Pixabay - stars - CC0

هل في المسيحيّة قضاء وقدر؟!

هذا السؤال بخصوص القضاء والقدر، قديمٌ جدّا. فكلّ الفلسفات اليونانية تقريبًا تتكلّم عن القدر والقضاء والمصير المحتوم ..الخ.  القضاء والقدر بالمختصر هو: أن نُحمّل الله كلّ ما فينا، من مساوئ وحسنات، من مصائب وصراعات  وكوارث وأيضا : الموت. تقريبًا كلّ المسلسلات المصريّة […]

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

هذا السؤال بخصوص القضاء والقدر، قديمٌ جدّا. فكلّ الفلسفات اليونانية تقريبًا تتكلّم عن القدر والقضاء والمصير المحتوم ..الخ.  القضاء والقدر بالمختصر هو: أن نُحمّل الله كلّ ما فينا، من مساوئ وحسنات، من مصائب وصراعات  وكوارث وأيضا : الموت. تقريبًا كلّ المسلسلات المصريّة لديها هذه الجملة ” المكتوب على الجبين حتشوفو العين!”. لكن، هل صحيح هناك أمورًا مكتوبة ً على الجبين ونحنُ لا نراها؟! ليس في ا لقضيّة أيّ منطق وأي إيجابيّة.
لا يتكلّم أبدًا يسوع المسيح عن القضاء والقدر، فهذا الفكر بعيد جدّا عن فكر يسوع وما أراده منّا. فهدفُ يسوع ليس الرضوخ والكسل والخوف، بل القوّة والشجاعة والإستمراريّة واليقظة. نعم، الرسل كانوا قدريّين في البداية، لكنّهم وبعدَ أن فتحَ يسوع أعينهم، راحوا يجوبون العالم كلّه مبشّرين برسالته الخلاصيّة وبمحبّة الله للعالم كلّه. وأنهم يجب أن لا يكونوا إتكاليّين على الله مثل الأطفال الرضّع، بل أن يكونوا، مثل ربّهم يسوع المسيح، ناضجين في الحياة وبدورهم كأبناء الله الحقيقيّين في هذا العالم.
تقولُ صلاة الأبانا: ” ليأت ِ ملكوتكَ، لتكن مشيئتك، كما في السماء ِ كذلك على الأرض”. لا أظنّ أننا فكّرنا، في تلاوتنا لهذه الصلاة الربيّة في القداسات، على كلماتها العميقة ! ليـــــأت ِ ملكوتك، بمعنى أنّ الملكوت هو دائمـــــا آت ٍ وليس هو في الماضي وكأنّه صورة مقولبة جامدة ومقدّرا ومكتوبـــــًا ! ليأت ِ ملكوتكَ، فيسوع دائمًا أمامنا وهو مستقبلنا، والله هو المستقبل. يأتينا من المستقبل ليُنير لنا الحاضر، من خلال ما فعله سابقا في تاريخ الخلاصْ كاشفا لنا سرّه وسرّ تدبيره الأزليّ. ” لتكن مشيئتُكَ”، لا تعني لتكن يا ربّ إرادتكَ وقضاءَك وحكمكَ، فمهما فعلتُ في حياتي، ما دامَ حكمك فيّ مكتوبٌ في سجلّك اليوميّ، فأنا أرضخ وأجلسُ ولا أعملُ من بعد إلى أن يحينُ موعد أجَلي!. هذا تفكيرٌ ضيّق جدّا جدّا لما أراده منّا يسوع المسيح. ومَن يؤمن بهذا الأمر، فسامحوني إن قلتُ : إنّك لم تفهم شيئا من المسيحيّة ومن تعليم المسيح والإنجيل.
يسوع يقولُ في الإنجيل : ” شعرةٌ من رأسكم لا تسقطُ إلا بـــــــ ” علم ِ ” أبيكم الذي في السماوات، ولا يقولُ بــــ” إرادة ” أبيكم ! فهناكَ فرقٌ كبيرٌ بين العلم (المعرفة) وبين الإرادة. فإن قلتُ بالعكس ” بإرادة أبيكم” ، فهنا أجعل الله مسؤول في سقوط الشعرة، وهذا الفكر هو قمّة القدريّة. أنا أعرفُ أن ابنيَ هذا سيَرسبُ في المادة الفلانيّة، لأني أراه دائمًا كسول وخامل، لكنّي، من الناحية الأخرى، لا أريدهُ أن يرسب في المادّة. الله يعرف بأنّي سوف أقعُ في تجربة وفي فخّ وفي ضيق، لكنه لا يريدني أن أقعَ في التجربة! تقولونَ: لما لا يمنعني؟! بصراحة: لانه ليس إلهـــــــًا ماسونيـــــّا يسيّر العالم رغمــــــًا عن أنفهم. ليس إلهًا سحريا واسطوريّا يتحكّم في الكون ولا أحد يفلت من قبضته. إلهنا ليس إله الفلاسفة اليونانيّين ولا إله الأساطير الأغريقيّة ولا إله الحاجات والغرائز.. إلهَنا هو حريّة ومحبّة، يحترمُ حريّتنا لأنه محبّة.
ماذا نضعُ بدلا من مفهوم القضاء والقدر إذن؟ الجوابُ موجودٌ في الإنجيل. نضعُ مفهوم” العناية الإلهيّة”، والعناية الإلهيّة ليست قدريّة. إنها مثل ” الحضن الدافيء”، حضن الله الحنون. مرفأ الرجاء. الله يعتني بنا في خلقه وفي حفاظه على وجودنا بطريقة ٍ هو فقط يعرفها. فهو إلهٌ شفّافٌ وطيّب ومحبّ. عندما خلقنا، وضعَ فينا قابليّة الخلق والابداع المستمرّ.  انه مثل الرسّام والفنان والشاعر، كلّهم يخلقون ويبدعونَ من لا شيء، من فكرهم وذوقهم الرفيع. حقّ لنا إذن أن نصفَ الله بالمبدع والفنان. فلقد خلقَ وانسحبَ عن خلقته لكي توجدَ وتتنفّس وتكوّن ذاتها. فلا حريّة إن كان الله قاهرًا لنا.  وإن كان هناكَ قضاء وقدرًا، كما يقال، فلا يحقّ إذن، من بعد، أن يحاسبني الله.
وأخيرًا وليس آخِرا. يسوع المسيح، الحقّ والحياة والطريق والنور، في كشفه لسرّ حقيقة الله العميقة، أعطانا صورة رهيبة للعلاقة الحقيقيّة مع الآب السماويّ، علاقة ليس للخلف، بل علاقة للأمام. ” من رآني فقد رأى الآب“. من سارَ ورائي، رأى وجه الله الحقيقيّ. بنوّة يسوع لله هي بنوّة مسؤولة وحرّة! مشكلتنا نحن الآن، هي أننا نضعُ الحريّة قبل المسؤوليّة فنضيع الاثنين في خبر كان!. يسوع يقولُ لنا: كن مسؤولا، تستطيع من بعدها أن تفهم الحريّة بشكل ٍ  جيّد .
لم تكن الحرب العالميّة الثانية ولا معسكرات التعذيب ولا قنبلة هيروشيما أمرًا محتومًا. فكلّ هذا كان ثمرة قرارات ٍ حرّة حوّلت التاريخ في هذا الإتجاه. فالحريّة السلبيّة تخرّب العالم، وتضع الإنسان في الجنونْ والفوضى. حريّة بدون الله، هي حريّة ملغومة، لا أساس لها ولا قياس ولا وزن ولا كثافة.
إن كان الله فينا وفي عمق وجودنا، هو الروح القدس الساكن فينا، فكيف نكفُر به! الكفر بالروح القدس، بالضبط هو هذا : الإيمان بالقضاء والقدر. وأنّ كلّ شر هو من الله. يسوع المسيح يقولُ لنا: أنا هو الابن، أنا ابن الله، ابن الحياة، ومسؤولٌ أمام الله وأمام الناس.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير