CC0- Pixabay creative commons

هل تساعد التنمية البشرية في أن نصبح قدّيسين؟

 العلم المغبوط، علم الصليب

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

من إشكاليات التنمية البشرية : هل تساعد التنمية البشريةLe développement Personnel  في أن نصبح قدّيسين؟؟؟

 العلم المغبوط، علم الصليب !

عندما سأل الربّ تلاميذه: “مَن يقول الناس أنّي أنا ابن الإنسان؟” أجاب سمعان بطرس وقال:” أنت هو المسيح ابن الله الحي!” فأثنى عليه السيد وقال له: “طوبى لك يا سمعان بن يونا، إنّ لحماً ودماً لم يعلن لك هذا لكن أبي الذي في السماوات”(مت16/ 16-17)

لكن فيما بعد، عندما كشف الربّ لتلاميذه أنّه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألّم كثيرًا ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم، عارضه بطرس بشدّة وقال له: “حاشاك يا ربّ لا يكن لك هذا !” فانتهره المسيح وقال له :” اذهب عني يا شيطان! أنت معثرة لي لأنّك لا تهتمّ بما لله لكن بما للناس !” (مت16/ 22-23)

إذاً معرفة الله لا تكتمل إلا بمعرفة المسيح المصلوب وحمل الصليب واتباعه وإلاّ بقيت معرفتنا معرفةً منقوصة غير مخلِّصة، معرفة بشرية عالمية دهرية وليست بوحي من الله. يعني أنّه لا يمكننا معرفة المسيح الملك القائم والممجّد، إلا إذا عرفنا المسيح الملك المتألّم والمصلوب. هي ثلاثية المحبة الإلهية: الآلام المقدّسة، الموت على الصليب والقيامة المجيدة !

لذلك عاد الربّ فأضاف قائلاً لتلاميذه: “إنْ أرادَ أحدٌ أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يُهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ أو ماذا يُعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟” (مت24/16-26)

فالمحبة المصلوبة التي تجسّدت بالمسيح يسوع، هي جوهر الكشف الإلهي للإنسان. ينتج عن ذلك أنّه على الإنسان أن يعيش حميمية هذا الإعلان ويكون هو نفسه أيضًا على مثال السيد المسيح إنكارًا وبذلاً للذات بلا حدود وأن يرتضي طوعيًا وبملء إرادته أن يكون“محبّة ًمصلوبة“! ليدخل في مجد إلهه !

لذلك قال الرسول بولس: “لأني لم أعزم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً.” (1كو2/2)

وقال أيضًا : “لأعرفه، وقوّة قيامته، وشركة آلامه، متشّبهًا بموته”(فل10/3)

وصلّى أيضًا من أجل خلاص العالم وقال: “كي يعطيكم إلهُ ربّنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته” (أف17/1) ونصح قائلاً: “لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيّروا عن شكلكلم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله: الصالحة المرضية الكاملة”(رو12/ 2)

تتكلّم القديسة تريزا بنديكتا للصليب، إديت شتاين، عن “علم الصليب”، أو لاهوت الألم والصليب الذي يؤدّي إلى القداسة استناداً إلى مؤلّفات القدّيس يوحنا الصليب، فتقول: “إنّ شهوة المجد العالمي هي حاجز أمام معرفة هذا السرّ. الذي لا يُعطى لهؤلاء الذين يفرحون بمجد الناس وتصفيقهم، في صداقة البشر والمخلوقات … فيسعون لنيل مرضاتها … إنّ معرفة السرّ العظيم هي في ممارسة الفقر، الألم، الإزدراء، المتناقضات، الإهمال، الرفض، الخزي … وبما أنها معتادة لدى الأشخاص البسطاء الذين هم في الألم وفي الإمتناع عن ما هو من تقدير العالم، فغالباً ما يكون البلهاء وأبسط النفوس عباقرة في هذا العلم، علم الصليب،  بينما العلماء لا يعرفون عنها شيئًا” “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال”(مت11/ 25).

وتضيف القديسة قائلةً: “إذاً لنكون حذرين على الدوام فنسلك في البساطة المسيحية، كما أشار الرسول بولس في رسالته الثانية الى أهل كورنتوس: “ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح”(2كو11/ 3)[1]

تضاد دورات التنمية البشرية مع علم الصليب

بالمقابل نشهد اجتياحا” تسوناميا” لما يسمّى بدورات التنمية البشرية وتقنياتها كتحفيز الذات، شفاء الذكريات الأليمة، فنون التواصل وتسوية النزاعات، تنمية الشخصية والمصالحة والكاريزما الشخصية وما شابه من تقنيات نفسية مستحدثة تدخل ضمن ما يعرف بتنمية القدرات البشرية Développement du Potentiel Humain

تُعطى في المعاهد والمراكز اللاهوتية من أجل تنشئة الكهنة والإكليريكيين والعلمانيين الذين يرغبون بالتعمّق في اللاهوت وتعليم الكنيسة. لا بأس ولا ضير في مثل هذه الدورات التي تنمّي وتحفّز بعض الملكات النفسية والمواهب من أجل تفعيل الخدمة الرعوية والمساعدة على حلّ النزاعات والنموّ الشخصي.  لكن بالمقابل نحن نواجه إشكاليات عديدة متى قبلنا بها من دون تمييز.

بعد البحث والتدقيق يمكننا أن نتبيّن أمرين أساسين:

أولا”/ يُخشى أن تأخذ هذه التقنيات مع الوقت مساحاتٍ أكبر وأكبر في الحياة الروحية ، فبدل أن “يتروْحَن” الكاهن أو الإكليريكي بالعلم الإلهي وعلم الصليب، “يتنفْسَن” بتقنيات نفسية مستحدثة تصلح لمدراء الشركات أكثر منها لكهنة رعايا مسؤولين عن خلاص النفوس. فالكاهن أب وراع لنعاج المسيح وليس مديراً أو موظفاً إدارياً في شركة تجارية !!

بالإضافة إلى أنّ مسار الصليب والمسار النفسي في تضاد:

في الصليب/ تمحورٌ حول الله، صلبٌ للأنا والشهوات والأهواء، بذلٌ لامشروط للذات، محبةٌ خادمة، إيمان عامل بالمحبة، عمل الروح القدس، والهدف منها جميعها بلوغ كمال المحبة بالنعمة من أجل الإتحاد بالله !

في التنمية البشرية/ تمحورٌ حول الذات، إعادة تنظيم وشبه برمجة للشهوات والأهواء، لا بذل للذات،لا محبة خادمة، سعي وراء القنية والماديات بحسب روح العالم، أنانية وانتهازية، وأمور أخرى تتناقض مع القيم الإنجيلية ولا علاقة لها بالإيمان الرسولي. الهدف منها بلوغ نوعٍ من الكمال بالجهد الشخصي وصولاً إلى نوع من عبادة الذات!

ثانياً/ مع انتشار المعالجين الذين يدّعون الإختصاص في التقنيات النفسية المستحدثة وخبراء التنمية البشرية ومدرّبي الحياة Life Coach الذين لا علاقة لهم بعلم النفس ولا بالعلاج النفسي الكلاسيكي، تتسلّل تعاليم وتقنيات بدعة العصر الجديدnew age والفكر الجديدNew Thought  مثل: الحلولية وثنائية الين واليانغ، ومبدأ “الخنثية” وعقيدة التقمّص والكارما والتألّه الذاتي وتأليه الارض والطبيعة وقوة العقل اللامتناهية وما يسمّى بطاقة كونية ايجابية وسلبية ومراكز باطنية وخفائية وما شابهها … والعلاجات البديلة الخطيرة كالعلاج بالطاقة الريكي والفانغ شوي والتنويم المغناطيسي والإيحاء وما شابهها.

تتسلّل هذه التعاليم أيضاً من خلال التقنيات المستحدثة غير المثبتة علمياً وغير المدعّمة بالأبحاث والإحصائيات الجديّة، كالبرمجة اللغوية العصبية، الجستالت والسوفرولوجي، تأمّل الوعي الكامل وما يسمّى بعلم النفس عبر الشخصي وعلم النفس الإيجابي والمتكامل الخ … نجد في أغلبها مزيجاً من العلوم النفسية والتنويم المغناطيسي الذاتي والتأمّل الشرقي الآسيوي.

وقد تمرّر تقنيات أخرى مثل قانون الجذبlaw of attraction  ، الإيحاء الذاتيself suggestion ، التصوّر الخلاّق creative vizualisation،إعادة الولادةrebirth والتفكير الإيجابيpositive thinking (وهو غير التفكير الإيجابي في علم النفس الكلاسيكي) الذي يفترض قوّة مزعومة للفكر مغيّرة وخلاّقة لواقع أفضل، بما أنّ للأفكار تردّدات وطاقة يمكن أن تتجسّد واقعاً ملموسًا. وهذا بتأثير مما يُعرف بالفكر الجديدnew thought الذي ابتدعه “أليفاس كويمبي” في القرن الماضي وألهم بدعاً كثيرة منها العلم المسيحيchristian science وبدعة كينيث هيغن أو “انجيل المال”Prosperity Gospel و البدع العقلية كالسيونتولوجيscientology  وغيرها.

خلاصة: على الكنيسة أن تكون يقظة في هذا الشأن لأنه يخشى كما قلنا، أن تأخذ هذه الدورات شأناً كبيراً فيطغى ما هو نفسي على ما هو روحي، ما هو من روح العالم على ما هو من روح الله. فالتمييز أمر مطلوب بإلحاح لدى الأساقفة والكهنة المسؤولين عن إدارة ورعاية المراكز والمعاهد اللاهوتية.

 أيضًا  التمييز ضروري بخصوص اختيار المنشّطين ومعرفتهم عن كثب، وهنا يجب الإجابة عن عدّة أسئلة منها:

 هل هؤلاء المنشّطون على دراية بتعليم الكنيسة وملتزمون به؟  ما هو مدى نموّهم الروحي وعمق إيمانهم والتزامهم الحياة الأسرارية الكنسية (ليس بالشكل فقط)؟ ما هي حقيقة قناعاتهم الشخصية وهل لهم معتقدات تتناقض مع الإيمان المسيحي؟

نحن نعلم أنّه مهما تقدّمت العلوم الإنسانية، ليس باستطاعتها أن تتفوّق على علم الصليب لأنّه علم إلهي موحى به وكشف إلهي ثابت وغير متغيّر لتدابير الله الفائقة الوصف، والإنجيل هو قوة الله للخلاص لكلّ من يؤمن”(رو1/ 16).

كما يخشى أن تتسلل تعاليم بدعة العصر الجديدnew age  الى هذه الدورات وهذا ما قد بدأ يحصل فعليًا في الغرب وقد نشأت جمعيات حكومية وغير حكومية لمراقبة البدع وللتصدي لانحرافاتها[2].

إنّ تمييز الأرواح واجب علينا لأنّ الأمر يتعلّق بخلاص النفوس وسنحاسب على ذلك في يوم الدينونة العظيم.

لا نُتهم ظلمًا أننا رجعيون منغلقون نحارب العلوم والحداثة. يا ليتنا نستبدل هذه الدورات بدراسات بيبلية وآبائية وكتابات وسير الآباء القدّيسين، بصلوات وأصوام ودموع توبة.

ولا شك إنّ انتشار مثل هذه التقنيات البشرية بحجّة الحداثة وتطوّر العلوم النفسية وبدون تمييز، سيؤثّر سلبًا على تنشئة الإكليروس تنشئةً قويمة بحسب إيمان الكنيسة الجامعة والتقليد الرسولي. يقول الكاردينال روبير سارا في موضوع الكهنوت والعلمانية: “إنّ نسيان الله يجد أول مظاهره وأخطرها في طريقة حياة الكهنة العلمانية. إنهم أول من حمل الخبر السار. إذا كانت حياتهم الشخصية لا تعكس هذا، فإنّ الإلحاد العمليّ سينتشر في جميع أنحاء الكنيسة والمجتمع”[3].

إذاً نريد كهنة مملووئين محبة باذلة على مثال السيد المسيح، بنقاوة القلب، مملوئين نعمة، ليُثمروا في الروح القدس محبة وسلام وتقوى ووداعة وفرح ،وليس كهنة منتفخين بعلوم نفسية ومجرّد مهارات بشرية !!

توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات !!

لمجد الرب يسوع آمين !!يتبع_

[1] إديت شتاين، علم الصليب، الكتاب الاول، الفصل الأول

[2] لمعرفة المزيد مراجعة كتاب: تيار العصر الجديد من وجهة نظر الايمان المسيحي، جيزل فرح طربيه، دار المشرق

كتاب الطب البديل من وجهة نظر الايمان المسيحي، جيزل فرح طربيه، دار المشرق

حقيقة البدائل الطبية بحسب تعليم الكنيسة، جيزل فرح طربيه، توزيع المكتبة البولسية.

[3] https://www.catholicworldreport.com/2019/09/23/cardinal-sarah-i-believe-that-we-are-at-a-turning-point-in-the-history-of-the-church/

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير