة مع آلام المسيح. بالتالي، فكما وُلدَت الكنيسة من موت المسيح، من جنبه المفتوح، كذلك موت الشهداء سيأتي بثمرٍ لحياة الكنيسة في المستقبل. فالقسم الثالث الذي يبدأ بألمٍ، هو ينتهي بصورة ملؤها الرجاء: لأنّه ما من ألمٍ يكون عبثًا، إن عرف صاحبه أن يثق بحبّ الله الذي يستخرج منه حياةً لصاحبه وللكنيسة.
هنا نصل إلى سؤال أخير: بعد شرح كلّ صورة في القسم الثالث على حدة، ماذا يعني هذا السرّ بمجمله؟
طبعًا وباختصارٍ شديد، أستند في هذا الشرح إلى ما قاله الكردينال سودانو: “الأوضاع التي يشير إليها القسم الثالث من “سرّ” فاطيما، تبدو الآن في نطاق الماضي”. إذًا كلّ الذين راهنوا على هذه الرؤيا ليحدّدوا ويتحدّثوا عن نهاية العالم ومجرى التاريخ في المستقبل وما يتضمّنه من أحداثٍ مأساويّة ومخيفة، للأسف قد باؤوا بالفشل. ما أرادته مريم في الأقسام الثلاثة من “سرّ فاطيما” هو واضحٌ تمامًا: الحثّ والتشجيع على الصلاة كطريقٍ وحيد لخلاص النفوس، وفي المعنى نفسه، تحمل هذه الأقسام نداءً إلى التوبة والاهتداء!
وأختم حديثي بكلامٍ لقداسة البابا بينيدكتس السادس عشر، والكلام لقداسته حرفيًّا: “تقول العذراء في سرّ فاطيما: سينتصر قلبي البريء من الدنس. وماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ القلب المنفتح على الله، المطهَّر بالتأمّل في الله، هو أقوى من البندقيّة ومن السلاح أيًّا كان. إنّ “نَعَم” مريم، تلك الكلمة الصادرة من قلبها، قد غيَّرَت تاريخ العالم، لأنّها أدخَلَت المخلِّص إلى العالم. فالله، بفضلِ “نَعَم” مريم، أَمكَنه أن يصير إنسانًا في عالمنا، ومذّاك هو باقٍ هكذا إلى الأبد. للشرّير سلطانٌ على العالم، ونحن نرى ذلك ونختبره في صورة متواصلة، له السلطان لأنّ حريَّتَنا تستسلم في صورة متواصلة وتنحرف عن الله. ولكن، قد أصبح الله له قلبُ إنسان، وبالفعل نفسه وجَّه حريّة الإنسان نحو الله، فالحريّة المتوجّهة صوب الشرّ  لم يعُد لها الكلمة الأخيرة. ومنذئذٍ أصبحت هذه الكلمات نافذة ورسالة فاطيما تدعونا أن نثق بهذا الوعد الذي وعدنا به يسوع: “سيكون لكم في العالم ضيق. ولكن ثقوا: أنا غلبتُ العالم” (يوحنا ١٦: ٣٣)
Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الخوري أنطوان القزي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير