رسالة Archives - ZENIT - Arabic https://ar.zenit.org/category/رسالة/ The World Seen From Rome Thu, 21 Nov 2024 11:40:55 +0000 en-US hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://ar.zenit.org/wp-content/uploads/sites/5/2020/07/f4ae4282-cropped-02798b16-favicon_1.png رسالة Archives - ZENIT - Arabic https://ar.zenit.org/category/رسالة/ 32 32 المهمّة الكبرى: الإجابة على النَّزعات الاستهلاكيّة الثّقافية https://ar.zenit.org/2024/11/21/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%87%d9%85%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%ac%d8%a7%d8%a8%d8%a9-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8e%d9%91%d8%b2%d8%b9%d8%a7%d8%aa/ Thu, 21 Nov 2024 11:40:55 +0000 https://ar.zenit.org/?p=75023 رسالة قداسة البابا فرنسيس
في تجديد دراسة تاريخ الكنيسة

The post المهمّة الكبرى: الإجابة على النَّزعات الاستهلاكيّة الثّقافية appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

أودّ أن أشارككم بعض الأفكار بهذه الرّسالة في أهمّيّة دراسة تاريخ الكنيسة، خاصةً لمساعدة الكهنة على فهم الواقع الاجتماعيّ بشكل أفضل. إنّها مسألة أودّ أن تؤخذ بعين الاعتبار في تنشئة الكهنة الجدُد وكذلك العاملين الرّعويّين الآخرين.

أعرف تمامًا أنّه يُخصَّص اهتمام جيِّد لدراسة تاريخ الكنيسة في مسيرة تنشئة المرشّحين للكهنوت، وهذا ما يجب أن يكون. لكن ما أودّ أن أشدّد عليه الآن هو الدّعوة إلى تعزيز ”الحسّ التّاريخي“ الحقيقيّ لطلاب اللاهوت الشّباب. بهذه العبارة، أريد أن أشير ليس فقط إلى المعرفة الدّقيقة والمتعمّقة لأهمّ اللحظات في العشرين قرنًا من المسيحيّة التي مضَتْ، ولكن أيضًا، وقبل كلّ شيء، إلى نشوء فهم واضح لبُعد الإنسان التّاريخي. لا يمكن لأحد أن يعرف حقًّا من هو وماذا سيكون غدًا بدون أن يغذيّ الرّباط الذي يربطه بالأجيال التي سبقته. وهذا ينطبق ليس فقط على مستوى الأفراد، بل أيضًا على مستوى الجماعات بشكل أوسع. في الواقع، دراسة التّاريخ وسرده يساعدان في الحفاظ على “شعلة الوعيّ الجماعيّ” [1]. وإلّا، فلن تبقى سوى الذّاكرة الشّخصيّة للأحداث المرتبطة بالمصالح الشّخصيّة أو العواطف الفرديّة، دون ارتباط حقيقيّ بالجماعة الإنسانيّة والكنسيّة التي نعيش فيها.

الحسّ التّاريخي الصّحيح يساعد كلّ واحد منّا ليكون له شعور بالتّناسب، وشعور بالقياس، وقدرة على فهم الواقع كما هو، وبدون أفكار تجريديّة خطيرة وخياليّة، وكما هو، وليس كما نتخيّله أو نودّ أن يكون. وبذلك نصير قادرين على أن ننسج ونبني علاقة مع الواقع تدعو إلى المسؤوليّة الأخلاقية، والمشاركة، والتّضامن.

وفقًا لتقليد شفهي، لا أستطيع تأكيده بمصادر مكتوبة، قال أحد كبار اللاهوتيين الفرنسيين لطلابه إنّ دراسة التّاريخ تحمينا من ”المونوفيزية الكنسيّة“، أي من مفهوم مثاليّ جدًّا للكنيسة، ليس واقعيًّا، وكأنّها خالية من العيوب والتّجاعيد. الكنيسة، مثل الأمّ، يجب أن نحبّها كما هي، وإلّا فإنّنا لا نحبّها حقًّا، أو نحبّ فقط خيالًا من خيالنا. تاريخ الكنيسة يساعدنا لنرى الكنيسة الواقعيّة لكي نحبّ الكنيسة التي توجد حقًّا، والتي تعلّمت ولا زالت تتعلّم من أخطائها وسقطاتها. هذه الكنيسة، التي تعرف نفسها حتّى في لحظاتها المظلمة، تصير قادرة على فهم عيوب وجراح العالم الذي تعيش فيه. وإن حاولت أن تشفيَه وتنَمِّيَه، فستفعل ذلك بنفس الطّريقة التي تحاول بها أن تشفِيَ وتُنَمِّيَ نفسها، ولو أنّها لا تنجح مرارًا في ذلك.

إنّه تصحيح لذلك النّهج الخطير الذي يجعلنا نفهم الواقع انطلاقًا من وجهة نظر متعالية في الوظيفة أو الدّور الذي نقوم به. هذا النّهج الأخير، كما بيَّنتُ في الرّسالة البابويّة العامّة، كلّنا إخوة – Fratelli tutti، هو بالضّبط النّهج الذي يجعلنا ننظر إلى الرّجل الجريح في مثل السّامري الرّحيم وكأنّه فقط ازعاج في واقع الحياة، فهو ببساطة ”لا مكان له“، ”ولا فائدة منه“ [2].

علاوة على ذلك، فإنّ تربية الحسّ التّاريخي في المرشّحين للكهنوت يبدو ضرورة واضحة. وخاصّة في هذا الوقت، حيث “يزدادُ فقدان الحسّ التّاريخي ويسبّب المزيد من التفكّك. ونلاحظ اختراقًا ثقافيًّا لنوعٍ من ”التفكيك“ تدَّعي فيه الحرّيّة الإنسانيّة بناء كلّ شيء من الصّفر. وتَبقَى الحاجة إلى الاستهلاك بلا حدود، وتُعزَّز أشكالٌ من الفرديّة فارغة لا محتوى لها” [3].

أهمّيّة ارتباطنا بالتّاريخ

على وجه العموم، يجب أن نقول إنّنا جميعًا اليوم – وليس فقط المرشّحون للكهنوت – بحاجة إلى تجديد الحِسّ التّاريخيّ فينا. في هذا السّياق، وجَّهْتُ مرّة نصيحة إلى الشّباب: “إن اقترح عليكم البعض وقالوا لكم: تجاهلوا التّاريخ، ولا تهتمّوا لخبرة المسنّين، واحتقروا كلّ الماضي، وانظروا فقط نحو المستقبل وما يقدّمه لهم، أوَليست هذه هي الطّريقة السّهلة ليجتذبكم ويجعلكم تعملون فقط بما يقوله لكم؟ هؤلاء يريدونكم فارغين مقتلَعين من جذوركم، لا تثقون بأيّ شيء، كي تثقوا فقط بوعودهم وتخضعوا لخطَطهم. هكذا تعمل الأيديولوجيّات المتعدّدة الألوان، التي تدمّر كلّ ما هو مختلف وبهذه الطّريقة يمكنها أن تسود بدون معارضة. لهذا يحتاجون إلى شباب يحتقرون التّاريخ، ويرفضون الغنى الرّوحيّ والبشريّ الذي نقلته الأجيال، ويتجاهلون كلّ ما سبقهم” [4].

لفهم الواقع، نحتاج إلى وضعه في إطاره ”الزّمني الشّامل“، بينما التّوجه السّائد هو الاعتماد على قراءات تختصر الظّواهر في اللحظة الآنية، وكأنّنا أمام حاضر بلا ماضٍ. تجاهل التّاريخ يظهر مرارًا كنوع من العمى الذي يدفعنا إلى أن ننشغل ونهدر طاقتنا في عالم غير موجود، فيجعلنا نطرح مشاكل خاطئة ونوجّه جهودنا إلى حلول غير مناسبة. بعض هذه القراءات قد تكون مفيدة لمجموعات صغيرة، لكنّها لا تخدم كلّ الإنسانيّة ولا كلّ الجماعة المسيحيّة.

لذلك، الحاجة إلى حسّ تاريخي أعمق تبدو مُلِحَّة بشكل خاصّ في وقت يزداد فيه الميل للتّخلّي عن الذّاكرة أو بناء ذاكرة تلبي احتياجات الأيديولوجيّات السّائدة. أمام محاولات محو الماضي والتّاريخ أو تقديم روايات تاريخية ”منحازة“، يمكن لعمل المؤرّخين ومعرفة ما يعملون ونشره على نطاق واسع أن يكون سدًّا في وجه التزييف، والتحريف المتعمّد، والاستخدام العامّ للتّاريخ لتبرير الحروب، والاضطهاد، وإنتاج الأسلحة وبيعها واستهلاكها، والشّرور الأخرى العديدة.

نشهد اليوم انتشارًا كبيرًا لذكريات، تكون مرارًا زائفة ومصطنعة، وحتّى كاذبة، وفي الوقت نفسه، نشهد غيابًا للتّاريخ والوعي التّاريخي في المجتمع المدنيّ وأيضًا في جماعاتنا المسيحيّة. ويزداد الأمر سوءًا إن فكّرنا في الرّوايات التي يتمّ إعدادها بعناية وبطريقة مخفية لتُستخدم كأداة لبناء ذكريات مصطنعة، ذكريات تُستخدم لتحديد هوية جماعة معينة تُقصِي وتستبعد الآخرين. دور المؤرّخين ومعرفة نتائج عملهم اليوم حاسم جدًّا ويمكن أن يمثّل أحد العلاجات لمواجهة هذا النّظام المميت للكراهية الذي يقوم على الجهل والأحكام المسبقة.

في الوقت نفسه، تُبيِّن المعرفة العميقة والمشاركة في التّاريخ أنّنا لا نستطيع أن نتعامل مع الماضي بتفسير سريع ومنفصل عن عواقبه. الواقع، سواء كان ماضيًا أم حاضرًا، ليس ظاهرة بسيطة يمكن حصرها في تبسيطات بسيطة وخطيرة، ناهيك عن محاولات الذين يعتقدون أنّهم مثل آلهة كاملين وقادرين يسعون إلى محو جزء من التّاريخ والإنسانيّة. صحيح أنّ الإنسانيّة قد عرفت لحظات مروعة وأشخاصًا غاية في الظّلمة، ولكن إن كان الحكم يتمّ عبر وسائل الإعلام، أو وسائل التّواصل الاجتماعي، أو بدافع المصالح السّياسيّة فقط، فإنّنا دائمًا معرّضون لهياج الغضب غير العقلاني أو الانفعالات العاطفيّة. وفي النّهاية، كما يُقال: ”أيّ خطإ هو فقط ذريعة“. في هذه الحالة، تأتي الدّراسة التّاريخية لمساعدتنا، لأنّ المؤرّخين يمكنهم أن يساهموا في فهم التّعقيد بقوّة المنهجيّة الدّقيقة المستخدمة في تفسير الماضي. هذا الفهم، بدونه، لا يمكن تحقيق تحوّل في العالم الحالي بعيدًا عن التّضليل الأيديولوجي. [5]

ذاكرة الحقيقة الكاملة

لنتذكّر نسب يسوع الذي رواه القدّيس متّى. لا شيءَ فيه مبسّط أو محذوف أو مخترَع. نسب الرّبّ يسوع يتكوّن من تاريخ حقيقيّ، حيث تظهر فيه بعض الأسماء التي يمكن وصفها بالمثيرة للمشاكل، بل وفيها تسليط الضّوء على خطيئة الملك داود (راجع متّى 1، 6). ومع ذلك، ينتهي كلّ شيء ويُزهر في مريم العذراء وفي المسيح (راجع متّى 1، 16).

إن حدث هذا في تاريخ الخلاص، فإنّه يحدث كذلك في تاريخ الكنيسة: «الكنيسة […] أحيانًا، بعد بدايات سعيدة، تضطرّ إلى تسجيل تراجع مؤلم، أو على الأقل تجد نفسها في حالة من عدم الكفاية وعدم الكفاءة” [6]. كما أنّها “تعرف مع ذلك تمامَ المعرفة أن بعضًا من أعضائها، من إكليروس وعلمانيين، أظهروا عدمَ أمانتهم لروحِ الله في أثناء تاريخها الطّويل. وحتّى في أيامنا أيضًا لا تجهل الكنيسة المسافة التي تفصل بين البشارة التي تنشر، وبين الضّعف البشري الذي يستولي على مَنْ أوكل إليهم الإنجيل. ومهما كان حكمُ التّاريخ على هذا الضّعف، علينا أن نعيه ونقاومه بشدّة كيلا يسيء إلى انتشار الإنجيل. وتعرف الكنيسة أيضًا كم عليها أن تتعلّم من خبرة الأجيال، حتّى تنمّي علاقاتها مع العالم” [7].

الدِّراسة الصّادقة والشّجاعة للتّاريخ تساعد الكنيسة لتفهم أفضل لعلاقاتها مع الشّعوب المختلفة، ويجب أن يساعد هذا الجهد على تفسيرِ أصعبِ اللحظات وأكثرِها غموضًا في تاريخ هذه الشّعوب. يجب ألّا ندعو إلى النّسيان، في الواقع :”لا يمكننا أن نسمح للأجيال الحالية والجديدة بأن تفقد ذاكرة ما حدث، تلك الذاكرة التي تضمن وتشجّع بناء مستقبل فيه مزيد من العدل والأخوّة” [8]. لهذا السّبب أؤكّد على أنّه “يجب ألّا تُنسى المحرقة (Shoah) […] ويجب ألّا يُنسى القصف النّووي على هيروشيما وناكازاكي […] ولا الاضطهادات، ولا تجارة العبيد، ولا المجازر العرقيّة التي حدثت وتحدث في بلدان مختلفة، ولا الأحداث التّاريخيّة الأخرى العديدة التي تجعلنا نشعر بالخجل من كوننا بشرًا. يجب أن نتذكّر دائمًا ومن جديد، وبلا كلل أو تخدير […]. من السّهل اليوم أن نقع في تجربة طي صفحة الماضي قائلين إنّ الوقت قد مضى ويجب أن ننظر إلى الأمام. كلا، من أجل الله! بدون ذاكرة لا يمكن أن نتقدَّم، ولا يمكن أن ننموَ بدون ذاكرة كاملة ومضيئة […] لا أشير فقط إلى ذاكرة الأهوال والأخطاء، ولكن أيضًا إلى ذكرى الذين، في سياق ملوّث وفاسد، استطاعوا استعادة الكرامة واختاروا التّضامن، والمغفرة، والأخوّة بأفعال صغيرة أو كبيرة. حسنٌ لنا أن نتذكّر الخير […] المغفرة لا تعني النّسيان […] حتّى عندما تكون هناك أمور يجب ألّا ننساها لأيّ سبب كان، لكن يمكننا أن نغفر” [9].

إلى جانب الذّاكرة، فإنّ السّعي وراء الحقيقة التّاريخية ضروري لكي تتمكّن الكنيسة من أن تبدأ – وتساعد المجتمع على أن يبدأ – مسارات صادقة وفعّالة للمصالحة والسّلام الاجتماعي: “عليهم أن يتعلّموا كيف ينمّون ذاكرة تساعدهم على التّوبة، قادرة على تحمّل مسؤوليّة الماضي كي يحرّروا المستقبلَ من كلّ استياء، أو ارتباك، أو نظرة سلبيّة. فانطلاقًا من الحقيقة التّاريخيّة للواقع يمكن أن يبدأ سعيٌ مستمرٌّ وثابت لفهمٍ متبادل، ومحاولةُ وضعِ رؤيةٍ شاملةٍ جديدة لصالح الجميع” [10].

دراسة تاريخ الكنيسة

أودّ الآن إضافة بعض الملاحظات الصّغيرة في دراسة تاريخ الكنيسة.

الملاحظة الأولى هي أنَّ هناك خطرًا أن يظلّ هذا النّوع من الدّراسة محصورًا في إطار زمني محض أو أن يأخذ منحى دفاعيًا خاطئًا، يحوّل تاريخ الكنيسة إلى مجرّد دعم لتاريخ اللاهوت أو الرّوحانيّة في القرون الماضيّة. هذا النّهج في الدّراسة، وبالتّالي في التّعليم، لا يعزّز الحسّ التّاريخي الذي تكلّمت عليه في البداية.

الملاحظة الثّانية هي أنّه يوجد نوع من الاختصار في تدريس تاريخ الكنيسة، الذي يعلَّمُ في كلّ العالم، والذي يبدو أنّه لا يزال تعليمُ تاريخِ الكنيسة في خدمة اللاهوت وتابعًا له، ويظهر مرارًا أنّه غير قادر على أن يدخل في حوار حقيقيّ مع الحياة الواقعيّة والحياتيّة لرجال ونساء زمنِنا. تاريخ الكنيسة، عندما يُدرّس كجزء من اللاهوت، لا يمكن أن يكون منفصلًا عن تاريخ المجتمعات.

الملاحظة الثّالثة هي أنّه ما زال هناك نقص في التّربية الكافية على المصادر، في مسار تنشئة كهنة المستقبل. مثلًا، نادرًا ما يتمكّن الطّلاب من قراءة نصوص أساسيّة للمسيحيّة القديمة مثل ”رسالة إلى ديوغنيتِس (Diogneto)“، و”الدِّيداكي (Didaché)“، أو ”سيرةِ الشّهداء“. عندما تكون المصادر مجهولة بشكل ما، تفتقر الدّراسة إلى الأدوات اللازمة لقراءتها دون تأثيرات أيديولوجيّة أو تصوّرات مسبقة لا تسمح باستقبالها الحيّ والمحفّز.

الملاحظة الرّابعة هي ضرورة ”جعل تاريخ“ الكنيسة – وكذلك ”دراسة اللاهوت“، ليس فقط دراسة دقيقة وعلميّة، – بل دراسة باندفاع ومشاركة، شخصيّة وجماعيّة، من قبل الذين يشاركون في البشارة بالإنجيل، فهم لم يختاروا موقفًا حياديًا وعقيمًا، لأنّهم يحبّون الكنيسة ويقبلونها كأمّ كما هي.

ملاحظة أخرى، مرتبطة بالسّابقة، هي الصّلة بين تاريخ الكنيسة ولاهوت الكنيسة. يساهم البحث التّاريخي وبصورة ضروريّة في صياغة لاهوت كنيسة يكون حقًّا تاريخيًّا وجزءًا من السّرّ. [11]

الملاحظة قبل الأخيرة، التي تهمّني جدًّا، هي محو آثار الذين لم يتمكّنوا من إسماع أصواتهم عبر القرون، ما يجعل إعادة البناء التّاريخيّ والأمين أمرًا صعبًا. وهنا أسأل: أليس من أولويّات الباحث في تاريخ الكنيسة أن يعيد إظهار الوجه الشّعبي للأخيرين، وأن يعيد بناء تاريخ هزائمهم وظلمهم، وأيضًا غناهم الإنسانيّ والرّوحيّ، ويقدِّم أدوات لفهم ظواهر التّهميش والاستبعاد اليوم؟

في هذه الملاحظة الأخيرة، أودّ أن أذكِّر أنّ تاريخ الكنيسة يمكن أن يساعد في استعادة خبرة الاستشهاد من أجل الإيمان، مع العلم والوعي أنّه لا يوجد تاريخ للكنيسة دون الاستشهاد، وأنّه ينبغي ألّا نفقد أبدًا هذه الذّاكرة الثّمينة. حتّى في تاريخ آلامها، “الكنيسة تعترف بأنها حصلت على منافعَ جمة ولا تزال، من مخاصمة أعدائها ومضطهديها بالذّات” [12]. هناك بالتّحديد حيث لم تنتصر فيها الكنيسة أمام العالم، حقّقت أجمل صورها.

*

ختامًا، أذكِّر بأنّنا نتكلَّم على دراسة، وليس على أحاديث عابرة أو قراءات سطحيّة أو ”نسخ ولصق“ ملخصّات الإنترنت. اليوم، هناك من “يدفعوننا إلى أن نحقّق النّجاح بتكلفة منخفضة، ويهمّشون قيمة التّضحيّة، ويرسّخون الفكرة أنْ لا فائدة من الدّراسة، إن لم يكن لها نتيجة عمليّة فورًا. لا، الدّراسة غايتها طرح الأسئلة، وليس أن نخدِّر أنفسنا بأمور مبتذلة، وغايتها البحث عن معنى الحياة. يجب أن نستعيد حقّنا في عدم السّماح للأصوات المخدِّرة العديدة التي تصرف انتباهنا عن هذه الدّراسة والأبحاث […] هذه هي مهمّتكم الكبرى: أن تجيبوا على النَّزعات الاستهلاكيّة الثّقافية التي تشلّ الحركة بخيارات ديناميكيّة وقويّة، وبالبحث والمعرفة والمشاركة” [13].

    مع تحيّتي الأخويّة،

صَدَرَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، في 21 تشرين الثّاني/نوفمبر 2024، الثّاني عشر من حبريّتنا، تذكار تقدمة سيِّدتنا مريم العذراء.

فرنسيس

************

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024

______________________________

[1]راجع رسالةفي اليوم العالميّ الثّالث والخمسين للسّلام، 1 كانون الثّاني/يناير 2020 (8 كانون الأوّل/ديسمبر 2019)، 2: L’Osservatore Romano، 13 كانون الأوّل/ديسمبر 2019، 8.

[2]رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة – Fratelli tutti، 101.

[3] المرجع نفسه، 13.

[4]الإرشاد الرّسوليّ ما بعد السّينودس، المسيح يحيا، (25 آذار/مارس 2019)، 181.

[5]رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة – Fratelli tutti، 116 و 164-165.

[6] المجمع الفاتيكاني الثّاني، نشاط الكنيسة الإرسالي، 6.

[7] المجمع الفاتيكاني الثّاني، فرح ورجاء، 43.

[8] كلمة في النّصب التّذكاري للسّلام، هيروشيما – اليابان (24 تشرين الثّاني/ نوفمبر 2019): L’Osservatore Romano، 25-26 تشرين الثّاني/ نوفمبر 2019، 8.

[9]رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة – Fratelli tutti، 247. 248، 249. 250.

[10] المرجع نفسه، 226.

[11]المجمع الفاتيكاني الثّاني، نور الأمم، 1

[12] المجمع الفاتيكاني الثّاني، فرح ورجاء، 44.

[13] كلمة في اللقاء مع الطّلاب والعالم الأكاديميّ في ساحة سان دومينيكو في بولونيا (1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2017): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 109 (2017)، 1115.


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post المهمّة الكبرى: الإجابة على النَّزعات الاستهلاكيّة الثّقافية appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
القلب الذي يُغيّر والحبّ الذي يُعطي https://ar.zenit.org/2024/10/24/%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%8a%d9%8f%d8%ba%d9%8a%d9%91%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a8%d9%91-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d9%8a%d9%8f%d8%b9%d8%b7%d9%8a/ Thu, 24 Oct 2024 12:17:54 +0000 https://ar.zenit.org/?p=74628 النصّ الكامل للرّسالة البابويّة العامّة
لقداسة البابا فرنسيس
في الحبّ الإنسانيّ والحبّ الإلهيّ في قلب يسوع المسيح

The post القلب الذي يُغيّر والحبّ الذي يُعطي appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>

. “لقد أحَبَّنا”، قال القدّيس بولس مشيرًا إلى المسيح (رومة 8، 37)، ولا شيء ”يستطيع أن يفصلنا عن محبّته“ (راجع رومة 8، 39). وأكّد بولس ذلك، لأنّ المسيح نفسه أكَّد لتلاميذه: “أنا أحبَبْتُكم” (يوحنّا 15، 9. 12). وقال لهم أيضًا: “قَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي” (يوحنّا 15، 15). إنّ قلبه المنفتح يسبقنا وينتظرنا دون قيد أو شرط، دون أن يطلب منَّا أيّ شيء لكي يحِبَّنا ويقدِّم لنا صداقته: هو أحبَّنا أوّلًا (راجع 1 يوحنّا 4، 10). وبيسوع “عَرَفْنا المحبَّةَ الَّتي يُظهِرُها اللهُ بَينَنا وآمنَّا” بهذه المحبّة (1 يوحنّا 4، 16).

الفصل الأوّل

أهمّيّة القلب

2. نستخدم عادة رمز القلب للتّعبير عن محبّة يسوع لنا. وقد يتساءل البعض هل هذا الكلام ما زال له معنى؟ مع أنّ السّطحيّة التي نعيش فيها، وعندما نعيش ولا نعرف لماذا نعيش في النّهاية، فنصير مستهلكين لا نشبع، وعبيدًا لسوق لا تهتمّ بمعنى وجودنا، كلّ ذلك يفرض علينا أن نستعيد أهمّيّة القلب. [1]

ماذا نعني عندما نقول ”القلب“؟ 

3. في اللغة اليونانيّة الكلاسيكيّة غير الدّينيّة، لفظة ”كارديّا“ (kardía) تشير إلى أعمق جزء في الكائنات البشريّة، وفي الحيوانات والنّباتات. في هوميروس لا تشير فقط إلى المركز الجسديّ، بل أيضًا إلى النّفس والمركز الرّوحيّ للإنسان. وفي ”الإلياذة“، الفكر والعاطفة ينبعان من القلب، وهما قريبان جدًّا أحدهما من الآخر. [2] يظهر القلب كمركز للرّغبة والمكان الذي تتكوَّن فيه قرارات الشّخص المهمّة. [3] عند أفلاطون، يأخذ القلب على نحو ما وظيفة ”توليفيّة“ فيجمع بين العقل وما هو ميل في كلّ إنسان، بما أنّ أوامر القوى العليا والعواطف تنتقل من خلال الأوردة التي تتلاقى في القلب. [4] وهكذا أدركنا منذ القدم أهميّة النّظر إلى الإنسان ليس كمجموعة طاقات مختلفة، إنّما هو عالم روحيّ وجسديّ وهو مركز موحِّد يعطي لكلّ ما يختبره الإنسان معنًى وهدفًا.

4. يقول الكتاب المقدّس إنَّ “كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجِع […] وبِوُسْعِه أَن يَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه” (العبرانيّين 4، 12). وبهذا فهو يحدّثنا عن نواة، أي القلب، الذي يكون خلف كلّ المظاهر، حتّى خلف الأفكار السّطحيّة التي تسبِّب لنا الاضطراب. كان تلميذا عمواس، أثناء رحلتهما الرّوحيّة مع المسيح القائم من بين الأموات، يعيشان زمن ألم وارتباك ويأس وخيبة أمل. لكن، الأمر الأهمُّ هو أنّه حدث شيء ما في أعماقهما: “أَما كانَ قلبُنا مُتَّقِدًا في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟” (لوقا 24، 32).

5. وفي الوقت نفسه، القلب هو مكان الصّدق، حيث لا يمكن الخداع ولا التّمويه. فيه النّوايا الحقيقيّة، وما نعتقده ونؤمن به ونريده حقًّا، و”الأسرار“ التي لا نقولها لأحد، باختصار فيه الحقيقة المجرّدة. هو ما ليس مظهرًا أو كذبًا، بل ما هو أصيل وحقيقيّ، وما نملكه بصورة كليّة. ولهذا السّبب سألت دليلة شمشون الذي لم يخبرها بسرّ قوّته: “كَيفَ تَقولُ: إنِّي أُحِبُّكِ، وقَلبُكَ لَيسَ معي”؟ (القضاة 16، 15). ولمّا كشف لها سِرَّه الخفِيّ “رَأَت دَليلَةُ أَنَّه قد أَطلَعَها على كُلِّ ما في قَلبِه” (القضاة 16، 18).

6. هذه حقيقة كلّ شخص وغالبًا ما تكون مخفيّة تحت تراكمات كثيرة تغطّيها، وهذا يجعل من الصّعب الوصول إلى اليقين أنّك تعرف نفسك، ومن الأصعب أن تعرف شخصًا آخر: “القَلبُ أَخدَعُ كُلِّ شيَء، وأَخبَثُه فمَن يَعرِفه؟” (إرميا 17، 9). وهكذا نفهم لماذا يحُثُّنا سفر الأمثال: “صُنْ قَلبَكَ أكثَرَ من كُلِّ ما تَحفَظ، فإِنَّ مِنه تنبَثِقُ الحَياة. إِنْفِ عنكَ خِداعَ الفَم” (4، 23– 24). فالتّظاهر والرّياء والخداع أمور تسيء إلى القلب وتفسده. بالرّغم من كلّ المحاولات للتّظاهر أو التّعبير عن شيء ليس فينا، كلّ شيء يُقرَّر في القلب: هناك ليس المهمّ ما يظهر في الخارج أو ما يَخفَى، بل حقيقة ما نحن عليه. وهذا هو أساس كل خِطّة متينة لحياتنا، لأنّه لا يمكن بناء أيّ شيء صالح بدون القلب. المظاهر والأكاذيب لا تقدِّم إلّا الفراغ.

7. على سبيل الاستعارة، اسمحوا لي أن أذكر شيئًا سبق أن قلته في مناسبة أخرى: “في مناسبة المرافع (الكرنفال)، لمــَّا كنّا أطفالًا، كانت الجدَّة تصنع لنا حلويات، وكانت العجينة التي صنعتها رقيقة جدًّا. ولمــَّا كانت تضعها في الزَّيت كانت تنتفخ. لكن العجينة التي نأكلها كانت فارغة. وكانت هذه الحلوى تسمّى باللغة الدارجة ”الكَذِب“ (bugie). وكانت الجدَّة تشرح لنا ذلك: هذه الحلوى تسمّى ”الكَذِب“، لأنّها تظهر كبيرة، لكن لا شيء فيها، لا حقيقة ولا جوهر” [5].

8. بدل البحث عن الرّضا السّطحيّ، وتمثيل دور أمام الآخرين، من الأفضل أن نطرح الأسئلة المهمّة: من أنا حقًّا، ما الذي أبحث عنه، أيّ معنى أريد لحياتي، وخياراتي أو أعمالي، لماذا ولأيّ هدف أنا في هذا العالم، كيف سأقيِّم وجودي عندما ينتهي، ما المعنى الذي أريد أن يكون لكلّ ما أختبره، ماذا أريد أن أكون أمام الآخرين، ومَن أنا أمام الله؟ هذه الأسئلة تقودني إلى قلبي.

العودة إلى القلب

9. في هذا العالم المائع لا بدّ من أن نتكلّم مرّة أخرى على القلب، وهو المكان حيث كلّ إنسان، من كلّ نوع وحالة، يلخِّص ويكَوِّن ذاته، هنا حيث الكائن الواقعيّ يجد مصدر وجذور كلّ القوّة، والمعتقدات، والأهواء، والخيارات. نحن نتحرّك في مجتمع من المستهلكين بالجملة الذين يعيشون يومًا بعد يوم، مقيَّدِين بإيقاعات وضوضاء التّكنولوجيا، دون الكثير من الصّبر على العمليّات التي تتطلَّبُها الحياة الدّاخليّة. في مجتمع اليوم، يوشك الإنسان “أن يفقد المركز، مركز نفسه” [6]. “في الواقع، الإنسان المعاصر يجد نفسه كثيرًا مضطربًا، ومنقسمًا، ويكاد يخلو من مبدأ داخليّ يصنع الوَحدة والانسجام في كيانه وأعماله. وللأسف، يزداد ذلك سوءًا مع أنماط السّلوك المنتشرة، سواء بصيغتها العقلانيّة التّكنولوجيّة، أو، عكس ذلك، بصيغتها الغريزيّة” [7]. القلب مفقود.

10. الآن، مشكلة المجتمع المائع هي مشكلة حاضرة واقعيّة، لكن عدم تقدير قيمة المركز الحميم للإنسان، أي القلب، يأتي من أبعد: نجده من قبل في العقلانيّة اليونانيّة ما قبل المسيحيّة، وفي المثاليّة في ما بعد المسيحيّة وفي الماديّة بأشكالها المختلفة. لم يكن للقلب مساحة كبيرة في الأنثروبولوجيا. والفكر الفلسفيّ المنتشر يرى أنّه فكرة غريبة. ففضَّلوا مفاهيم أخرى عليه مثل العقل أو الإرادة أو الحرّيّة. وبقي مفهومًا مبهمًا، ولم يُعطَ مكانًا محدّدًا في حياة الإنسان، ربّما لأنّه لم يكن من السّهل ترتيبه بين الأفكار ”الواضحة والمتميّزة“ أو بسبب صعوبة معرفة الذّات: يبدو أنّ الواقع الأكثر حميميّة هو أيضًا الأبعد عن معرفتنا. ومن جهة أخرى، ربّما لأنّ اللقاء مع الآخر لم يكن وسيلة راسخة لمعرفة الذّات، بل الفكر، والفكر يؤدّي إلى فرديّة معتلّة. لقد شعر الكثيرون بالأمان في عالم يمكن السّيطرة عليه بالعقل وبالإرادة لبناء الأنظمة الفكريّة. وعدم إيجاد مكان للقلب، متميّز عن الملكات والعواطف البشريّة في النّظر إليها منفصلة بعضها عن بعض، لم يتمّ تطويره على نطاق واسع، ولا حتّى فكرة المركز للشّخص، حيث الشّيء الوحيد الذي يمكن أن يوحِّد كلّ شيء، في نهاية المطاف، هو الحبّ.

11. إن لم نجعل قيمة للقلب، فلا قيمة للكلام على القلب، ولا لعمل يصدر عن القلب، ولا لتنضيج القلب أو العناية به. عندما لا نقدِّر خصوصيّات القلب، الإجابات التي لا يستطيع العقل وحده أن يقدِّمها تفقد معناها، ويفقد اللقاء مع الآخرين قيمته، ويُفقَد الشِّعر. ونفقد التّاريخ وقصصنا، لأنّ المغامرة الشّخصيّة الحقيقيّة هي التي تُبنى بالقلب. وفي النّهاية، هو الأمر الوحيد المــُهِمّ.

12. يجب أن نؤكِّد أنّ لنا قلبًا، وأنّ قلبنا يعيش مع قلوب أخرى تساعده على أن يكون ”أنت“. وبما أنّنا لا نستطيع الإسهاب في هذا الموضوع، نكتفي بالإشارة إلى شخصيّة في رواية، هي ستافروجين (Stavròghin) لدوستويفسكي. [8] يقول رومانو جوارديني (Romano Guardini) إنّه تجسيد للشّرّ، لأنّ صفته الرّئيسيّة هي أنّه ليس له قلب: “ستافروجين (Stavròghin) لا قلب له، ولهذا روحه باردة وفارغة، وجسده مسمَّمٌ بكسل وشهوة حيوانيّة. لذلك هو لا يستطيع أن يلتقي مع أحد في الصّميم، ولا أحد يستطيع أن يلتقي معه حقًّا. لأنّ القلب وحده هو مكان اللقاء الصّميم، ويخلق الألفة الحقيقيّة بين كائنَين. القلب وحده يعرف كيف يرحِّب ويعطي وطنًا. العمل في الصّميم هو عمل ومجال القلب. لكن ستافروجين بعيد […] بما لا حدَّ له، حتّى عن نفسه، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يكون قريبًا من نفسه إلّا بالقلب، لا بالعقل. ليس في قدرة الإنسان أن يدخل إلى داخل نفسه بقوّة العقل. فإذا كان القلب بلا حياة، بقي الإنسان غريبًا عن نفسه” [9].

13. نحتاج إلى وضع جميع الأعمال تحت ”سيطرة وإدارة“ القلب، من الضّروري أن تهدأ العدوانيّة وكلّ الرّغبات المسيطرة، في الخير الأكبر الذي يقدِّمه القلب، وفي القوّة التي يمتلكها على الشّرّور. من الضّروري أن يكون العقل والإرادة في خدمة القلب، فيشعران ويتذوّقان الحقائق بدلًا من الرّغبة في السّيطرة عليها كما يفعل العِلم عادة. من الضّروري أن تطلب الإرادة الخير الأكبر الذي يعرفه القلب. بل حتّى الخيال والمشاعر يجب أن تديرها وتوجِّهها خفقات القلب.

14. وفي خلاصة الكلام، يمكن القول: أنا قلبي، لأنّه هو الذي يميّزني، ويصوغني في هويّتي الرّوحيّة، ويجعلني في تواصل مع الآخرين. يبيِّن نظام الخوارزميّات العاملة في العالم الرّقمي أنّ أفكارنا وقرارات إرادتنا نمطيّة تسير بموجب نمط محدَّد، أكثر ممـَّا كنّا نعتقد. يمكن التّنبّؤ بها بسهولة والتّلاعب بها. ليس كذلك القلب.

15. القلب كلمة مهمّة للفلسفة واللاهوت اللذين يسعيان إلى تحقيق توليفة متكاملة. في الواقع، كلمة ”القلب“ لا يمكن تفسيرها بشكل شامل  في عِلم الأحياء، أو في عِلم النّفس أو الأنثروبولوجيا أو أيّ عِلم. وهي إحدى تلك الكلمات الأصليّة “التي تشير إلى حقيقة الإنسان ككلّ كشخص من جسد وروح” [10]. وهكذا ليس عالِمُ الأحياء واقعيًّا عندما يتكلّم على القلب، لأنّه لا يرى سوى جزء منه، والكلّ ليس أقلّ واقعيّة، بل هو أكثر ممَّا يتكلَّم عليه. ولا حتّى الكلام التّجريدي يمكن أن يكون له المعنى نفسه مثل الكلام على ما هو ملموس فيه، ولا على كماله الواحد في الوقت نفسه. إن كان ”القلب“ يقودنا إلى المركز الحميم في شخصنا، فهو الذي يسمح لنا أيضًا بأن نعرف أنفسنا في كمال ذاتنا، وليس فقط في بعض الجوانب المنفصلة.

16. ومن جهة أخرى، فإنّ قوّة القلب الفريدة هذه تساعدنا على أن نفهم لماذا يقال إنّه عندما تدرك الواقع بقلبك، يمكنك أن تعرفه بصورة أفضل وأكمل. وهذا يقودنا حتمًا إلى الحبّ، إذ إنّ القلب قادر على الحبّ، لأنّ “الحبّ هو أقوى العوامل في صميم الواقع” [11]. بحسب هايدجر (Heidegger)، وبحسب تفسير أحد المفكِّرين المعاصرين، لا تبدأ الفلسفة بفكرة مجرَّدة، أو بشيء أكيد، بل تبدأ بشكٍّ يحرِّك الفكر: “يجب أن يُحرَّك قبل أن يعمل بمفاهيم أو في أثناء عمله فيها. لا يبدأ الفكر بالعمل من دون انفعال عميق يحرِّكه. أوّل صورة في الذّهن قد يكون القشعريرة. أوّل شيء يبعث على الفكر والسّؤال هو انفعال شديد. تحدث الفلسفة دائمًا في حالة ذهنيّة أساسيّة” [12]. وهنا يظهر القلب، الذي “يستضيف الحالات الذّهنيّة، ويعمل بمثابة ”الحارس على الذّهن“. و”القلب“ يصغي بطريقة غير مجازيّة إلى ”الصّوت الصّامت“ للكائن، ويسمح لنفسه بأن يُنظَّم ويُحدَّد به” [13].

القلب الذي يوحِّد ما تكسَّر

17. وفي الوقت نفسه، يجعل القلب كلّ رابط حقيقيّ ممكنًا، لأنّ العلاقة التي لا تُبنى مع القلب لا تستطيع التّغلّب على التّجزئة في فرديّة الإنسان. وحدتان فقط (due monadi) تتّحدان، من دون أن ترتبطا. المجتمع اليوم نقيض للقلب، إذ تزداد فيه سيطرة النّرجسيّة والمرجعيّة الذّاتيّة. وفي النّهاية نصل إلى ”فقدان الرّغبة“، لأنّ الآخر يغيب عن الأفق، وينغلق كلّ واحد على نفسه، ولا يقدر أن يقيم علاقات سليمة. [14] ونتيجة لذلك، فإنّنا نصبح غير قادرين على قبول الله. وكما يقول هايدجر، لكي نستقبل الإله، يجب أن نبني ”بيتًا للضيوف“ [15].

18. هكذا نرى كيف يوجد في قلب كلّ إنسان هذا الارتباط المتناقض بين احترام الذّات والانفتاح على الآخرين، بين اللقاء الشّخصيّ جدًّا مع الذّات وعطاء الذّات للآخرين. لن تكون أنت ذاتك إلّا عندما تكتسب القدرة على أن تعترف بالآخر، ويتِمُّ اللقاء مع الآخر القادر على معرفة وقبول هويّتك.

19. القلب قادر أيضًا على توحيد وتنسيق التّاريخ الشّخصيّ للإنسان، والذي يبدو مجزّأً إلى ألف قطعة وقطعة، ولكن حيث يمكن لكلّ شيء أن يكون له معنى. وهذا ما يعبّر عنه الإنجيل في نظرة مريم العذراء التي نظرت بقلبها. استطاعت أن تحاور مع الخبرات التي عاشتها، فتتأمّل فيها في قلبها، وتصبر وتتمهّل: وتجعل كلّ شيء رمزًا تحفظه في داخلها لتذكره. في الإنجيل، أفضل تعبير عمّا يفكّر فيه القلب ورد في مقطعَين في إنجيل القدّيس لوقا، حيث يقول لنا إنّ مريم “كانت تَحفَظُ (syneterei) جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها (symballousa) في قلبِها” (لوقا 2، 19؛ راجع 2، 51). الفعل ”symballein“ (منه يأتي ”الرّمز“) يعني التّأمّل والجمع بين شيئَين في الذّهن، والتّشاور والتّأمّل والحوار مع الذّات. في لوقا (2، 51) كلمة ”dieterei“ تعني ”كانت تحفظ بعناية“، وما كانت تحفظه لم يكن فقط ”المشهد“ الذي رأته، ولكن أيضًا ما لم تكن تفهمه بعد، ومع ذلك ظلّ حاضرًا وحيًّا فيها، فيما كانت تنتظر أن تجمع كلّ شيء معًا في قلبها.

20. في عصر الذّكاء الاصطناعيّ، لا نقدر أن ننسى أنّ الشِّعر والحبّ ضروريّان لخلاص الإنسان. هناك أمور لا تقدر أيّة خوارزميّة على فهمها، مثلًا، لحظة الطّفولة التي نتذكّرها بحنان والتي تستمرّ في الحدوث في كلّ ركن من أركان الكوكب، حتّى مع مرور السّنين. أفكّر في استخدام الشّوكة لضبط أطراف تلك الأطعمة المصنوعة محليًّا التي كانت تصنعها أمّهاتنا أو جدّاتنا. إنّها تلك اللحظة من التّدريب المهنيّ في مجال الطّهي، في منتصف الطّريق بين اللعب والبلوغ، حيث نتحمّل مسؤوليّة العمل لمساعدة الآخرين. مثل الشّوكة، يمكنني أن أذكر آلاف الأمثال لأمور صغيرة تملأ السّيرة الذّاتيّة لكلّ شخص: إحداث ابتسامة بعد نكتة، ورسم رسمة في ضوء النّافذة، ولعب أوّل مباراة كرة قدم بكرة من خِرَق، والاحتفاظ ببعض الديدان الصّغيرة في علبة للأحذية، أو تجفيف زهرة بين صفحات كتاب، أو الاعتناء بطائر سقط من العشّ، أو التّفكير في تمنّيات عند قطف زهرة الأقحوان. كلّ هذه التّفاصيل الصّغيرة، العاديّة وغير العاديّة، لا يمكن أن تكون أبدًا ضمن الخوارزميّات. لأنّ الشّوكة، والنّكتة، والنّافذة، والكرة، وصندوق الأحذية، والكتاب، والعصفور، والزّهرة… كلّها تعتمد على الحنان الذي يحفظها في ذكريات القلب.

21. النّواة في كلّ إنسان، والمركز الحميم فيه، ليس النّفس، بل هو الشّخص بأكمله في هويّته الواحدة، نفسًا وجسدًا. كلّ شيء يتوحَّد في القلب الذي يمكن أن يكون مقرَّ الحبّ بكلّ مكوِّناته الرّوحيّة والنّفسيّة وحتّى الجسديّة. بالإيجاز، إذا ساد الحبّ، بلغ الشّخص هويّته بطريقة كاملة ومضيئة، لأنّ كلّ إنسان خُلِقَ قبل كلّ شيء للحبّ، خُلِقَ في أعمق كيانه ليُحِبّ وليكون محبوبًا.

22. ولهذا السّبب، عندما نشهد حروبًا جديدة، بتواطؤ بلدان أخرى أو تسامحها أو لامبالاتها، أو مع مجرّد صراعات على السّلطة حول مصالح جزئيّة، يمكننا أن نقول إنّ المجتمع العالميّ يفقد قلبه. يكفي أن تنظر وتستمع إلى النّساء المسنّات – من مختلف أطراف النّزاع – ضحايا هذه الصّراعات المدمِّرة. ومن المفجع أن نراهنَّ يندِبْنَ أحفادهُنَّ المقتولين، أو يتمنَّوْن الموت لأنَّهُنَّ فقَدْن البيت الذي عِشْنَ فيه دائمًا. هُنَّ اللواتي كُنَّ في أغلب الأحيان نماذج للقوّة والصّمود في حياتهِنَّ الصّعبة والمضحِّية، الآن بعد أن وصَلْنَ إلى المرحلة الأخيرة من حياتهِنَّ، لا يَلقَونَ السّلام الذي يستحقّونه، بل يَلقَوْنَ الألم والخوف والسّخط. واللجوء إلى لوم الآخرين لا يحلّ هذه المأساة المشينة. إنّ رؤية الجدَّات يبكين، وألّا يكون ذلك غير محتمل وغير مقبول، هذه علامة على عالم بلا قلب.

23. عندما يفكِّر كلّ واحد منَّا، ويبحث ويتأمَّل في كيانه وهويّته، أو يحلِّل الأسئلة الكبرى، وعندما يفكِّر في معنى حياته وحتّى إن كان يبحث عن الله، حتّى لو أنّه شعر وكأنّه رأى شيئًا من الحقيقة، لن يصل إلى الغاية إلّا في الحُبّ. في الحبّ يشعر الإنسان أنّه يعرف لأيّ سبَب ومن أجل أيّ هدف يعيش. إذّاك يتَّحد كلّ شيء معًا في حالة من الارتباط والانسجام. لذلك، عندما يواجه المرء سرَّ ذاته، ربما يكون السّؤال الأكثر حسمًا الذي يمكن للمرء أن يطرحه على نفسه هو: هل لدَيّ قلب؟

النّار

24. وهذا له عواقب على طرق الحياة الرّوحيّة. مثلًا، إنّ لاهوت الرّياضات الرّوحيّة للقدّيس أغناطيوس دي لويولا يعتمد على ”الشّعور“ (affectus) كمبدأ له. يُبنَى البعد الخطابيّ على إرادة أساسيّة (تعبِّر عن كلّ قوّة القلب) وهي سنَدٌ لمهمّة إعادة تنظيم الحياة. إنّ قواعد وترتيبات المكان التي يقدِّمها أغناطيوس تعمل بناء على ”أساس“ مختلف عنها، هو المجهول في القلب. ويوضِّح ميشيل دي سيرتو (Michel de Certeau) أنّ ”الحركات“ التي يتحدَّث عنها القدّيس أغناطيوس هي انعكاسات لإرادة الله ولإرادة القلب التي تظلُّ مختلفة عن النّظام المذكور. يبدأ شيء غير متوقَّع يتكلَّم في قلب الإنسان، شيء ينشأ من المجهول، ويحرِّك مساحة ما هو معروف ويُدخِل فيه صراعًا. هذا أصل ”ترتيب جديد للحياة“ في القلب. وليس هذا كلامًا عقلانيًّا يجب أن يتحوَّل إلى عمل، ثمّ ينتقل إلى الحياة، بحيث يكون الشّعور والعمل مجرّد نتائج – مترابطة – لعِلم أكيد. [16]

25. حيث يتوقَّف الفيلسوف بفكره، القلب المؤمن يُحِبّ ويسجد ويستغفر ويقدِّم نفسه للخدمة في المكان الذي يعطيه إيّاه الله ليختار أن يتبعه. إذّاك يفهم أنّه هو المخاطَب ”أنت“ أمام الله، وأنّه يمكن أن يكون ”هو“، والله هو ”أنت“ بالنّسبة له. والواقع هو أنّ الرّبّ وحده هو الذي يعرض علينا أن يعاملنا كمخاطَب، أنت، دائمًا وإلى الأبد. وقبول صداقته هي مسألة قلب، وتكوِّن شخصنا بكلّ معنى الكلمة.

26. كان القدّيس بونافنتورا يقول إنّه في النّهاية يجب البحث “عن النّار لا عن النّور” [17].  وكان يعلِّم ويقول إنّ “الإيمان هو في العقل لإثارة الشّعور. مثلًا: المعرفة أنّ المسيح مات من أجلنا لا تبقى معرفة، بل تصير بالضّرورة ”شعورًا“، محبّة” [18]. ومن هذا المنظور، اختار القدّيس يوحنّا هنري نيومان شعارًا له عبارة: ”القلب يكلِّم القلب“ (Cor ad cor loquitur)، لأنّ الرّبّ، بعيدًا عن أيّ جدليّة، يخلِّصنا بالتّحدّث إلى قلبنا من قلبه الأقدس. هذا المنطق نفسه كان يعني بالنّسبة له، وهو مفكّر كبير، أنّ مكان اللقاء الأعمق مع نفسه ومع الله لم يكن القراءة أو التّأمّل، بل حوار الصّلاة، من القلب إلى القلب، مع المسيح الحيّ والحاضر. لذلك وجد نيومان في الإفخارستيّا قلب يسوع الحيّ القادر على أن يحرّر، ويعطي كلّ لحظة معناها، ويغرس السّلام الحقيقيّ في الإنسان: “يا قلب يسوع الأقدس والمحبوب، أنت مختبئ في القربان المقدّس، وقلبك يخفق دائمًا هنا من أجلنا. […] إنّي أسجد لك بكلّ حبّي وإجلالي، وبعاطفتي الحارّة، وبكلّ إرادتي بكلّ ما فيَّ من حزم وخضوع. يا إلهيّ، عندما تأتي إليَّ في المناولة المقدّسة وتجعل سكناك فيَّ، اجعل قلبي يخفق بانسجام مع قلبك! طهّره من كلّ ما هو كبرياء وشهوة، ومن كلّ ما هو قسوة وتحجّر، ومن كلّ فساد، ومخالفة، ومن كلّ فتور. املأه بك بكلِّيَّته، حتّى لا تقدر على تعكيره لا الأحداث اليوميّة ولا ظروف الحياة، فيجد السّلام في محبّتك ومخافتك” [19].

27. أمام قلب يسوع الحيّ الحاضر، يفهم عقلنا، المستنير بالرّوح، كلام يسوع، فتبدأ الإرادة بالتّحرّك لتحويل الكلام إلى عمل. ولكن هذا يمكن أن يظلَّ شكلًا من أشكال الأخلاقيّات المكتفية بذاتها. الشّعور بالله والإحساس به وتكريمه هو أمر في القلب. القلب وحده هو القادر على وضع القوى والأهواء الأخرى وشخصنا كلّه في موقف التّبجيل والطّاعة المــُحِبَّة للرّبّ.

يمكن للعالم أن يتغيَّر انطلاقًا من القلب

28. انطلاقًا من القلب فقط، تقدر جماعاتنا أن توحِّد الأذهان والإرادات المختلفة وتهدئتها، وسيُرشدنا الرّوح القدس مثل شبكة من الإخوة، لأنّ التّهدئة هي أيضًا مهمّة القلب. قلب المسيح هو نشوة، إنّه طريق للخروج، إنّه عطيّة، إنّه لقاء. فيه نصبح قادرين على التّواصل بطريقة سليمة وموفّقة، وبناء ملكوت المحبّة والعدل في هذا العالم. قلبُنا المتّحد بقلب المسيح قادر على هذه المعجزة الاجتماعيّة.

29. أن نأخذ القلب على محمل الجدّ، له عواقب اجتماعيّة. وكما يعلِّم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، “يجب علينا جميعًا أن نغيِّرَ قلوبنا، وأن نثَبِّتَ عيوننا على العالم أجمع وعلى كلّ الأشياء التي يمكن أن نقوم بها معًا لتقدّم الجنس البشريّ” [20]. لأنّ “أنواع الخلَل التي تُتعِب العالم الحديث مرتبطة بالخلل الأساسيّ المتأصّل في قلب الإنسان” [21]. وأمام مآسي العالم، يدعونا المجمع إلى العودة إلى القلب، موضّحًا أنّ الإنسان “والحياة الدّاخليّة فيه هو أسمى من الكون كلّه. ويعود الإنسان إلى هذا الباطن العميق فيه عندما يدخل إلى قلبه، حيث ينتظره الله فاحص القلوب (راجع 1 صموئيل 16، 7؛ إرميا 17، 10)، وحيث يقرِّرُ مصيره هو بنفسه، تحت نظر الله” [22].

30. هذا لا يعني الاعتماد كثيرًا على أنفسنا. لنكن حَذِرين: لندرِكْ أنّ قلبنا لا يكفي نفسَه، لأنّه ضعيف ومجروح. له كرامة أنطولوجيّة، لأنّه موجود، ولكن في الوقت نفسه، يجب أن يسعى إلى حياة فيها مزيد من الكرامة. [23] ويقول المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أيضًا إنّ “خميرة الإنجيل قد أيقظت وما زالت توقظ في قلب الإنسان حاجة إلى الكرامة لا يمكن إلغاؤها” [24]. ولكن لكي نحيا وفقًا لهذه الكرامة، لا يكفي أن نعرف الإنجيل ولا أن نعمل بصورة آليّة بما يأمرنا به. نحن بحاجة إلى مساعدة الحبّ الإلهيّ. لنذهَبْ إلى قلب المسيح، مركز كيانه الذي هو أتون المحبّة الإلهيّة والإنسانيّة، وهو أعظم ملء يمكن للإنسان أن يبلغه. هناك، في هذا القلب، نعرِفُ أخيرًا أنفسنا ونتعلَّم كيف نحِبّ.

31. وأخيرًا، هذا القلب الأقدس هو المبدأ الموحِّد للواقع، لأنّ “المسيح هو قلب العالم، والفصح الذي هو موته وقيامته هو مركز التّاريخ، وهو تاريخ الخلاص” [25]. جميع المخلوقات “تتقدّم معنا ومن خلالنا نحو الهدف المشترك، وهو الله، في كمال فائق حيث المسيح القائم من بين الأموات يعانق كلّ شيء وينيره” [26]. أمام قلب المسيح، أطلب من الرّبّ أن يرأف مرّة أخرى بهذه الأرض الجريحة، التي أراد أن يسكنها مثل واحد منّا. ليسكُبَ كنوز نوره ومحبّته، لكي يستعيد عالمنا، الذي يعيش في الحروب والاختلالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وموجة الاستهلاك والاستخدام اللاإنسانيّ للتّكنولوجيا، حتّى يستعيد ما هو أهمّ وضروريّ وهو القلب.

الفصل الثّاني

أعمال وكلمات محبّة

32. إنّ قلب المسيح، الذي يرمز إلى مركز شخصه ومنه تتدفّق محبّته لنا، هو النّواة الحيّة للبشارة الأولى. هو أصل إيماننا، وهو الينبوع الذي يُبقِي المعتقدات المسيحيّة حيّة.

أعمال تُظهر القلب

33. لم يُرِدْ المسيح أن يشرح لنا كثيرًا الطّريقة التي يحبّنا بها. لكنَّه أظهر لنا ذلك بأعماله. إن نظرنا إليه يعمل، يمكننا أن نكتشف كيف يعامل كلّ واحد منَّا، حتّى لو صعب علينا أن نراه. لنذهَبْ إذن ننظر إليه حيث يمكن لإيماننا أن يتعرّف عليه، أي في الإنجيل.

34. يقول الإنجيل إنّ يسوع ”جاء إلى خاصّته“ (راجع يوحنّا 1، 11). نحن خاصّته، لأنّه لا يعاملنا كغرباء. إنّه يعتبرنا ملكًا له، ويحافظ علينا بعناية ومودّة. إنّه يعاملنا مثل خاصّته، وهذا لا يعني أنّنا عبيد له، هو نفسه ينفي ذلك: ”أنا لا أدعوكم عبيدًا بعدَ اليَوم“ (راجع يوحنّا 15، 15). ما يقترحه هو علاقة متبادلة مثل الأصدقاء. جاء، وتخطّى كلّ المسافات، وأصبح قريبًا منّا مثل أبسط الأشياء وأكثرها في حياتنا اليوميّة. في الواقع، له اسم آخر وهو ”عمّانوئيل“ ومعناه ”الله معنا“، الله القريب من حياتنا، الذي يعيش بيننا. تجسَّد ابن الله، “وتَجَرَّدَ مِن ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبد” (فيلبي 2، 7).

35. وهذا واضح عندما نراه يعمل. إنّه يبحث دائمًا، إنّه قريب منّا، ومستعدّ دائمًا للقاء. نرى ذلك عندما توقَّف للتحدُّث مع المرأة السّامريّة عند البئر حيث جاءت تستقي (راجع يوحنّا 4، 5-7). نرى ذلك عندما التقى، في ظلام الليل، بنيقوديمُس، الذي كان يخاف أن يُرى مع يسوع (راجع يوحنّا 3، 1-2). ونُدهَشُ عندما نراه يترك امرأة زانية تغسل قدمَيه بلا خجل (راجع لوقا 7، 36-50)، وعندما يقول للمرأة الزّانية، ناظرًا إليها عيناه في عينيها: “أَنا لا أَحكُمُ علَيكِ” (يوحنّا 8، 11)، أو عندما يواجه لامبالاة تلاميذه ويلتفت إلى الأعمى على الطّريق ويقول له بمودّة: “ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لَكَ؟” (مرقس 10، 51). المسيح يبيِّن لنا أنّ الله قريب ورحيم وحنّان.

36. ولمّا كان يشفي مريضًا، كان يفضّل أن يقترب منه: “فمَدَّ يسوعُ يَدَه فَلَمَسَه” (متّى 8، 3). “ولَمَسَ يَدَه” (متّى 8، 15). “ولَمَسَ عينَيه” (متّى 9، 29). ووقف مرّة حتّى ليشفي مريض بتفاله (راجع مرقس 7، 33)، كان يتصرَّفْ مثل الأمّ، حتّى لا يشعروا بأنّه غريب عن حياتهم. لأنّ “الرّبّ يسوع يعلَم عِلم الملاطفة الجميل. حنان الله لا يحِبُّنا بالكلام. الله يقترب منّا، وبقربه منّا، يمنحنا محبّته بكلّ حنان ممكن” [27].

37. بما أنّه يصعب علينا أن نثق، لأنّنا جُرِحْنا مرارًا بالأكاذيب الكثيرة والاعتداءات وخيبات الأمل، هو يهمس في أذننا: “ثِقْ، يا بُنَيّ” (متّى 9، 2)، “ثقِي، يا ابنَتي” (متّى 9، 22). يجب التّغلُّب على الخوف ويجب أن نفهم أنْ ليس لنا ما نخسره معه. لبطرس الذي كان فريسة للشّكّ، “مَدَّ يسوعُ يَدَه وأَمسكَهُ وهُو يَقولُ له: […] لِماذا شَكَكْتَ؟” (متّى 14، 31). لا تخَفْ. دَعْهُ يقترب منك، وأجلسه بجانبك. يمكن أن نشكّ في كثير من النّاس، وأمّا فيه فلا يمكن. ولا تتوقَّفْ بسبب خطاياك. تذكّرْ أنّ خطأةً كثيرين ”اتّكأوا معه“ على المائدة للطّعام (راجع متّى 9، 10) ولم يتشكَّكْ يسوع من أحد منهم. أهل النّخبة من رجال الدّين تشكَّكوا منه، وقالوا إنّه “أَكولٌ شِرِّيبٌ لِلْخَمْرِ صَدِيقٌ للجُباةِ والخاطِئين” (متّى 11، 19). ولمـَّا انتقد الفرّيسيّون قربه هذا من الأشخاص ذوي المكانة المتدنّية أو الخطأة، قال لهم يسوع: “أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة” (متّى 9، 13).

38. هذا يسوع نفسه ينتظرك اليوم حتّى تتيح له بأن ينير حياتك، وينهضك، ويملأك بقوّته. وفي الواقع، قبل أن يموت، قال لتلاميذه: “لن أَدَعَكم يَتامى، فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم. بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني” (يوحنّا 14، 18– 19). إنّه يجد دائمًا طريقة لإظهار نفسه في حياتك حتّى تتمكّن من الالتقاء به.

نظرة يسوع

39. روى لنا الإنجيل أنّ رجلًا غنيًّا جاء إليه، يريد أن يحيا حياة مثاليّة، لكنّه لا يقدر أن يغيِّر حياته. “فحَدَّقَ إِليهِ يسوع” (مرقس 10، 21). هل يمكنك أن تتصوَّر تلك اللحظة، ذلك اللقاء بين عينَيْ هذا الرّجل ونظرة يسوع؟ إن دعاك، وإن كلَّفك برسالة، فإنّه ينظر إليك أوّلًا، ويدخل في أعماقك، ويدرك ويعرف كلّ ما فيك، ويثبِّت نظره فيك: “كانَ يسوعُ سائرًا على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى أَخَوَيْن […] ثُمَّ مَضى في طَريقِه فرأَى أخَوَيْنِ آخَرَيْن” (متّى 4، 18. 21).

40. تُظهر لنا نصوص كثيرة في الأناجيل أنّ يسوع كان متنبِّهًا للأشخاص، ولهمومهم ومعاناتهم. مثلًا: “عندما رأَى الجُموعَ أَخذَته الشَّفَقَةُ علَيهم، لأَنَّهم كانوا تَعِبينَ رازِحين” (متّى 9، 36). عندما يبدو لنا أنّ الجميع يتجاهلوننا، وأن لا أحد مهتَمٌّ بما يحدث لنا، وأنّنا لسنا مهِمِّين لأيّ أحد، هو ينتبه إلينا. وهذا ما عناه بكلامه لنتنائيل الذي كان واقفًا وحده ومتوحِّدًا مع ذاته: “قبلَ أَن يَدعوَكَ فيلِبُّس وأَنتَ تَحتَ التِّينَة، رأَيتُك” (يوحنّا 1، 48).

41. لأنّه منتبه إلينا، فهو قادر على أن يعرف كلّ نيّة صالحة فيك، وأصغر أعمالك الصّالحة التي تقوم بها. يقول لنا الإنجيل إنّه “رأَى أَرمَلَةً مِسكينَةً تُلْقي فَلسَين مِن نُحَاس [في خزانة الهيكل]” (لوقا 21، 2) ولفت انتباه رسله إليها على الفور. يهتَمُّ يسوع بنا وينتبه إلينا ويُعجَبَ بالأشياء الصّالحة التي يراها فينا. عندما سأله قائد المائة بكلّ ثقة، قال الإنجيل: “لَمَّا سَمِعَ يسوعُ كَلامَه، أُعْجِبَ بِه” (متّى 8، 10). كم هو جميل أن نعرف أنّه إذا كان الآخرون لا يدركون نوايانا الحسنة أو الأشياء الإيجابيّة التي نقوم بها، فإنّ يسوع لا يجهلها، بل يُعجب بها.

42. كإنسان، تعلَّم هذا من مريم أمِّه. فهي التي كانت تتأمّل في كلّ شيء باهتمام و”تحفظ كلّ شيء في قلبها“ (راجع لوقا 2، 19. 51). مريم أمُّه علَّمَتْه منذ الصّغر، مع القدّيس يوسف، أن ينتبه إلى كلّ شيء.

الكلمات

43. كلمته، في الكتاب المقدّس، دائمًا حيّة ولها قيمتها وتنطبق على الحالة التي نحن فيها، ومع ذلك فإنّ يسوع يكلِّمنا أحيانًا في داخلنا ويدعونا ليأخذنا إلى المكان الأفضل. والمكان الأفضل هو قلبه. وهو يدعونا ليدخلنا إلى حيث يمكننا أن نجد القوّة والسّلام: “تَعالَوا إِليَّ جَميعًا أَيُّها المُرهَقونَ المــُثقَلون، وأَنا أريحُكم” (متّى 11، 28). ولهذا قال لتلاميذه: “اثبُتوا فيَّ” (يوحنّا 15، 4).

44. يدُلُّ كلام يسوع على أنّ قداسته لم تُلغِ عواطفه. فقد أظهر في بعض المناسبات حبًّا شديدًا لنا، وهو يتألَّم من أجلنا، وينفعل، ويعاتب، حتّى البكاء. ومن الواضح أنّه لم يكن غير مبالٍ بهموم النّاس وقلقهم، مثل التّعب أو الجوع: “أُشفِقُ على هذا الجَمْع، […] لَيسَ عِندَهم ما يَأكُلون. وإِن صَرَفتُهم إِلى بيوتِهم صائمين، خارَت قُواهم في الطَّريق، ومِنهُم مَن جاءَ مِن مَكانٍ بَعيد” (مرقس 8، 2-3).

45. لا يُخفِي الإنجيل مشاعر يسوع تجاه أورشليم، المدينة التي أحبَّها: “ولمــَّا اقَتَربَ فَرأَى المــَدينة بكى علَيها” (لوقا 19، 41) وأعرب عن حبِّه الكبير لها بقوله: “لَيتَكِ عَرَفتِ أَنتِ أَيضًا في هذا اليَومِ طَريقَ السَّلام” (19، 42). ومع أنّ الإنجيليّين يظهرونه أحيانًا قوّيًا أو مجيدًا، إلّا أنّهم يبيِّنون أيضًا مشاعره عندما يواجه موت أصدقائه وألمهم. وقبل أن يقول لنا الإنجيل إنّ ”يسوع دَمعَت عَيْناه“ (راجع يوحنّا 11، 35) عند قبر لعازر، توقَّف الإنجيليّ ليقول لنا إنّ “يسوع كان يُحِبُّ مَرْتا وأُختَها ولَعازَر” (يوحنّا 11، 5)، وإنّه “لَمَّا رآها تَبكي ويَبكي معَها اليَهودُ الَّذينَ رافَقوها، جاشَ صَدرُه وَاضطَرَبَت نَفْسُه” (يوحنّا 11، 33). ولا تدع الرّواية مجالًا للشّكّ في أنّه كان بكاء صادقًا، ناجمًا عن ألم عميق فيه. وأخيرًا، لم يُخفِ يسوع ألمه الشّديد أمام موته العنيف على أيدي الذين أحبَّهم هو كثيرًا: “وجعَلَ يَشعُرُ بالرَّهَبةِ والكآبة” (مرقس 14، 33)، إلى أن قال: “نَفسِي حَزِينَةٌ حَتَّى المَوْت” (مرقس 14، 34). وظهر هذا الاضطراب الدّاخليّ الشّديد بأقصى قوّة في صرخته على الصّليب: “إلهي إلهي لماذا تركتَني” (مرقس 15، 34).

46. كلّ هذا، في نظرة سطحيّة، قد يبدو وكأنّه فقط رومانسيّة دينيّة. ومع ذلك، فهو في غاية الجدّيّة والحسم. وأقصى تعبير لهذا الواقع هو المسيح المـُسمَّر على الصّليب. هذه هي كلمة الحبّ البليغة. ليس شيئًا مخفيًّا، ليس محض عاطفة، وليس هروبًا روحيًّا. إنّه الحُبّ. لهذا، لمّا كان القدّيس بولس يبحث عن الكلمات المناسبة لشرح علاقته بالمسيح، قال: “أحَبَّنِي وَجَادَ بنَفسِهِ مِن أَجلِي” (غلاطية 2، 20). هذه كانت كبرى قناعاته: عرف أنّه محبوب. موت المسيح على الصّليب ملأ كيانه وأسره، وما كان يعطي كلّ ذلك معنى هو قوله: ”أحَبَّنِي“. كثير من النّاس يبحثون في معتقدات دينيّة مختلفة بحثًا عن الخلاص، أو الطّمأنينة أو الأمان الرّوحي، أمّا بولس، فبعد أن ملأه الرّوح القدس، عرف أن ينظر إلى ما هو أبعد من كلّ ذلك، وأن يندهش أمام أعظم وأهمّ شيء: ”أَحَبَّنِي“.

47. بعد أن تأمَّلنا في المسيح، ورأينا كيف يمكننا أن نعرف قلبه في أعماله وأقواله، لنَرَ الآن كيف تتأمَّل الكنيسة في سِرِّ قلب يسوع الأقدس. 

الفصل الثّالث

هذا هو القلب الذي أحبَّ كثيرًا

48. إكرام قلب المسيح ليس عبادةً لجزء منفصل من شخصه. ما نتأمَّل فيه ونسجد له هو يسوع المسيح بأكمله، هو ابن الله الذي صار إنسانًا، والذي نمثِّله في صورة نُظهر فيها صورة القلب. في هذه الحالة، القلب الجسديّ هو صورة أو علامة مميِّزة لما هو الجوهر، والأكثر حميميّة، في الابن المتجسِّد وهو محبّته الإلهيّة والإنسانيّة، و”الدّليل الطّبيعي، أو الرّمز لمحبّته العظيمة” [28]، أكثر من أيّ جزء آخر في جسده.

السّجود للمسيح

49. من الضّروري التّأكيد على أنّ علاقتنا التي هي محبّة وسجود لشخص المسيح، إنّما هي انجذاب إلى المحبّة التي تمثِّلُها صورة قلبه. نحن نكرِّم تلك الصّورة التي تمثِّله، لكن السّجود هو للمسيح الحيّ، في لاهوته وفي كلّ إنسانيّته، لكي تغمرنا محبّته البشريّة والإلهيّة.

50. أيًّا كانت الصّورة المستخدمة، من المؤكّد أنّ قلب المسيح الحيّ، وليس الصّورة، هو موضوع سجودنا، لأنّه جزء من جسده الأقدس والقائم من الموت، وغير المنفصل عن ابن الله الذي اتّخذ هذا الجسد إلى الأبد. نحن نسجد له لأنّه “قلب أقنوم الكلمة، المتَّحد به بصورة لا تنفصل” [29]. نحن لا نسجد له بصورة منفردة، بل لأنَّ القلب هو الابن المتجسِّد نفسه، الذي يحيا ويُحِبّ ويَقبَلُ حبَّنا. لذلك، فإنّ كلَّ عمل محبّة وكلّ سجود لقلبه الأقدس، إنّما هو موجَّه “حقًّا إلى المسيح نفسه” [30]، وهذا القلب يشير إليه تلقائيًّا وهو “رمز وصورة معبّرة لمحبّة يسوع المسيح اللامتناهية” [31].

51. لهذا يجب ألا يفكِّر أحد أنّ هذه العبادة يمكن أن تفصلنا أو تصرفنا عن يسوع المسيح وعن محبّته. بل إنّها توجِّهنا إليه، وإليه وحده، بطريقة تلقائيّة ومباشرة، وهو يدعونا إلى صداقة غالية فيها حوار، ومودَّة، وثقة وسجود. هذا المسيح ذو القلب المطعون والمتَّقد هو نفسه الذي وُلِدَ في بيت لحم حُبًّا لنا، وتجوَّل في الجليل يشفي ويلاطف ويشفق، هو الذي أحبَّنا حتّى النّهاية، فاتحًا ذراعيه على الصّليب. وأخيرًا، هو نفسه الذي قام من الموت حيًّا ممجَّدًا.

تكريم صورته

52. جدير بالذّكر أنَّ صورة قلب المسيح، مع أنّها ليست هي موضوع السّجود بأيّ شكلٍ من الأشكال، إلّا أنّها ليست صورة عاديّة من الصّور التي يمكن أن نختارها. ليست شيئًا اخترعه رسَّام على لوحة الرّسم أو صمَّمها فنّان، “إنّها ليست رمزًا خياليًّا، إنّها رمز حقيقيّ، تمثِّل الجوهر، والينبوع الذي تدفَّق منه الخلاص لجميع البشريّة” [32].

53. إنّ الخبرة الإنسانيّة الشّاملة جعلت صورة قلب المسيح أمرًا فريدًا. في الواقع، مِمَا لا شكّ فيه، أصبح القلب، على مَرِّ التّاريخ وفي أنحاء العالم كلّه، رمزًا للحميميّة الشّخصيّة، وأيضًا للمودّة والانفعالات، والقدرة على الحبّ. وبغضّ النّظر عن كلّ تفسير علميّ، إنّ وضع اليد على قلب صديق يعبِّر عن مودّة خاصّة، وعندما تقع في الحبّ وتكون قريبًا من شخص تحبُّه، تتسارع خفقات القلب. وعندما تشعر بالهجر أو بالخداع من قبل شخص عزيز عليك، فإنّك تشعر بانقباض شديد في قلبك. لذلك، للتّعبير عن كلام صادق، صادر من صميم الشّخص، نقول: ”أقول لك من قلبي“. ولا يمكن للّغة الشّعريّة أن تتجاهل قوّة هذه الخبرة. ولذلك فمن المحتّم أن يكون للقلب عبر التّاريخ قُدرة رمزيّة فريدة، وليس الأمر فقط تقليدًا.

54. نفهم إذًا أنّ الكنيسة اختارت صورة القلب لتمثِّل محبّة يسوع المسيح البشريّة والإلهيّة، وجوهر شخصه الأكثر حميميّة. وإذا كان رسم القلب يحيط به لهب نار رمزًا بليغًا يذكِّرنا بمحبّة يسوع، فمن المناسب أن يكون هذا القلب جزءًا في صورة ليسوع المسيح. بهذه الطّريقة تزداد وضوحًا دعوته إلينا لتكون لنا معه علاقة شخصيّة للقاء والحوار. [33] صورة المسيح هذه التي نكرِّمها، والتي يظهر فيها قلبه المــُحِبّ، فيها أيضًا نظرة تدعو إلى اللقاء والحوار والثّقة، وفيها يَدان قويَّتان قادرتان على إسنادنا، وفيها فَمٌ يتحدّث إلينا بطريقة فريدة وشخصيّة جدًّا.

55. القلب له ميزة خاصّة، فهو ليس فقط عضوًا منفصلًا مستقِلًّا، بل هو المركز الموحِّد الحميم، والمعبِّر، في الوقت نفسه، عن كلّ الشّخص، وهذه مهمّة لا يقوم بها أيّ عضو من سائر أعضاء الجسد البشريّ. إذا كان هو المركز الحميم للشّخص كلّه، فهو جزء يمثِّل الكلّ. ويمكننا بسهولة تحريفه عن معناه إذا تأمَّلنا فيه بصورة منفصلة عن شخصيّة المسيح الكاملة. صورة القلب يجب أن تضعنا في علاقة مع يسوع المسيح في كلّ شخصيّته، وفي مركزه الموحِّد. وهذا المركز الموحِّد، يجب أن يوجّهنا إلى التّأمّل في المسيح بكلّ جمال وغنى إنسانيّته وألوهيّته.

56. وهذا يذهب بنا إلى أبعد من جاذبيّة الصّور المختلفة التي رُسِمَتْ لقلب المسيح، لأنّنا، أمام صور المسيح “لا نطلب منها شيئًا، ولا نضع ثقتنا فيها، كما كان يعمل الوثنيّون قديمًا”، لكن “بالصّور التي نقبِّلها ونكشف أمامها رؤوسنا ونسجد لها، نحن نسجد للمسيح الحيّ” [34].

57. علاوة على ذلك، قد تبدو بعض هذه الصّور غير جذّابة بالنّسبة لنا، وقد لا تدفعنا كثيرًا إلى المحبّة والصّلاة. هذا أمر ثانويّ، لأنّ الصّورة ليست سوى رَسمٍ محفِّزٍ، وكما يقول الشّرقيّون، ينبغي ألّا نظلّ نشير بإصبعنا إلى القمر. بينما الإفخارستيّا هي حضورٌ حقيقيٌّ وهي موضوع سجودنا، الصّورة هي في هذه الحالة مجرّد صورة، ولو أنّها مباركة، وتدعونا إلى أن نتجاوزها وإلى أن نوجِّه قلبنا إلى قلب المسيح الحيّ والاتّحاد به. الصّورة التي نكرّمها تدعونا، وتدُلُّنا، وتؤثّر فينا، حتّى نخصّص وقتًا للقاء مع المسيح والسّجود له، كما نتصوّره على أفضل وجه. هكذا، بالنّظر إلى الصّورة، نقف أمام المسيح، وأمامه “تعتكف المحبّة، وتتأمّل في السّرّ، وتتمتَّع به في صمت” [35].

58. بعد أن قلنا هذا كلّه، يجب ألّا ننسى أنّ صورة القلب تحدِّثنا عن الجسد البشريّ، وعن الأرض، ومن ثمّ فهي تُحَدِّثُنا أيضًا عن الله الذي أراد أن يدخل في تاريخنا، ويصير جزءًا من تاريخنا، ويشاركنا رحلتنا الأرضيّة. عبادة تجريديّة لن تكون حتمًا أفضل وأكثر أمانة للإنجيل، لأنّ الله أراد أن يظهر لنا ويكون قريبًا منّا بهذه الطّريقة الحسّيّة والقريبة منّا.

الحبّ الحِسِّي

59. ليس بالضّرورة أن يكون الحبّ والقلب متَّحدَيْن، لأنّ الكراهية واللامبالاة والأنانيّة يمكن أن تسود في قلب الإنسان. لكنّنا لا نصل إلى إنسانيّتنا الكاملة إن لم نخرج من أنفسنا، ولا نصبح أنفسنا بصورة كاملة إن لم نحِبّ. لذلك، فإنّ المركز الحميميّ في شخصنا، المخلوق للحبّ، لن يحقِّق خطّة الله إلّا إذا أحَبّ. وهكذا فإنّ رمز القلب هو في الوقت نفسه رمز إلى الحبّ.

60. إنّ ابن الله الأزليّ، المتعالي بلا حدود، أراد أن يحِبَّني بقلب إنسان. فصارت مشاعره الإنسانيّة السِّرَّ والعلامة للحبِّ اللامحدود والنّهائيّ. ولهذا فإنّ قلبه ليس رمزًا مادّيًّا يعبِّر فقط عن واقع روحيّ أو منفصل عن المادّة. إنّ النّظرة الموجَّهة إلى قلب الرّبّ تتأمَّل في واقع جسديّ، جسد الإنسان، وهو يجعل من الممكن أن يكون في المسيح انفعالات وعواطف بشريّة، مثلنا، ومحوَّلة تحَوُّلًا كاملًا بحبِّه الإلهيّ. ويجب أن تصل العبادة إلى المحبّة اللامتناهية لشخص ابن الله، لكن يجب أن نؤكّد أنّها لا تنفصل عن محبّته كإنسان، ولهذا الهدف تساعدنا صورة قلبه الجسديّ.

61. إن كان القلب، حتّى اليوم، يُنظر إليه في المشاعر الشّعبيّة على أنّه المركز العاطفيّ لكلّ إنسان، فهو أفضل ما يدُلّ على المحبّة الإلهيّة للمسيح، المتّحدة إلى الأبد وبشكل لا ينفصل، بمحبَّته الإنسانيّة الكاملة. قال البابا بيوس الثّاني عشر إنّ كلمة الله “في كلامه على حبِّ قلب يسوع نفسه، لا يعني الحُبَّ الإلهيَّ فقط، بل أيضًا مشاعر المودّة الإنسانيّة […]. لذلك فإنّ قلب يسوع المسيح، المتَّحد أقنوميًّا بشخص الكلمة الإلهيّ، يخفق بالتّأكيد بالحبّ وبكلّ عاطفة حسيّة أخرى” [36].

62. في آباء الكنيسة، وأمام بعض الذين أنكروا إنسانيّة المسيح الحقيقيّة أو قالوا إنّها نسبيّة، نجد تأكيدًا شديدًا على الحقيقة الملموسة والواقعيّة لعواطف الرّبّ البشريّة. وهكذا أكّد القدّيس باسيليوس أنّ تجسّد الرّبّ لم يكن شيئًا خياليًّا، بل “كان للرّبّ عواطف طبيعيّة” [37]. واقترح القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم مثلًا قال: “لو لم يكن له طبيعتنا البشريّة لما شعر بالحزن أكثر من مرّة” [38]. وقال القدّيس أمبروزيوس: “بما أنّه أخذ النّفس، فقد أخذ أهواء النّفس” [39]. ويقول القدّيس أغسطينس إنّ العواطف البشريّة هي واقع، وبمجرّد أن اتّخذها المسيح، لم تعد غريبة عن حياة النّعمة: “أخذ الرّبّ يسوع كلّ هذه النّتائج للضّعف البشريّ، كما أخذ الموت الجسديّ، ليس عن ضرورة فُرضت عليه، بل بإرادة راحمة. […] لذلك، إذا حدث للبعض أن يحزن ويتألّم في وسط التّجارب البشريّة، لا يحزن ولا يتألّم، ولا يعدّ نفسه متروكًا تركته نعمة المسيح” [40].  وأخيرًا يرى القدّيس يوحنّا الدّمشقي أنّ هذه الخبرة العاطفيّة الحقيقيّة التي عاشها المسيح في إنسانيّته هي دليل على أنّه اتّخذ طبيعتنا بكلِّيَّتِها لا جزئيًّا، ليفتديها ويحوِّلها بكلِّيَّتِها. اتّخذ المسيح كلّ العناصر التي تتكوّن منها الطّبيعة البشريّة، لكي يقدِّسَها كلَّها. [41]

63. يجدر بنا أن نذكر هنا فكرة أحد اللاهوتيّين الذي يعترف بأنّ “اللاهوت، تحت تأثير الفكر اليونانيّ، قد أحال، مدّة فترة طويلة، الجسد والمشاعر إلى عالم ما قبل الإنسان، أو إلى ما هو دون الإنسان، أو إلى ما هو تجربة للإنسان. لكن ما لم يجد له اللاهوت حَلًّا من النّاحية النّظريّة، وجد له حَلًّا في الحياة الرّوحيّة العمليّة. هذه الحياة الرّوحيّة والعبادات الشّعبيّة حفظت العلاقة حيّة مع الجوانب الجسديّة والنّفسيّة والتّاريخيّة في شخصيّة يسوع. فإنّ درب الصّليب، وتكريم جراحاته، وروحانيّة الدّم الثّمين، وتكريم قلب يسوع، والممارسات الإفخارستيّة […]. كلّ هذا ملأ الفجوات في اللاهوت، وغذَّى الخيال والقلب، الذي هو المحبّة والحنان في المسيح، والرّجاء والذّكرى، والشّوق والحنين. وسار العقل والمنطق في طرق أخرى” [42].

الحبّ الثّلاثيّ

64. ولا نتوقّف عند مشاعره الإنسانيّة، مهما كانت جميلة ومؤثّرة، لأنّنا عندما نتأمّل في قلب المسيح ندرك كيف تظهر في مشاعره النّبيلة والسّليمة، وفي حنانه، وفي ارتعاش عاطفته الإنسانيّة، الحقيقة الكاملة لحبِّه الإلهيّ اللامتناهي. قال البابا بندكتس السّادس عشر: “من أفق حبِّه اللامتناهي، أراد الله أن يدخل في حدود التّاريخ والحالة الإنسانيّة، فاتّخذ جسدًا وقلبًا، حتّى نتمكّن من التّأمّل فيه واللقاء باللامحدود في المحدود فيه، أيّ السّرّ غير المرئِيّ والذي لا يوصف في قلب يسوع النّاصريّ البشريّ” [43].

65. في الواقع، نرى في صورة قلب الرّبّ محبّة ثلاثيّة تدهشنا. أوّلًا، الحبُّ الإلهيّ اللامحدود الذي نجده في المسيح. ولكن لنفكِّرْ أيضًا في البُعدِ الرّوحيّ لإنسانيّة الرّبّ. من هذا المنطلق، فإنّ القلب “رمز للمحبّة المتقّدة التي، إذا أفيضت في نفسه، صارت الموهبة الثّمينة في إرادته الإنسانيّة”. وأخيرًا، القلب “رمز لحبّه الحِسِّي” [44].

66. إنّ هذا الحُبّ الثّلاثيّ ليس ثلاث طاقات منفصلة، تعمل بطريقة متوازية أو مستقلّة، بل تعمل وتعبِّر عن نفسها معًا في تدفُّق واحد مستمرّ للحياة: “في الواقع، في ضوء الإيمان، الذي به نؤمن أنّ الطّبيعة الإنسانيّة والإلهيّة متَّحدتان في شخص المسيح – يصير عقلنا قادرًا على تصوّر الرّوابط الوثيقة جدًّا بين الحبّ الحسِّي في قلب يسوع الجسديّ وحبِّه الرّوحيّ، البشريّ والإلهيّ” [45].

67. لذلك، بدخولنا في قلب المسيح، نشعر أنّنا محبوبون، وأنّ قلبًا بشريًّا يُحِبُّنا، وهو مملوء بالمشاعر والعواطف مثلنا. إنّ إرادته البشريّة تريد أن تحِبَّنا بحرّيّة، وهذه الإرادة الرّوحيّة مستنيرة استنارة كاملة بالنّعمة والمحبّة. عندما نصل إلى أعماق ذلك القلب، يغمرنا مجد لا يقاس لحبّه غير المحدود، حبِّ الابن الأزليّ، والذي لم يَعُدْ بإمكاننا أن نفصله عن حبِّه البشريّ. ففي حبِّه البشريّ، ومن دون الابتعاد عنه، نجد حبَّه الإلهيّ: نجد “اللامحدود في المحدود” [46].

68. إنّ تعليم الكنيسة الثّابت والنّهائي هو أنّ عبادتنا لشخصه هي عبادة واحدة وتشمل بما لا يقبل الانفصال طبيعته الإلهيّة وطبيعته البشريّة. علَّمت الكنيسة منذ العصور القديمة أنّه يجب “أن نعبد المسيح الواحد نفسه، ابن الله وابن الإنسان، في طبيعَتَين غير منفصلَتَين وغير منقسمَتَين” [47]، وذلك “بعبادة واحدة […]، لأنّ الكلمة صار بشرًا” [48]. لا يُعبَدُ المسيح بأيّ حال من الأحوال “في طبيعَتَين، فينشأ عن ذلك عبادتان”، بل “كلمة الله المتجسِّد في جسده يُعبد عبادة واحدة” [49].

69. أراد القدّيس يوحنّا الصّليب أن يقول إنّ محبّة المسيح القائم من الموت والتي لا تقاس ليست، في الخبرة الصّوفيّة، غريبة عن حياتنا. اللامحدود يتنازل بطريقة ما، حتّى نقدر أن نعيش، في قلب المسيح المنفتح، لقاء حبّ متبادل حقيقيّ: “يمكن للعصفور الذي يطير على ارتفاع منخفض أن يمسك بالنّسر الذّهبي الذي يطير على ارتفاع عالٍ، إذا انخفض النّسرُ وأراد أن يجعل العصفور يمسك به” [50]. ويضيف موضِّحًا: “عندما يرى الزّوجة جريحة بحبِّه، ويسمع أنينها، يصير هو أيضًا جريحًا بحبّها. لأنّ جرح الواحد بين المحبّين هو جرح الآخر وكلاهما لديه نفس الشّعور” [51]. يرى هذا الصّوفيّ في صورة جنب المسيح المطعون دعوة إلى الاتّحاد الكامل مع الرّبّ. هو الأيّل الجريح، وهو جريح منذ أن نسمح لحبّه بأن يؤثّر فينا، ينزل إلى مجاري المياه ليروي عطشه، ويجد الرّاحة في كلّ مرّة نلجأ إليه:

“ارجعي أيّتها الحمامة 

لأنّ الأيِّل الجريح

يُطِلّ على أعلى التّلّة

وفي نسيم تحليقك يتنسَّم البُرُودَ” [52].

آفاق ثالوثيّة

70. إنّ عبادة قلب يسوع هي عبادة كريستولوجيّة واضحة. إنّها تأمّل مباشر في المسيح الذي يدعو إلى الاتّحاد به. وهذا أمر مشروع إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تقوله الرّسالة إلى العبرانيّين: أن نركض في سباقنا “مُحَدِّقينَ إِلى مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ” (12، 2). ولكن، لا يمكننا أن نتجاهل أنّ يسوع، في الوقت نفسه، يقول لنا إنّه طريق للذّهاب إلى الآب: “أنا الطَّريقُ […]. لَا يَمْضِي أَحَدٌ إِلى الآبِ إلَّا بِي” (يوحنّا 14، 6). إنّه يريد أن يسير بنا إلى الآب. ولهذا فإن بشارة الكنيسة، منذ البدء، لا تدعنا نتوقّف عند يسوع المسيح، بل تقودنا إلى الآب. وهو في النّهاية، ملء الوجود الذي يجب أن يُمَجَّد. [53]

71. لنركِّز، على سبيل المثال، على الرّسالة إلى أهل أفسس، حيث يمكننا أن نرى بوضوح أنّ عبادتنا موجَّهة نحو الآب: “لِهذا أَجْثو على رُكبَتَيَّ لِلآب” (أفسس 3، 14). “إِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا” (أفسس 4، 6). “اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيء” (أفسس 5، 20). الآب هو الذي إليه نحن نسير (راجع 1 قورنتس 8، 6). ولهذا قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني إنّ “الحياة المسيحيّة كلّها هي بمثابة حَجٍّ كبير إلى بيت الآب” [54]. وهذا ما اختبره القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ في طريقه إلى الاستشهاد: “في داخلي ماءٌ حيٌّ يوَشوِش ويقول لِي: تعال إلى الآب!” [55].

72. إنّه أوّلًا وقبل كلّ شيء أبو يسوع المسيح: “تَباركَ اللّهُ أَبو رَبِّنا يسوعَ المسيح” (أفسس 1، 3). إنّه “إِلهُ رَبِّنا يسوعَ المسيح، أَبو المــَجْد” (أفسس 1، 17). عندما صار ابن الله إنسانًا، كانت كلّ رغبات وتطلّعات قلبه البشريّ موجَّهة إلى الآب. إن رأينا كيف كان المسيح يرجع دائمًا إلى الآب، يمكننا أن ندرك هذا الانجذاب في قلبه البشريّ، وهذا التّوجّه الكامل والدّائم نحو الآب. [56] قصّته على أرضنا هذه كانت رحلة يشعر فيها قلبه البشريّ بدعوة دائمة للذّهاب إلى الآب. [57]

73. نعلَم أنّ الكلمة الآراميّة التي كان يخاطب بها الآب هي ”أبَّا“ وتعني ”أبتِ“. وفي زمانه كان البعض ينزعج من هذه الألفة (راجع يوحنّا 5، 18). إنّه التّعبير الذي استخدمه يسوع للتّواصل مع الآب عندما ظهرت آلام الموت: “أَبَّا، يا أَبَتِ! إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء” (مرقس 14، 36). لقد اعترف دائمًا أنّ الآب يحبُّه: “لأنَّكَ أحبَبْتَني قَبلَ إنشَاءِ العَالَم” (يوحنّا 17، 24). وكان يسوع، في قلبه البشريّ، في بهجة شديدة عندما يسمع الآب يقول له: “أَنتَ ابنِي الحَبِيب، عَنكَ رَضِيْت” (مرقس 1، 11).

74. يقول الإنجيل الرّابع إنّ ابن الآب الأزليّ كان دائمًا “في حِضْنِ الآب” (يوحنّا 1، 18) [58]. ويؤكّد القدّيس إيرينيوس أنّ “ابن الله كان دائمًا في حضرة الآب” [59]. ويؤكّد أوريجانس أنّ الابن “مستمرٌّ في التّأمّل المتواصل في الهُوّة الأبويّة” [60]. ولهذا السّبب، عندما صار الابن إنسانًا، كان يقضي الليالٍ في الصّلاة مع الآب الحبيب على قمّة الجبل (راجع لوقا 6، 12). قال: “يَجِبُ عَلَيَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي” (لوقا 2، 49). ولننظُرْ إلى يسوع يسبِّح الآب: “تَهَلَّلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس فقال: أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّماءِ والأَرض” (لوقا 10، 21). وكانت كلماته الأخيرة، المملوءة بالثّقة: “يا أبَتِ، فِي يَدَيْكَ أَجعَلُ رُوحي” (لوقا 23، 46).

75. لنوجِّه نظرنا الآن إلى الرّوح القدس الذي يملأ قلب المسيح ويضطرم فيه. لأنّ قلب يسوع، كما قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، هو “تحفة الرّوح القدس” [61]، وهو ليس مجرّد شيء من الماضي، لأنّ “عمل الرّوح القدس حيٌّ في قلب المسيح، وقد نسب يسوع إليه إلهام رسالته (راجع لوقا 4، 18؛ أشعيا 61، 1) ووعد بإرساله في أثناء العشاء الأخير. إنّه الرّوح الذي يساعدنا على فهم غنى الرّمز في جنب المسيح المطعون، الذي ولدت منه الكنيسة (راجع دستور في الليتورجيّا المقدّسة، المجمع المقدّس، (5″ [62]. وبالإيجاز، “الرّوح القدس وحده يستطيع أن يفتح أمامنا ملء ”الإنسان الدّاخليّ“، الذي في قلب المسيح. وهو وحده القادر على نقل قوّة هذا الامتلاء تدريجيًّا إلى قلوبنا البشريّة” [63].

76. إذا حاولنا أن نتعمّق في سرّ عمل الرّوح، نرى أنّه يئِنُّ فينا، ويقول ”أبَّا“، “والدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: أَبَّا، يا أَبتِ” (غلاطية 4، 6). في الواقع “وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله” (رومة 8، 16). إنّ عمل الرّوح القدس في قلب المسيح البشريّ يؤدّي باستمرار إلى هذا الانجذاب نحو الآب. وعندما يوحِّدنا مع مشاعر المسيح بالنّعمة، فهو يجعلنا شركاء في علاقة الابن مع الآب، وهو “روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!” (رومة 8، 15).

77. تتحوَّل علاقتنا مع قلب المسيح، بدافع الرّوح الذي يوجِّهنا نحو الآب، مصدر الحياة وأصل النّعمة. المسيح نفسه لا يريد أن نتوقّف عنده فقط. محبّة المسيح هي “وَحْيُ رحمةِ الآب” [64]. ورغبته هي أن نذهب، مدفوعين بالرّوح المتدفِّق من قلبه، ”معه وفيه“ إلى الآب. فالمجد موجّه إلى الآب “بالمسيح” [65]، و”مع المسيح” [66]، و”في المسيح” [67]. علَّم القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّ “قلب المخلِّص يدعونا إلى العودة إلى محبّة الآب، التي هي ينبوع كلّ محبّة حقيقيّة” [68]. هذا هو الرّوح القدس، الآتي إلينا من قلب المسيح، والذي يريد أن يغذِّيه في قلوبنا. ولهذا، تتَّجه الليتورجيّا دائمًا، بقوّة عمل الرّوح المحيِي، إلى الآب، من قلب المسيح القائم من الموت.

تعليمات السّلطة الكنسيّة الأخيرة

78. كان قلب المسيح حاضرًا بطرق مختلفة في تاريخ الرّوحانيّة المسيحيّة. ظهر في الكتاب المقدّس وفي القرون الأولى للكنيسة في صورة جنب الرّبّ المجروح، كمصدر للنّعمة ونداء للقاء محبّة حميم. وهكذا ظهر باستمرار في شهادة قدّيسين كثيرين حتّى يومنا هذا. في القرون الأخيرة، صارت هذه الرّوحانيّة عبادة حقيقيّة لقلب الرّبّ.

79. أشار البعض من أسلافي إلى قلب المسيح ودعَوْننا للانضمام إليه بتعابير مختلفة جدًّا. في نهاية القرن التّاسع عشر، دعانا لاون الثّالث عشر إلى تكريس أنفسنا له، وفي ندائه، جمع في الوقت نفسه بين الدّعوة إلى الاتّحاد بالمسيح والاندهاش أمام بهاء حبِّه غير المحدود. [69] وبعد ثلاثين سنة تقريبًا، قدَّم بيوس الحادي عشر هذه العبادة على أنّها خلاصة للإيمان المسيحيّ. [70] علاوة على ذلك، أكّد بيوس الثّاني عشر أنّ عبادة القلب الأقدس تعبِّر بطريقة ممتازة، في خلاصة سامية، عن عبادتنا ليسوع المسيح. [71]

80. ومؤخّرًا، قدّم القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني تطوّر هذه العبادة في القرون الماضية كرّدة فعل على نمُوِّ طرق الرّوحانيّة المتزمِّتة، وكأنّ المؤمن لا جسد له، وقد نسي رحمة الله، وهذه العبادة هي في الوقت نفسه نداء معاصر إلى عالم ٍ يحاول أن يبني نفسه بدون الله: “إنّ عبادة القلب الأقدس، كما تطوّرت في أوروبا منذ قرنين من الزّمن، تحت تأثير الخبرة الصّوفيّة للقدّيسة مارغريتا مريم ألاكوك (Margherita Maria Alacocque)، كانت بمثابة الرّد على تزمّت أتباع جانسينيوس، الذي أدّى به الأمر إلى جهل رحمة الله غير المحدودة. […] يحتاج إنسان عام 2000 إلى قلب المسيح ليعرف الله وليعرف نفسه، إنّه يحتاج إليه لبناء حضارة المحبّة” [72].

81. البابا بنديكتس السّادس عشر دعانا إلى أن نرى في قلب المسيح حضورًا حميمًا كلّ يوم في حياة كلّ واحد وواحدة: “كلّ شخص يجب أن يكون لحياته محور ومصدر حقيقة وصلاح يستمدّ منه قوّة لمواجهة مختلف الحالات، ومتاعب الحياة اليوميّة. كلّ واحد منّا، إذا صمت، يحتاج إلى سماع ليس فقط خفقات قلبه، بل أيضًا، ما هو أعمق، إلى خفقان حضورٍ يثق به، يمكن إدراكه بحواسّ الإيمان، وما هو أكثر واقعيّة: حضور المسيح، قلب العالم” [73].

تحليل متعمّق والأوضاع الرّاهنة

82. إنّ الصّورة المعبّرة والرّمزيّة لقلب المسيح ليست الوسيلة الوحيدة التي يعطينا إياها الرّوح القدس لنجد محبّة المسيح، وهي تحتاج دائمًا إلى مزيد من التوضيح والنّور والتّجديد، بالتّأمّل وقراءة الإنجيل والنّضج الرّوحي. سبق البابا بيوس الثّاني عشر وقال إنّ الكنيسة لا تدَّعي “أنّها ترى وتسجد في قلب يسوع، للصّورة الرّسميّة والكاملة للحبّ الإلهيّ الذي ترمز إليه الصّورة، لأنّه ليس من الممكن التّعبير تعبيرًا مناسبًا عن الجوهر الحميم، لهذا الحبّ في صورة مخلوقة” [74].

83. إنّ عبادة قلب المسيح ضروريّة لحياتنا المسيحيّة لأنّها تعني انفتاحنا المليء بالإيمان والسّجود على سِرّ محبّة المسيح الإلهيّة والإنسانيّة، لدرجة أنّنا نستطيع أن نؤكّد مرّة أخرى أنّ القلب الأقدس هو ملخَّصٌ للإنجيل. [75] يجب أن نذكر أنّ الرّؤى أو الظّواهر الصّوفيّة التي يرويها بعض القدّيسين الذين اقترحوا بشغف كبير عبادة قلب يسوع، ليست موضوعًا يجب على المؤمنين تصديقه كما لو كانت هذه الرّؤى والظّواهر كلمة الله. [76] فهي محفِّزات جميلة يمكن أن تحفِّزنا وتحملنا على أعمال تقوى جيِّدة جدًّا، لكن يجب ألّا يشعر أحد بأنّه مضطَرٌّ إلى استخدامها، إن لم يجد فيها ما يساعده في مسيرته الرّوحيّة. ويجب أن نذكر دائمًا، كما قال البابا بيوس الثّاني عشر، أنّه لا يمكن القول إنّ هذه العبادة “يعود أصلها إلى وحْيٍ خاصّ” [77].

84. إنّ اقتراح المناولة الإفخارستيّة في أوّل جمعة من كلّ شهر، مثلًا، كان رسالة قويّة في وقت توقَّف فيه كثير من النّاس عن التّقدّم إلى المناولة لأنّهم لم يكونوا واثقين بالمغفرة الإلهيّة، وبرحمته، وكانوا يعتبرون المناولة مثل مكافأة للكاملين. في هذه البيئة الجانسينيّة، أدّى التّرويج لهذه الممارسة إلى خير كبير، حيث ساعد على الاعتراف في الإفخارستيّا بحبّ قلب المسيح المجانيّ والقريب منّا، والذي يدعونا إلى الاتّحاد به. ويمكن أن نؤكّد أنّ هذه الممارسة تصنع لنا خيرًا كبيرًا لسبب آخر: لأنّنا في خِضَمّ دوّامة العالم الحاليّ وطلبنا المهووس لوقت الفراغ والاستهلاك واللهو والهواتف المحمولة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، ننسى أن نغذِّيَ حياتنا بقوّة القربان الأقدس.

85. كذلك يجب ألّا يشعر أحد بأنّه مجبر على إقامة ساعة سجود كلّ يوم خميس. ولكنّنا نوصي به. عندما يقوم شخص بهذه الممارسة بحرارة، مع عدد من الإخوة والأخوات، ويجد في الإفخارستيّا كلّ حبّ قلب المسيح، “فإنّه يسجد مع الكنيسة للرّمز والصّورة للمحبّة الإلهيّة، التي جاءت لتحِبّ أيضًا الجنس البشريّ، بقلب الكلمة المتجسِّد” [78].

86. كان هذا أمرًا يصعب فهمه للعديد من الجانسينيّين، الذين كانوا ينظرون بازدراء إلى كلّ ما هو إنسانيّ وعاطفيّ وجسديّ، وبعبارة أخرى اعتبروا أنّ هذه العبادة كانت تبعدنا عن أنقى العبادات لله العليّ. قال بيوس الثّاني عشر إنّها “الصّوفيّة المزيّفة” [79] وهي موقف نخبويّ لبعض المجموعات التي كانت ترى الله عاليًا جدًّا ومنفصلًا جدًّا وبعيدًا جدًّا، وتوصّلوا إلى القول إنّ هذه الممارسات الحسّيّة للتقوى الشّعبيّة خطيرة وبحاجة إلى مراقبة الكنسية.

87. يمكن القول إنّنا نواجه اليوم، أكثر من أيّام الجانسينيّة، تقدّمًا شديدًا في العلمنة التي تطمح إلى عالم خالٍ من الله. علاوة على ذلك، كَثُرَت في المجتمع أشكال مختلفة من التّديّن لا مرجعيّة فيها إلى الله، ولا علاقة شخصيّة مع إله يحبّ، وهذه مظاهر جديدة لـ ”روحانيّة بلا جسد“. هذا صحيح. ومع ذلك، يجب أن أوضّح أنّ الثّنائيّة الجانسينيّة الضَّارّة ظهرت في الكنيسة من جديد بأوجه جديدة، وجاءت بقوّة جديدة في العقود الأخيرة. لكنّها مظهر من مظاهر الغنوصيّة التي ألحقت ضررًا بالحياة الرّوحيّة في القرون الأولى للإيمان المسيحيّ، وتجاهلت حقيقة ”خلاص الجسد“. لهذا أنظر إلى قلب المسيح وأدعو إلى تجديد هذه العبادة. وآمل أن تتمكّن هذه العبادة من أن تجذبنا إلى حساسيّات اليوم أيضًا، وبهذه الطّريقة تساعدنا لمواجهة هذه الثّنائيّات القديمة والجديدة التي تقدِّم لها هذه العبادة الجواب المناسب.

88. أودّ أن أضيف أنّ قلب المسيح يحرِّرُنا في الوقت نفسه من ثنائيّة أخرى: ثنائيّة الجماعات والرّعاة الذين يركِّزون فقط على الأنشطة الخارجيّة، والإصلاحات الهيكليّة الخالية من الإنجيل، والمنظمّات الضّاغطة على غيرها، والمشاريع الدّنيويّة، والأفكار العلمانيّة، والمقترحات المختلفة التي تقدَّم لنا كأنّها ضروريّة ويجب فرضها على الجميع. ينجم عن هذا مرارًا مسيحيّة تنسى حنان الإيمان، وفرح التّفاني في الخدمة، وحماسة نقل الرّسالة من شخص إلى آخر، وإدراك جمال المسيح، والشّكر البالغ للصّداقة التي يقدِّمُها، وللمعنى النّهائي التي تعطيه للحياة الشّخصيّة. باختصار، إنّه شكل آخر من أشكال الفلسفة المتعالية الخادعة، وهي أيضًا بلا جسد.

89. هذه الأمراض الحاليّة، التي، إذا سمحنا لأنفسنا بالوقوع فيها، لا نشعر حتّى بالرّغبة في الشّفاء منها، تدفعني إلى أن أقترح على الكنيسة جمعاء تعمّقًا جديدًا في حُبِّ المسيح المتمثِّل في قلبه الأقدس. هنا نقدر أن نجد الإنجيل كلّه، وهنا ملخَّص الحقيقة التي نؤمن بها، وهنا ما نسجد له وما نسعى إليه في الإيمان، وما نحتاج إليه بشدّة.

90. أمام قلب المسيح، يمكن العودة إلى خلاصة الإنجيل المتجسِّد، وإلى عيش ما اقترحْتُه قبل قليل، متذكّرًا القدّيسة تريزا الطّفل يسوع العزيزة: “الموقف الأنسب هو أن نضع ثقة القلب خارج أنفسنا: في الرّحمة غير المحدودة لإله يحِبُّ بلا حدود، والذي أعطانا كلّ شيء على صليب يسوع” [80]. عاشتها تريزا بصورة مكثَّفة لأنّها اكتشفت في قلب المسيح أنّ الله محبّة: “أعطاني رحمته غير المحدودة، وفيها أتأمّل وأسجد لسائر الكمالات الإلهيّة” [81]. ولهذا السّبب فإنّ الصّلاة الأكثر شعبيّة، والموجَّهة مثل السّهم إلى قلب المسيح، تقول ببساطة: “أثق بك” [82]. ولا حاجة لكلام آخر.

91. في الفصول التّالية سنسلِّط الضّوء على جانبَيْن أساسيَّيْن يجب أن تجمع بينهما اليوم عبادة القلب الأقدس لمواصلة تغذيتنا وتقريبنا من الإنجيل: الخبرة الرّوحيّة الشّخصيّة والتزام حياة الجماعة وحياة الرّسالة.

الفصل الرّابع

الحبّ الذي يعطيك لتشرب

92. لِنَعُدْ إلى الكتب المقدّسة، إلى النّصوص الملهمة التي هي المكان الرّئيسيّ الذي نجد فيه الوحيّ. فيها وفي تقليد الكنيسة الحيّ نجد ما أراد الله نفسه أن يقول لنا عبر التّاريخ. ومن قراءة نصوص العهدَين القديم والجديد، سنجمع بعضًا من آثار كلمة الله في المسيرة الرّوحيّة الطّويلة لشّعب الله.

عطش إلى محبّة الله

93. يُظهِر الكتاب المقدّس أنّ الله وعد الشّعب الذي سَارَ في الصّحراء وكان ينتظر التّحرير، بمياه غزيرة منعشة: “وتستَقونَ المِياهَ مِن يَنابيعَ الخَلاصِ مُبتَهِجين” (أشعيا 12، 3). استخدمت النّبؤات المسيحانيّة صورة ينبوع الماء المطهِّر: “وأَرُشُّ عليكم ماءً طاهِرًا، فتَطهُرونَ […] وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا” (حزقيال 36، 25– 26). إنّه الماء الذي سيعيد إلى الشّعب الحياة الكاملة، مثل الينبوع الذي يتدفَّق من الهيكل ويوجد في مجراه الحياة والصّحّة: “إِذا على شاطِئ النَّهرِ أَشْجاٌر كَثيرةٌ جِدًّا مِن هُنا ومِن هُناك. […] وكُلّ نَفْسٍ حيَةٍ تَدِبُّ حَيثُ يَبلُغُ مَجْرى النَّهرِ تَحْيا […]، لأَنَّ هذه المِياهَ تَبلُغُ إِلى هُناكَ وتُصبِحُ طَيِّبَة، فكُلُّ ما يَبلُغُ إِلَيه النَّهرُ يَحْيا” (حزقيال 47، 7. 9).

94. عيد العرش عند اليهود (السُّكُّوت)، الذي يحتفل بذكرى أربعين سنة في الصّحراء، اتّخذ تدريجيًّا رمز الماء كعنصر أساسيّ، وصار فيه طقس تقديم الماء كلّ صباح، وكان هذا الطّقس يصير احتفالًا كبيرًا جدًّا في آخر يوم من العيد: فيسيرون في تطواف كبير إلى الهيكل حيث، يطوفون سبع مرّات حول المذبح، ثمّ يقدَّم الماء لله وسط ضجيج كبير. [83]

95. ثمّ جاء إعلان مجيء الزّمن المسيحانيّ في صورة الينبوع المتدفِّق للشّعب: “وأُفيضُ على بَيتِ داوُدَ وعلى سُكَّانِ أُورَشَليمَ روحَ النِّعمَةِ والتَّضَرُّعات، فيَنظُرونَ إِلَيَّ، إِلَى الَّذي طَعَنوه […] في ذلك اليَوم، يَكون يَنبوعٌ مَفْتوحٌ لِبَيتِ داوُدَ ولِسُكَّانِ أُورَشَليم، لِلخَطيئَةِ والرِّجْس” (زكريّا 12، 10؛ 13، 1).

96. إنسانٌ مطعون، وينبوع مفتوح، وروح نعمة وصلاة. لقد رأى المسيحيّون الأوّلون بشكلٍ واضح أنّ هذا الوعد قد تحقّق في جنب المسيح المفتوح، وهو الينبوع الذي تأتي منه الحياة الجديدة. نرى في إنجيل يوحنّا أنّ هذه النّبوءة تحقَّقت في المسيح. نتأمّل في جنبه المفتوح، الذي منه يتدفَّق ماء الرّوح: “لكِنَّ واحِدًا مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء” (يوحنّا 19، 34). ثمّ يضيف الإنجيليّ: “فَيَنظُرُونَ إلَى الَّذِي طَعَنُوهُ” (يوحنّا 19، 37). فهو يتابع نبؤة النّبي الذي وعد الشّعب بينبوع مفتوح في أورشليم، عندما يوجِّهون نظرهم إلى المطعون (راجع زكريا 12، 10). الينبوع المفتوح هو جنب يسوع الجريح.

97. نلاحظ أنّ الإنجيل نفسه أعلن عن هذه اللحظة المقدّسة، في “آخِرِ يَومٍ مِنَ العيد”، عيد العرش (يوحنّا 7، 37). إذّاك وقَفَ يسوع ورفَعَ صوتَه قال للشّعب المحتفل بالتّطواف الكبير: “إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ، ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ […] ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ” (يوحنّا 7، 37–38). وليتمَّ ذلك، كان لا بدّ من أن تأتي ”ساعته“، لأنّ يسوع “لم يكن قد تمجَّد بعد” (يوحنّا 7، 39). وتَمَّ كلّ شيء في ينبوع الصّليب المتدفِّق.

98. في سفر الرّؤيا، يظهر المطعون من جديد: “ستَراه كُلُّ عَينٍ حَتَّى الَّذينَ طَعَنوه” (رؤيا يوحنّا 1، 7)، والينبوع المفتوح: “ومَن كانَ عَطْشانَ فلْيَأتِ، ومَن شاءَ فلْيَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا” (رؤيا يوحنّا 22، 17).

99. الجنب المطعون هو في الوقت نفسه عرش المحبّة، المحبّة التي أعلنها الله لشعبه بكلمات كثيرة ومختلفة تستحق أن تُذكَر:

“صِرتَ كَريمًا في عَينَيَّ، ومَجيدًا فإِنِّي أَحبَبتُكَ” (أشعيا 43، 4).

“أَتَنْسى المــَرأَةُ رَضيعَها، فلا تَرحَمُ آبنَ بَطنِها؟ حتَّى ولَو نَسيَتِ النِّساءُ، فأَنا لا أَنْساك. هاءَنَذا على كَفَّيَّ نَقَشتُك” (أشعيا 49، 15-16).

“وإِنِ ابتَعَدَتِ الجِبالُ وتَزَعزَعَتِ التِّلال، فإِنَّ رَأفَتي لن تَبتَعِدَ عنك، وعَهدَ سَلامي لن يَتَزَعزَع” (أشعيا 54، 10).

“أَحبَبتُك حُبًّا أَبَدِيًّا، فلِذلك اجتَذَبتُك بِرَحمَة” (إرميا 31، 3).

“في وَسَطِكِ الرَّبُّ إِلهُكِ، الجَبَّارُ الَّذي يُخَلِّص، ويُسَرُّ بِك فرَحًا، ويُجَدِّدُك بِمَحَبَّتِه، ويَبتَهِجُ بِك بِالتَّهْليل” (صفنيا 3، 17).

100. يذهب النّبي هوشع إلى أبعد من ذلك فيتكلّم على قلب الله: “بِحِبالِ البَشرِ، بِرَوابِطِ الحُبِّ اجتَذَبتُهم” (هوشع 11، 4). وبسبب هذا الحبّ المزدرَى استطاع أن يقول: “قدِ انقَلَبَ فيَّ فُؤادي، واضطَرَمَت أَحْشائي” (هوشع 11، 8). لكن ستنتصر الرّحمة دائمًا (راجع هوشع 11، 9)، وستبلغ أقصى تعبير لها في المسيح، كلمة المحبّة النّهائيّة.

101. في قلب المسيح المطعون، تتجمَّع كلّ تعابير المحبّة في الكتب المقدّسة، المكتوبة في الجسد. فهو ليس حبًّا معلنًا بصورة هيِّنة، بل جنبُه المفتوح هو ينبوع الحياة لجميع الذين يحبّهم، وهو الينبوع الذي يروي عطش شعبه. وكما علّم القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، “إنّ العناصر الأساسيّة لهذه العبادة تنتمي، بشكل دائم، إلى روحانيّة الكنيسة عبر تاريخها، لأنّ الكنيسة، منذ البداية، وجَّهت نظرها إلى قلب المسيح المطعون على الصّليب” [84].

أصداء الكلمة في التّاريخ

102. لننظر في بعض النّتائج التي أحدثتها كلمة الله هذه في تاريخ الإيمان المسيحيّ. ذكر العديد من آباء الكنيسة، ولا سيِّما مِن آسيا الصّغرى، أنّ الجرح في جنب يسوع هو أصل الماء المتدفِّق من الرّوح: من الكلمة ومن نعمة الكلمة ومن الأسرار التي توصِّلُها. قوّة الشّهداء تنبع من “الينبوع السّماويّ، ينبوعِ الماء الحيّ المتدفِّق من أحشاء المسيح” [85]، أو كما ترجم روفينوس (Rufinus) من “الينابيع السّماويّة الأبديّة المتدفِّقة من أحشاء المسيح” [86]. نحن المؤمنين المولودين ثانية من الرّوح، أتينا من مغارة تلك الصّخرة، “خرَجْنا من قلب المسيح” [87]. وجنبه الجريح، الذي نرى فيه قلبه، مليء بالرّوح القدس وتأتينا منه أنهار الماء الحيّ: “ينبوع الرّوح كلّه في المسيح” [88]. والرّوح الذي نقبله لا يبعدنا عن الرّبّ القائم من الموت، بل يملأنا به، لأنّنا إذا ارتوينا من الرّوح ارتوينا من المسيح نفسه: “اشرب من المسيح، فهو الصّخرة التي توزِّع الماء. اشرب من المسيح فهو ينبوع الحياة. اشرب من المسيح فهو النّهر الذي تفرِّح قوّته مدينة الله. اشرب من المسيح، فهو السّلام. اشرب من المسيح فمن قلبه تتدفَّق مياه الحياة” [89].

103. كان القدّيس أغسطينس رائدًا في عبادة قلب يسوع الأقدس، كمكان لقاء شخصيٍّ مع الرّبّ. بالنّسبة له، قلب المسيح ليس فقط مصدر النّعمة والأسرار، بل هو شخص، وقلبه رمز للاتّحاد الحميم مع المسيح، ولقاء المحبّة. وفيه يكمن أصل الحكمة الكبرى التي هي معرفته. في الواقع، كتب أغسطينس أنّ يوحنّا الحبيب الذي أمال رأسه إلى صدر يسوع في العشاء الأخير، واقترب من مكان الحكمة السّرّي. [90] لسنا أمام فكرٍ نظريٍّ بسيط في حقيقة لاهوتيّة. قال القدّيس إيرونيمس إنّ الإنسان القادر على التّأمّل “لا يتمتَّع بجمال مجرى الماء، بل يشرب الماء الحيّ من جنب الرّبّ” [91].

104. عاد القدّيس برناردس إلى رمزيّة جنب الرّبّ المطعون، ورأى فيه بصراحة كشفًا وعطيّة لمحبّة قلبه. من خلال الجرح، يصبح في متناولنا ويمكننا أن نجعل سرّ المحبّة والرّحمة العظيم سرًّا فينا: “إنّني آخذ من قلب الرّبّ ما ينقصني، لأنّه مليء بالرّحمة، وفيه ثغرات كثيرة تنزل منها الرّحمة وتَصِل إليَّ. لقد ثقبوا يديه ورجليه، وطعنوا جنبه بحربة، ومن هذه الفتحات أستطيع أن أرتشف العسل من الصّخرة والزّيت من الحجر الصّلب، أي أتذوّق وأرى ما أعذب الرّبّ. […] الحديد نفسه واقترب من قلبه، فهو لا يقدر بعد ذلك أن لا يشفق على ضعفي. جراح الجسد فتحت الباب إلى سرّ قلبه، وظهر السّرّ الكبير والعلامة للرّحمة، وظهرت أحشاء رحمة إلهنا” [92].

105. يظهر هذا الفكر بصورة خاصّة في كتابات ويليام دي سان تييرّي (Guglielmo di Saint-Thierry)، الذي يدعونا إلى أن ندخل في قلب يسوع، الذي يغذِّينا في قلبه. [93] وهذا ليس بغريب، إذا تذكَّرنا أنّه بالنّسبة لهذا المؤلِّف “فنّ الفنون هو فنّ الحبّ […] والحبّ يعطيه خالق الطّبيعة. الحبّ هو قوّة الرّوح، وهو يقودها مثل دَفعٍ طبيعيّ إلى مكانه وغايته” [94]. المكان المناسب له، حيث الحبّ هو السّيّد المطلق، هو قلب المسيح: “يا ربّ، إلى أين تذهب بأولئك الذين تعانقهم وتحملهم بين ذراعيك إلّا إلى قلبك؟ قلبك، يا يسوع، هو مَنُّ لاهوتك العَذْب (راجع العبرانيّين 9، 4) الذي تحفظه في إناء من ذهب في نفسك التي تفوق كلّ معرفة. طوبى لمن تعانقهم وتقودهم إلى هناك. طوبى لمن يُغمَرون في هذه الأعماق، وتُخبِّئُهم في سرّ قلبك” [95].

106. يوحِّد القدّيس بونافنتورا الخطَّين الرّوحيَّين حول قلب المسيح: فبينما يقدّمه على أنّه مصدر الأسرار والنّعمة، يقترح أن يصبح هذا التّأمّل علاقة صداقة، ولقاء حبّ شخصيّ.

107. من جهة، يساعدنا هذا الفكر على التّعرّف على جمال النّعمة والأسرار التي تتدفَّق من ينبوع الحياة الذي هو جنب الربِّ المجروح: “لكي تتكوَّن الكنيسة من جنب المسيح المـُضجَعِ على الصّليب، ويتِمَّ الكتاب الذي يقول: ”فينظرون إلى الذي طعنوه“، إذ ضربه واحد من الجنود برمح ففتح جنبه. سمحت العناية الإلهيّة بذلك، فخرج من الجرح دمٌ وماء، ثمن خلاصنا، الذي تدفَّق من ينبوع القلب الخفِيّ، فأعطى أسرار الكنيسة القوّة لتمنح حياة النّعمة، وصار للذين يحيَوْن في المسيح مثل كأس مملوءة من الينبوع الحيّ الذي يتدفّق إلى الحياة الأبديّة” [96].

108. ثمّ يدعونا القدّيس بونافنتورا إلى القيام بخطوة أخرى، حتّى لا يصبح الوصول إلى النّعمة شيئًا مثل السّحر، أو نوعًا من الفيض بحسب الأفلاطونيّين الجدد، بل يكون علاقة مباشرة مع المسيح وسُكنى في قلبه، والذي يشرب هو صديق المسيح، هو قلب يحِبّ: “قومي إذن يا نفسي، صديقة المسيح، وكوني الحمامة التي تبني عشَّها في جدار المغارة. وكوني العصفور الذي وجد له مأوى، ولا يكِفُّ عن حراسته، وكوني اليمامة التي تخبّئ فراخ حبِّها العفيف، في هذه الفتحة المقدّسة” [97].

انتشار عبادة قلب يسوع

109. شيئًا فشيئًا أخذ الجنب المجروح، حيث يقيم حبُّ المسيح، ومنه تتدفَّق حياة النّعمة، صورة القلب، خاصّة في الحياة الرّهبانيّة. نعلَم أنّ عبادة قلب المسيح لم تظهر بطُرُق متشابهة على مَرّ التاريخ، وأنّ الأوجه التي تطوّرت في العصر الحديث، والمرتبطة بخِبراتٍ روحيّة مختلفة، لا يمكن إبعادها عن سياقها وربطها بطرق القرون الوسطى، وأقلّ من ذلك، بما ورد في الكتاب المقدّس، حيث يمكننا أن نلمح بذورًا لهذه العبادة. ومع ذلك، فإنّ الكنيسة اليوم لا تترك جانبًا أيّ وجه من أوجه الخير التي أعطانا إيّاها الرّوح القدس على مرّ القرون، عالِمِين أنّه سيكون من الممكن دائمًا التّعرُّف على معنى أوضح وأكمل لبعض خصائص هذه العبادة، أو فهم وكشف أوجه جديدة لها.

110. نساء قدّيسات كثيرات روَيْنَ خِبْراتهنّ في لقائهنَّ مع المسيح، وقد تميَّز بالرّاحة في قلب الرّبّ، ينبوع الحياة والسّلام الدّاخليّ. مثلًا القدّيسة لوتجاردا (Lutgarda)، والقدّيسة ماتيلدا دي هاكبورن (Matilde di Hackeborn)، والقدّيسة أنجيلا دي فولينيو (Angela da Foligno وجوليانا دي نورويتش (Giuliana di Norwich)، هؤلاء من بين كثيرات غيرِهِنّ. رَوَت القدّيسة جيرترودا دي هلفتا (Gertrude di Helfta)، وهي راهبة من راهبات السيسترسيّين (cistercense)، لحظة صلاة أسندت فيها رأسها على قلب المسيح واستمعت إلى خفقات قلبه. وفي حوار مع القدّيس يوحنّا الإنجيليّ، سألته لماذا لم يتكلَّم في إنجيله عمَّا شعر به عندما قام بالخبرة نفسها. وتستنتج القدّيسة جيرترودا أنّ “عذوبة خفقات القلب هذه قد حُفِظَتْ للعصر الحديث، حتّى إذا ما استمع إليها العالم الحديث الذي كبِرَ وشاخ وصار فاترًا، استطاع أن يستعيد حرارته ويتجدَّد في محبّة الله” [98]. ربّما يمكننا أن نرى في هذا الكلام أنّه نذير لأزمنتنا، وتنبيه لنا لندرك كم صار هذا العالم ”قديمًا“ وهو في حاجة دائمة لإدراك رسالة محبّة المسيح دائمة التّجدّد. اعتُبِرَتْ القدّيسة جيرترودا والقدّيسة ماتيلدا من بين “أكثر القريبين من القلب الأقدس” [99].

111. الرّهبان الكرتوزيّون، وخاصّة بتشجيع من اللاهوتيّ لودولف من ساكسونيا (في ألمانيا)، وجدوا في عبادة قلب يسوع الأقدس طريقًا ليملأوا علاقتهم بيسوع المسيح بالمودّة والقرب. فمن يدخل من جرح قلبه يلتهب بالمحبّة. وكتبت القدّيسة كاترينا من مدينة سيينا (إيطاليا) أنّ الآلام التي تحمَّلها الرّبّ يسوع لا يمكن أن نتصوّرها، لكن قلب المسيح المفتوح هو بالنّسبة لنا إمكانيّة لقاء حقيقيّ وشخصيّ مُفعَمٍ بالحبّ: “لأُظهر لكم هذا في جانبي المفتوح، حيث يتمّ اكتشاف سرّ القلب، ويبيّن أنّني أحبّكم أكثر بكثير ممّا أستطيع أن أبيِّن لكم ذلك بتحمِّل آلام محدودة” [100].

112. وشيئًا فشيئًا تجاوزت عبادة قلب يسوع حياة الأديار التّأمّليّة وملأت روحانيّة معلِّمين قدّيسين ووعَّاظ ومؤسِّسِي رهبنات، الذين نشروها في أقصى بقاع الأرض. [101]

113. كانت مبادرة القدّيس يوحنّا أود (Saint Jean Eudes) ذات أهمّيّة خاصّة: “بعد قيامه مع رهبانه بحملة وعظ كان لها أثر بالغ في مدينة ”رين“ (Rennes) في فرنسا، تمكَّن من إقناع أسقف تلك الأبرشيّة بالموافقة على الاحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس. كانت تلك المرّة الأولى التي يُحتفَل فيها بهذا العيد رسميًّا في الكنيسة. وفيما بعد سمح أساقفة كوتانس (Coutances) وإفرو (Evreux) وبايو (Bayeux) وليزيو (Lisieux) وروان (Rouen)، بالعيد نفسه في أبرشيّاتهم بين السّنتَين 1670 و 1671” [102].

القدّيس فرنسيس دي سالِس

114. في العصور الحديثة، مساهمة القدّيس فرنسيس دي سالِس جديرة بالتّقدير. كان يتأمّل كثيرًا في قلب يسوع المفتوح، الذي يدعو إلى المكوث فيه في علاقة محبّة شخصيّة تنير أسرار الحياة. يمكن أن نرى في فكر هذا المعلِّم القدّيس كيف ظهر له قلب المسيح نداءً إلى الثّقة الكاملة وإلى عمل النّعمة السّرّي، في مواجهة مواقف التزمُّت في الأخلاق المبنيّة على بعض أعمال العبادة الخارجيّة. قدَّم رؤيته للبارونة دي شانتال في هذه الكلمات: “من الواضح جدًّا لِي أنّنا لن نبقى في أنفسنا بعد الآن […] وأنّنا سنقيم إلى الأبد في جنب المخلِّص المطعون، في الواقع، بدونه، ليس فقط لا نقدر، بل حتّى لو كنَّا نقدر، لما كنَّا نريد أن نعمل شيئًا” [103].

115. بالنّسبة له، كانت العبادة بعيدة كلّ البعد عن أن تصبح شكلًا من أشكال الخرافة أو تجسيدًا غير مبرَّر للنّعمة، لأنّها دعوة إلى علاقة شخصيّة يشعر فيها كلّ شخص بأنّه فريد أمام المسيح، ومُعترف به في واقعه الفريد غير القابل للتّكرار، كما فكَّر فيه المسيح، ومُقدّر بطريقة مباشرة وحصريّة: “هذا القلب المعبود والمحبوب جدًّا لمعلّمنا المضطرم بالحبّ الذي يعلنه لنا، وهو القلب الذي نرى فيه جميع أسمائنا مكتوبة […] إنّه لعزاء كبير أن يحِبَّنا الرَّبُّ كثيرًا بمودّة ويحملنا دائمًا في قلبه” [104]. كان اسمُ العَلَم (اسم الشّخص) هذا المكتوب في قلب المسيح هو الطّريقة التي حاول بها القدّيس فرنسيس دي سالِس أن يؤكِّد مقدار محبّة المسيح لكلّ شخص، فليس حبُّه شيئًا تجريديًّا أو عامًّا، بل فيه دلالة شخصيّة يشعر فيها المؤمن بالتّقدير والاعتراف به: “ما أجمل هذه السّماء، حيث المخلِّص هو الشّمس وصدره ينبوع حبٍّ يشرب منه الطّوباويّون ويرتوون! يذهب كلّ واحد للتأمّل فيه، فيرى حبَّه مكتوبًا فيه بأحرف من حبّ، والحبّ وحده يقدر أن يقرأها، والحبّ وحده هو الذي نقشها. يا ابنتي، ألن تكون أسماؤنا أيضًا هناك؟ بَلى، ستكون هناك بلا شكّ، لأنّه حتّى لو لم يكن في قلبنا الحبّ، فإنَّ فيه الرّغبة في الحبّ وبداية الحبّ” [105].

116. اعتبر هذه الخبرة أمرًا أساسيًّا في الحياة الرّوحيّة، واعتبرها مثل حقائق الإيمان الكبرى: “نعم، يا ابنتي العزيزة، هو يفكِّر فيكم، وليس فقط فيكم، بل في أصغر شعرة من رؤوسكم أيضًا: هذه حقيقة إيمان يجب ألّا نشكَّ فيها إطلاقًا” [106]. ينتج عن ذلك أنّ المؤمن يصبح قادرًا على أن يسلِّمَ نفسه تسليمًا تامًّا لقلب المسيح، حيث يجد الرّاحة والعزاء والقوّة: “يا إلهيّ، يا لسعادتي حين أبقى بين ذراعَيْ المخلِّص وعلى صدره. […] ظلِّي كذا، يا ابنتي العزيزة، ومثل قدّيس يوحنّا صغير، بينما يأكل الآخرون أطعمة مختلفة على مائدة المخلِّص، ضَعي من جديد، بكلّ بساطة وثقة، وأميلي وأريحي رأسك، ونفسك، وروحك، على صدر الرّبّ الحبيب” [107]. “أرجو أن تكوني في الرّوح في مغارة اليمامة وفي جنب مخلِّصنا العزيز المطعون. […] ما أطيب هذا الرَّبّ، يا ابنتي العزيزة! وما أحبَّ قلبه! لنمكُثْ هناك، في هذا المقرّ المقدّس” [108].

117. مع ذلك، بحسب تعليمه عن تقديس الحياة العاديّة، يقترح أن تكون هذه الحياة في وسط الأعمال والمهام وواجبات الحياة اليوميّة: “تسأليني كيف يجب أن تتصرَّف في أعمالها اليوميّة النّفوس المنجذبة إلى الصّلاة بهذه البساطة المقدَّسة والتّسليم الكامل لله؟ أجيب أنّه، ليس فقط في الصّلاة، ولكن في القيام بكلّ أعمال حياتهم، يجب أن يسيروا دائمًا بروح البساطة، وأن يتركوا ويسلِّموا أنفسهم بكاملها، وأعمالهم ونجاحاتهم إلى إرادة الله، بمحبّة كاملة وثقة مطلقة، مستسلمين لنعمة الله ولرعاية الحبّ الأزليّ الذي تكنُّه لهم العناية الإلهيّة” [109].

118. لكلّ هذه الأسباب، عندما حان التّفكير في رمز يمكن أن يلخِّص رؤيته في الحياة الرّوحيّة، قال: “لقد فكّرت، إذًا، أيّتها الأمّ العزيزة، إن وافقتِ، أنّه يجب أن نتَّخذ شعارًا لنا: قلب واحد مطعون بسهمَين ومحاط بإكليل من الشّوك” [110].

إعلان حبّ جديد

119. حدثت الأحدث في باراي لو مونيال (Paray-le-Monial) في نهاية القرن السّابع عشر، بتأثير روحانيّة القدّيس فرنسيس دي سالِس. رَوَت القدّيسة مارغريتا مريم ألاكوك (Margherita Maria Alacoque) ظهورات مهمّة حدثت بين نهاية كانون الأوّل/ديسمبر 1673 وحزيران/يونيو 1675. إعلان الحبّ الذي ظهر في الظّهور الأوّل الكبير أساسيّ. يقول يسوع: “إنّ قلبي الإلهيّ مشغوف بحبّ البَشَر، وبحبِّك خاصّة، لدرجة أنّه لم يَعُدْ قادرًا على احتواء نيران حبِّه المتَّقدة فيه، فيشعر بالحاجة لأن ينشرها بواسطتك ويريد أن يظهر للبشر، حتّى يغنيهم بالكنوز الثّمينة التي سأكشفها لك” [111].

120. لخَّصت القدّيسة مارغريتا مريم كلّ شيء بطريقة قويّة ومتَّقدة، قالت “كشف لي عن عجائب حبِّه وأسرار قلبه الأقدس التي لا يمكن تفسيرها، والتي كانت خافيَةً عليَّ حتّى تلك اللحظة، التي فيها كشفها لي للمرّة الأولى، وبطريقة حقيقيّة ومحسوسة جدًّا لا تترك أيَّ مجالٍ للشّكّ” [112]. وفي الظّهورات اللاحقة كرَّرت جمال هذه الرّسالة: “كشف لي عجائب حبِّه الخالص الذي لا يمكن تفسيره، وإلى أيّ مبالغة دفعه فأحبَّ البشر” [113].

121. هذا الاعتراف المتوقِّد بمحبّة يسوع، الذي نقلته إلينا القدّيسة مارغريتا مريم، يقدِّم لنا حوافز ثمينة للاتّحاد به. وهذا لا يعني أنّه يجب أن نشعر بأنّنا مُلزَمون بقبول كلّ تفاصيل هذه الطّريقة الرّوحيّة، حيث يمتزج عمل الله، كما يحدث عادة، بعناصر بشريّة مرتبطة بالرّغبات والهموم والتّصوُّرات الدّاخليّة للشّخص. [114] يجب إعادة قراءة هذه الطّريقة دائمًا في ضوء الإنجيل وكلّ غنى تقليد الكنيسة الرّوحيّ، ونعترف بمدى الخير الذي قدَّمته للعديد من الأخوات والإخوة. وهذا يسمح لنا بالتعرُّف على مواهب الرّوح القدس في خبرة الإيمان والمحبّة هذه. وأهمّ من التّفاصيل هو جوهر الرّسالة المنقولة إلينا والتي يمكن تلخيصها في الكلمات التي سمعتها القدّيسة مارغريتا: “هذا هو القلب الذي أحبّ البشر كثيرًا ولم يُدَّخِرْ شيئًا حتّى أفنى نفسه، ليشهد على حبّه لهم” [115].

122. هذا الظّهور هو دعوة ليزداد لقاؤنا مع المسيح، بثقة مطلقة، حتّى الوصول إلى اتّحاد كامل ونهائي: “ليحِلَّ قلب يسوع الإلهيّ محَلَّ قلبنا، فيحيا ويعمل فينا ولنا. ولتعمل إرادته فينا كلّ ما تشاء دون مقاومة من جهتنا، وأخيرًا لتحِلَّ عواطفه وأفكاره ورغباته محَلَّ عواطفنا وأفكارنا ورغباتنا، ولا سيِّما حبّه، فيُحِبّ نفسَه فينا ومن أجلنا. وهكذا، بما أنّ هذا القلب المحبّ هو كلّ شيء لنا في كلّ شيء، يمكننا أن نقول مع القدّيس بولس: لسنا نحن الذين نحيا، بل هو الذي يحيا فينا” [116].

123. في الرّسالة الأولى التي تسلَّمَتْها، تقدِّم لنا هذه الخبرة بطريقة أكثر شخصيّة وحِسِّيّة ومليئة بالنّار والحنان: “طلب منّي قلبي، فابتهلت إليه أن يأخذه. فأخذه ووضعه في قلبه الحبيب، وفيه أراني ذرَّةً صغيرة تحترق في أتون قلبه المتَّقد” [117].

124. وفي مكان آخر نلاحظ أنّ الذي يعطينا نفسه هو المسيح القائم من بين الأموات، الممجَّد، والمملؤ بالحياة والنّور. ويتحدّث في مرَّات أخرى عن الآلام التي تحمَّلها من أجلنا، ونكران الجميل الذي يجده، أمّا هنا فليس التّركيز على الدّم والجراح التي عانى منها، بل على النّور والنّار في المسيح الحيّ. جراحُ الآلام لا تختفي، بل تتحوَّل إلى نور. وهكذا، يظهر هنا السّرّ الفصحيّ بكماله: “مرَّةً، […] في أثناء السّجود للقربان الأقدس، […] يسوع المسيح، معلّمي الحبيب، حضر أمامي متألّقًا بالمجد بجروحه الخمسة تسطع مثل خمس شموس. ومن كلّ جهة من إنسانيّته المقدّسة، كانت تنطلق نيران، ولا سيّما من صدره الحبيب، الذي كان يُشبه الأتون المتّقد. بعد أن فتح صدره، أراني قلبه الحبيب، الينبوع الحيٍّ لهذه النّار. إذّاك كشف لي عن عجائب حبِّه الطّاهر التي لا تُدرَك، وإلى أيّ حدّ دفعه ذلك لأن يحبّ البشر، الذين لم يلقَ منهم بعد ذلك إلّا الجحود واللامبالاة” [118].

القدّيس كْلُود دي لا كولومبيير (Saint Claude de La colombière)

125. لمــَّا علِم القدّيس كْلُود دي لا كولومبيير بخبرة القدّيسة مارغريتا، أصبح على الفور مدافعًا عنها ومروِّجًا لرسالتها. وكان له دور خاصّ في فهم ونشر هذه العبادة لقلب يسوع الأقدس، ولكنّه عمل على تفسيرها أيضًا على ضوء الإنجيل.

126. بعض العبارات للقدّيسة مارغريتا، إذا أسيء فهمها، يمكن أن تقود المرء إلى الثّقة المفرطة بالذّات وبالتّضحيات والتّقدمات الشّخصيّة، لكن القدّيس كْلُود بيَّنَ أنّ التّأمّل في قلب المسيح، إذا كان حقيقيًّا، لا يؤدّي إلى الإعجاب بالذّات، أو بالجهود البشريّة أو إلى المجد الباطل، بل يؤدّي إلى تسليم للذّات بين يدَي المسيح، لا يمكن وصفه، ويملأ الحياة سلامًا وأمانًا وقرارًا. وقد عبَّر عن هذه الثّقة المطلقة بهذه الصّلاة المعروفة:

“يا إلهيّ، أنا على قناعة تامّة أنّك تسهر على جميع الذين يرجونك، وأنّه لا يمكن أن ينقص أيّ شيء عندما نترجّى منك كلّ شيء. ولهذا قرّرت أن أعيش في المستقبل دون أيّ قلق، وأن ألقِي كلّ همومي عليك […]. لن أفقد رجائي أبدًا، سأحتفظ به حتّى آخر لحظة في حياتي، وسيبذل كلّ شياطين الجحيم في تلك اللحظة جهودهم عبثًا لانتزاعه منّي […] قد يريد البعض أن يجدوا سعادتهم في ثرواتهم أو مواهبهم، وقد يثق الآخرون ببراءة حياتهم، أو بأعمال التّوبة الشّديدة، أو بعدد صدقاتهم، أو بحرارة صلواتهم. أمّا أنا، يا ربّ، فكلّ ثقتي هي ثقتي نفسها، وهي الثّقة التي لم تخدع أحدًا قطّ. ولهذا فإنّي على يقين بأنّي سأكون سعيدًا إلى الأبد، لأنّي أرجو ذلك رجاءً شديدًا، ولأنّي منك أرجو، يا إلهي” [119].

127. كتب القدّيس كْلُود ملاحظة في كانون الثّاني/يناير 1677، سبقتها بعض الأسطر التي تشير إلى اليقين الذي يشعر به في رسالته: “أنا أعلَم أنّ الله يريدني أن أخدمه بالسّعي لتحقيق رغباته فيما يختصّ بالعبادة التي يُلهِمُها إلى راهبة اختارها وهو يكشف لها نفسه بصورة خاصّة، وقد أراد أن يستخدم ضعفي لأساعدها. لقد ألهمت ذلك من قبل لأشخاصٍ كثيرين” [120].

128. من المهمّ أن نلاحظ أنَّ في روحانيّة كْلُود دي لا كولومبيير، جمعًا موفَّقًا بين الخبرة الرّوحيّة الغنيّة والجميلة للقدّيسة مارغريتا وبين التّأمّل ذي الطّابع العمليّ في الرّياضة الرّوحيّة للقدّيس أغناطيوس. كتب في بداية الأسبوع الثّالث من شهر الرّياضة الرّوحيّة: “أمران أثَّرا فيَّ بطريقة غير عاديّة. الأوّل هو الطّريقة التي يُظهِر بها يسوع نفسه للذين يبحثون عنه. قلبه غارق في مرارة رهيبة، كلّ الأهواء ذائبة فيه، والطّبيعة كلّها مضطربة. ومع كلّ هذه الاضطرابات، وكلّ هذه التّجارب، يتّجه القلب مباشرة إلى الله، ولا يتردَّد في اتّخاذ الموقف الذي تلهمه إيّاه الفضيلة، بل أسمى الفضائل. والأمر الثّاني هو موقف هذا القلب من يهوذا الذي خانه، والرّسل الذين تركوه بجبن، والكهنة وغيرهم من المسؤولين عن الاضطهاد الذي يتعرّض له، كلّ ذلك لم يقدر على إثارة أدنى شعور بالكراهية أو السّخط. أنا أتصوَّر القلب الخالي من المرارة، ومن كلّ حدّة، والمملؤ بالحنان الحقيقي تجاه أعدائه” [121].

القدّيس شارل دي فوكو والقدّيسة تريزا الطّفل يسوع

129. القدّيس شارل دي فوكو والقدّيسة تريزا الطّفل يسوع، أعادوا، من دون أيّ ادّعاء، صياغة بعض عناصر العبادة لقلب المسيح، فساعدونا على فهمها بطريقة أكثر أمانة للإنجيل. لننظر الآن كيف ظهرت هذه العبادة في حياتهم. وسنعود إليهما في الفصل التّالي لنبيِّن أصالة البعد الإرساليّ الذي طوَّره كلاهما بطرق مختلفة.

يسوع محبّة

130. في لوي (Louye)، كان القدّيس شارل دي فوكو يزور القربان الأقدس مع ابنة عمّه مدام دي بوندي (Madame de Bondy). وفي أحد الأيّام أرَتْه صورة قلب يسوع الأقدس. [122] كانت ابنة العمّ هذه عاملًا أساسيًّا في اهتداء شارل، كما يعترف هو نفسه: “بما أنّ الله جعلكِ الأداة الأولى لرحمته لي، فإنّ كلّ مراحمه أتت بك. لو لم تَهدِينِي أنت، ولم تسيري بي إلى يسوع ولم تعلِّميني شيئًا فشيئًا، وكلمة كلمة تقريبًا، كلّ ما هو تقوى وصلاح، هل أكون حيث أنا اليوم؟” [123]. ولكن ما نبَّهَتْ فيه بالتّحديد هو الإدراك المتَّقد لمحبّة يسوع. كلّ شيء كان في هذا. هذا كان الشّيء الأهمّ. وكلّ هذا تمركز بصورة خاصّة في عبادة قلب يسوع الأقدس، حيث وجد رحمة لا حدود لها: “نرجو الرّحمة اللامتناهية من الذي جعَلْتِني أعرِفُ قلبه الأقدس” [124].

131. ثمّ سيساعده مرشده الرّوحي، الأب هينري هوفلين (Don Henri Huvelin)، على التّعمُّق في هذا السّرّ المقدّس: “هذا القلب المبارك الذي كلَّمْتِني عليه مرارًا” [125]. في 6 حزيران/يونيو 1889، كرّس شارل نفسه للقلب الأقدس، الذي وجد فيه الحبّ المطلق. يقول للمسيح: “لقد ملأتني من تلك الخيرات لدرجة أنّه يبدو لِي من الجحود لقلبك أن أشكّ أنّه مستعدّ أن يملأني من كلّ خير، مهما كان عظيمًا، وأنّ حبَّك وسخاءك لا حدود لهما” [126]. وهو سيكون النّاسك “باسم القلب الأقدس” [127].

132. في 17 أيّار/مايو 1906، وهو اليوم نفسه الذي صار فيه الأخ شارل غير قادر على أن يقيم القدّاس وحده، كتب هذا الوعد: “سأجعل قلب يسوع يحيا فيّ، بحيث لن أكون أنا الذي أحيا، بل قلب يسوع يحيا فيّ، كما كان في النّاصرة” [128]. صداقته مع يسوع، من القلب إلى القلب، لم يكن فيها أيّ شيء من التّعبّد الذّاتي المصطنع. كانت أصل تلك الحياة المجرَّدة في النّاصرة التي أراد شارل أن يقلِّد بها المسيح ويصير مثله. تلك العبادة المليئة بالحنان لقلب يسوع كان لها عواقب عمليّة جدًّا في أسلوب حياته. وحياته هو في النّاصرة تغذَّت من تلك العلاقة الشّخصيّة مع قلب المسيح.

القدّيسة تريزا الطّفل يسوع

133. مثل القدّيس شارل دي فوكو، تنفَّسَتْ وارتوت القدّيسة تريزا الطّفل يسوع من العبادة الكبرى التي غمرت فرنسا في القرن التّاسع عشر. كان الأب ألمير بيشون (Almire Pichon) المرشد الرّوحيّ لعائلتها، ويُعتبر رسولًا كبيرًا للقلب الأقدس. إحدى أخوات تريزا أخذت في الرّهبنة اسم ”مريم القلب الأقدس“، وكان الدّير الذي دخلته القدّيسة تريزا مكرَّسًا للقلب الأقدس. ومع ذلك، فإنّ عبادتها اتَّخذت بعض المِيزات الخاصّة، تجاوزت الأشكال المنتشرة في ذلك العصر.

134. لمــَّا كان عمرها خمس عشرة سنة، وجدت طريقة لتثبِّت علاقتها مع يسوع، “الذي يخفق قلبه في انسجام مع قلبي” [129]. وبعد سنتَين، تكلّموا معها عن قلب مكلّل بالأشواك، فأضافت في رسالة: “تعلَمين أنّي لا أنظر إلى القلب الأقدس مثل الجميع، أنا أفكِّر أنَّ قلب عروسي هو فقط لي، كما أنّ قلبي هو فقط له، ولهذا أتحدَّث معه في العزلة حديثًا عذبًا، حديث القلب إلى القلب، في انتظار أن أشاهده يومًا وجهًا لوجه” [130].

135. تكلَّمت تريزا في شعر لها عن معنى عبادتها، التي هي صداقة وثقة أكثر منها اتّكالًا على تضحياتها:

“أبحث عن قلبٍ مضطرم بالحنان

يكون سندًا لي من دون بدل،

يُحِب ُّكلّ شيء فيَّ حتّى ضعفي،

ولا يتركني، لا ليلًا ولا نهارًا […].

 

أريد إلهًا يكون مع طبيعتي

أخًا لي ويقدر أن يتألّم […].

 

أعرف جيِّدًا أنَّ بِرِّنا كلّه

لا قيمة له في عينيك […].

فأنا أختار حبّك المحرق

مطهرًا لِي، يا قلبَ إلهي!” [131]

136. لعلّ أهمّ كتابة لها لفهم معنى عبادتها لقلب المسيح هي الرّسالة التي كتبَتْها ثلاثة أشهر قبل موتها إلى صديق لها، موريس بيليير (Maurice Bellière): “عندما أرى المجدليّة تتقدَّم أمام المدعُوِّين الكثيرين، تبلِّل بدموعها قدمَيْ المعلِّم المعبود، وهي تلمسه للمرّة الأولى، أشعر بأنّ قلبها فهم هاوية الحبّ والرّحمة في قلب يسوع، وبأنّها مهما كانت خاطئة، فإن هذا القلب المحِبّ مستعِدٌّ، ليس فقط ليغفر لها، بل ليُغدِقَ عليها أيضًا نعم حياته الإلهيّة الحميمة، ويرفعها إلى أعلى قمم المشاهدة. آه! يا أخي الصّغير العزيز، منذ أن أُعطي لِي أن أفهم هكذا حبَّ يسوع، أعترف بأنّه طرد من قلبي كلّ خوف. إنَّ ذكرى أخطائي تذلّني، وتحملني على ألّا أعتمد على قوّتي التي ليست إلّا ضعفًا. بل أكثر من ذلك، إنّ هذه الذّكرى تحدّثني عن الرّحمة والحبّ” [132].

137. أصحاب العقول المتزمّتة في الأخلاق، الذين يدَّعون التّحكّم بالرّحمة والنّعمة، قد يقولون إنّ تريزا يمكنها أن تقول هذا لأنّها قدّيسة، لكن الخاطئ لا يستطيع أن يقول ذلك. وبذلك ينزعون من روحانيّة تريزا حداثتها الجميلة التي تُظهِر قلب الإنجيل. مع أنّ هذا الموقف صار منتشرًا كثيرًا، مع الأسف، في بعض الأوساط المسيحيّة، وهو ادّعاء تقييد الرّوح القدس في إطار يسمح بوضع كلّ شيء تحت المراقبة. لكن معلِّمة الكنيسة الحكيمة هذه تفنّدهم وتعارض هذا التّفسير الاختزاليّ بهذه الكلمات الواضحة جدًّا: “لو ارتكبت جميع الجرائم الممكنة، إنّي أحتفظ بالثّقة نفسها. إنّي أشعر بأنّ كلّ هذا العدد الكبير من الإهانات هو مثل قطرة ماء تُلقَى في مجمرة مشتعلة” [133].

138. أرسلت إلى الرّاهبة الأخت ماريّا، التي أثنت عليها لمحبّتها الكبيرة لله واستعدادها للاستشهاد أيضًا، رسالة مطوَّلة هي اليوم مرجع في تاريخ الحياة الرّوحيّة. ينبغي قراءة هذه الرّسالة ألف مرّة لعمقها ووضوحها وجمالها. فيها تساعد تريزا راهبة ”القلب الأقدس“ على عدم تركيز هذه العبادة على جانب الأوجاع، كما يفهم البعض أنّ التّعويض يعطي الأولويّة لواجب التّضحيات أو التّشدّد الأخلاقيّ. أمّا هي فتلخِّص كلّ شيء في الثّقة باعتبارها أفضل تقدمة تُرضي قلب المسيح: “رغبتي في الاستشهاد هي لا شيء، إنّها لا تمنحني الثّقة اللامحدودة التي أشعر بها في قلبي. في الواقع، المكافآت الرّوحيّة تجعل الإنسان غير عادل إذا اعتمد عليها ووجد فيها رضاه، واعتقد أنّ هذا شيء كثير […] ما يسُرُّ يسوع هو أن يراني أُحِبّ صِغَري وفقري، ورجائي الأعمى في رحمته. هذا هو كنزي الوحيد […] إن أردتِ أن تجدي الفرح أو الانجذاب في الألم، فأنت تبحثين عن نفسك وعزائك […] يجب أن تفهمي أنّك لكي تحبّي يسوع، ولتكوني ضحيّة حبِّه، كلّما زاد ضعفك، بلا رغبات أو فضائل، زدتِ قربًا من حياة هذا الحبّ الذي يذيب ويحوِّل […] كم أتمنّى أن أجعلك تفهمين ما أشعر به… الثّقة، لا شيء غير الثّقة، هي التي تقودنا إلى الحبّ” [134].

139. في العديد من كتاباتها، يتّضح معارضتها لطرق روحيّة تركِّز أكثر من اللازم على الجهد البشريّ، وعلى استحقاق الفرد، وتقديم التّضحيات، وعلى بعض المكاسب، ”لدخول السّماء“. بالنّسبة لها، “ليس الاستحقاق في العمل الكثير ولا في العطاء الكثير، بل في الأخذ” [135]. لنقرأ مرّة أخرى بعض النّصوص المهمّة جدًّا حيث تركّز على هذه الطّريقة، وهي طريقة بسيطة وسريعة لاكتساب رضا الرّبّ عن طريق القلب.

140. كتبت إلى الأخت ليوني ما يلي: “أؤكّد لكِ أنّ الله أفضل ممــَّا تعتقدين. إنّه يكتفي بنظرة، أو بتنهُّدة حُبّ… أمّا أنا فأجد الكمال سهل الممارسة جدًّا، لأنّي فهمت أنّه يكفي أن أخذ يسوع بالقلب… انظري إلى ولدٍ صغير أغضب أمَّه قبل قليل […] إن أتى إليها باسطًا ذراعَيه الصّغيرتَين، باسمًا وقائلًا: ”عانقيني، ولن أكرّر ذلك أبدًا“. فهل يمكن لأمّه ألّا تشدّه إلى صدرها بحنان، وتنسى حِيَلَه الطّفوليّة؟ ومع ذلك، فهي تعلَم أنّ صغيرها العزيز سيعيد الكَرَّة في أقرب فرصة. لكن لا بأس، فإن عاد واستمالها بالقلب فهو لن يُعاقب أبدًا” [136].

141. وفي رسالة إلى الأب أدولف رولان كتبت: “طريقي كلّه طريق ثقة وحبّ، ولا أفهم النّفوس التي تخاف صديقًا حنونًا بهذا القدر. أحيانًا، عندما أقرأ بعض المؤلّفات الرّوحيّة التي تُظهر الكمال محفوفًا بألف عائق ومحاطًا بأوهام لا تحصى، عقلي المسكين يتعب سريعًا جدًّا، فأُغلق الكتاب العِلمي الذي يصدّع رأسي ويجفّف قلبي، وآخذ الكتاب المقدّس، فيظهر لي كلّ شيء مشرقًا، وكلمة واحدة تفتح أمام روحي آفاقًا بلا حدود، ويبدو لي الكمال سهلًا: أرى أنّه يكفي أن أعترف بأنّي لا شيء، وأستسلم مثل طفل بين ذراعَي الله” [137].

142. وتوجّهت إلى الأب موريس بيليير، بخصوص أحد الوالدين، قالت: “لا أعتقد أنّ قلب الأب السّعيد يستطيع أن يقاوم ثقة ابنه به، وهو يعرف صدقه ومحبّته. ومع ذلك، فالأب لا يجهل أنّ الابن سيقع في الأخطاء عينها أكثر من مرّة، لكنّه مستعدّ دائمًا أن يغفر له، إن ظلَّ الابن يحبُّه” [138].

أصداء في الرّهبنة اليسوعيّة

143. رأينا كيف ربط القدّيس كْلُود دي لا كولومبيير بين خبرة القدّيسة مارغريتا الرّوحيّة وبين الرّياضة الرّوحيّة للقدّيس أغناطيوس. أعتقد أنّ مكانة القلب الأقدس في تاريخ الرّهبنة اليسوعيّة تستحقّ أن نذكرها بإيجاز.

144. اقترحت روحانيّة الرّهبنة اليسوعيّة دائمًا “معرفة حميمة للرّبّ يسوع لكي نحِبَّه ونتبعه بصورة أفضل” [139]. يدعونا القدّيس أغناطيوس في رياضته الرّوحيّة إلى أن نضع أنفسنا أمام الإنجيل الذي يقول لنا إنّ “جنب [يسوع] طُعِنَ بحربة فخرج منه دم وماء” [140]. الذي يقوم بالرّياضة الرّوحيّة عندما يجد نفسه أمام جنب المسيح المطعون، يقترح عليه أغناطيوس أن يدخل في قلب المسيح. إنّها طريقة لإنضاج القلب على يد “معلِّم خبير بالعواطف”، بحسب عبارة للقدّيس بطرس فابر ( Pietro Favre) في إحدى رسائله إلى القدّيس أغناطيوس. [141] ويقول القول نفسه الأب خوان ألفونسو دي بولانكو (Padre Juan Alfonso de Polanco) كاتب سيرة القدّيس أغناطيوس: “إنّه [الكاردينال كونتاريني] الذي وجد في الأب أغناطيوس معلِّمًا خبيرًا في العواطف” [142]. المحادثات التي يقترحها القدّيس أغناطيوس هي جزء أساسيّ من تربية القلب، لأنّنا نسمع ونتذوّق بالقلب رسالة الإنجيل، ونتكلَّم بها مع الرّبّ يسوع. يقول القدّيس أغناطيوس إنّه يمكننا أن نقول كلّ شيء ليسوع، ونطلب مشورته فيها. كلّ من يقوم بهذه الرّياضة يمكن أن يدرك أنّ فيها حوارًا من القلب إلى القلب.

145. يختتم القدّيس أغناطيوس تأمّلاته عند أقدام المصلوب، ويدعو الذي يقوم بالرّياضة الرّوحيّة إلى أن يتوجّه إلى الرّبّ يسوع المصلوب بمودّة كبيرة، وأن يسأله “كما يسأل صديقٌ صديقَه، أو خادمٌ سيِّدَه” ماذا يجب أن يفعل من أجله. [143] تبلغ مسيرة الرّياضة الرّوحيّة قمَّتها، في “التّأمّل لبلوغ الحبّ”، ومنه يتدفَّق الشّكر وتقديم “الذّاكرة والعقل والإرادة” للقلب الذي هو ينبوع وأصل كلّ خير. [144] معرفتنا الدّاخليّة للرّبّ يسوع هذه، لا تُبنى بقدراتنا وجهودنا، بل تُطلَب عطيّةً من الله.

146. هذه الخبرة نفسها هي على أساس سلسلة طويلة من الرّهبان اليسوعيِّين الذين أشاروا إشارة صريحة إلى قلب يسوع، أمثال القدّيس فرنسيس بورجا (Francesco Borgia)، والقدّيس بطرس فابر (Pietro Favre)، والقدّيس ألونسو رودريغيس (Alonso Rodriguez)، والأب ألفاريز دي باز (Álvarez de Paz)، والأب فينتشينسو كارافا (Vincenzo Carafa)، والأب كاسبِر دروزبيكي (Kasper Drużbicki)، وعديدين آخرين. في سنة 1883، أعلن اليسوعيّون “أنّ الرّهبنة اليسوعيّة تقبل وتستقبل بروح تفيض بالفرح والشّكر، الثّقل العذب الذي ألقاه عليها ربّنا يسوع المسيح وهو ممارسة وتعزيز ونشر العبادة لقلبه الإلهيّ” [145]. في كانون الأوّل/ديسمبر 1871، كرّس الأب بييتر جان بيكس (Pieter Jan Beckx) الرّهبنة لقلب يسوع الأقدس، وشهادة على ذلك، وأن هذا التّكريس لا يزال أمرًا حاضرًا في حياة الرّهبنة، فعل الأب بيدرو أروبي (Pedro Arrupe) ذلك مرّة أخرى في سنة 1972، وقد عبّر عن قناعته بما يعمل في هذه الكلمات: “أريد أن أقول للرّهبنة شيئًا أشعر أنّه ينبغي ألّا أسكت عنه. منذ كنت في الابتداء (noviziato)، كنت دائمًا مقتنعًا بأنّ ما نسمِّيه عبادة قلب يسوع الأقدس يحتوي على تعبير رمزي عن أعمق ما في روح الرّهبنة، وفيها فعاليّة خارقة، أكثر ممـَّا كانوا يتوقَّعون – (ultra quam speraverint) – سواء للكمال الشّخصيّ أو لخصوبة العمل الرّسوليّ. حتّى الآن لديَّ القناعة نفسها. […] إنّي أجد في هذه العبادة أحد أقوى ينابيع حياتي الدّاخليّة” [146].

147. لمــَّا دعا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني “جميع أعضاء الرّهبنة إلى تعزيز هذه العبادة التي تتَّفِق أكثر من أيّ وقت مضى مع توقّعات عصرنا”، فعل ذلك لأنّه أدرك الرّوابط الوثيقة بين العبادة لقلب الرّبّ وروحانيّة القدّيس أغناطيوس، لأنّ “الرّغبة في ”معرفة حميمة للرّبّ يسوع“ و”مواصلة الحوار“ معه، من القلب إلى القلب، هي، بفضل الرّياضات الرّوحيّة، ميزة الدّيناميكيّة الرّوحيّة والرّسوليّة الإغناطيّة: كلّ شيء في خدمة محبّة قلب الله” [147].

تدفّق غزير من الحياة الدّاخليّة

148. تظهر عبادة قلب المسيح في المسيرة الرّوحيّة لقدّيسين كثيرين مختلفين، وتتَّخذ هذه العبادة في كلّ واحد منهم وجهًا جديدًا. مثلًا، قال القدّيس منصور دي بول إنّ ما يريده الله هو القلب: “الله يطلب أوّلًا القلب، القلب: هذا هو الشّيء الرّئيسيّ. لماذا الذي لا يملك شيئًا يمكنه أن يستحقّ أكثر من الذي يملك الكثير ويزهد فيه؟ لأنّ الذي لا يملك شيئًا، يذهب إليه بمودّة أكثر. وهذا ما يريده الله بشكلٍ خاصّ” [148]. وهذا يفترض قبول اتّحاد قلبنا بقلب المسيح: “الأخت التي تبذل كلّ ما في وسعها لتهيّئ قلبها لأن يتّحد مع قلب الرّبّ […] كم وكم من البركات ستنال من الله!” [149].

149. أحيانًا نميل إلى اعتبار سرّ المحبّة هذا وكأنّه أمر حسَنٌ من الماضي، ومثل روحانيّة جميلة لأزمنة أخرى، بل يجب أن نتذكَّر دائمًا من جديد، كما قال أحد القدّيسين المــُرسَلين، أنّ “هذا القلب الإلهيّ الذي تحمَّل أن يطعنه عدُوٌّ بحربته ففاضت من هذا الجرح المقدّس الأسرار التي تكوَّنت بها الكنيسة، لم يتوقّف قطّ عن الحبّ” [150]. وقدّيسون آخرون في الآونة الأخيرة، مثل القدّيس بيو من بيترالشينا (Pio da Pietralcina)، والقدّيسة تريزا من كلكوتا وغيرهم كثيرون، تكلّموا عن عبادة حارَّة لقلب المسيح. وأريد أن أذكر خبرة القدّيسة فاوستينا كوالسكا (Faustina Kowalska) التي تقدِّم لنا عبادة قلب المسيح مع تركيز شديد على الحياة المجيدة للمسيح القائم من بين الأموات، وعلى الرّحمة الإلهيّة. في الواقع، بناءً على خبرة هذه القدّيسة، واعتمادًا على الإرث الرّوحيّ الذي تركه الأسقف القدّيس جوزيف سيباستيان بيلكزار (San Józef Sebastian Pelczar 1842-1924) [151]، ربط القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني بصورة وثيقة تفكيرَه في الرّحمة الإلهيّة بالعبادة لقلب المسيح: “يبدو أنّ الكنيسة تجاهر وتجلّ رحمة الله بطريقة خاصّة عندما تتوجّه إلى قلب المسيح. وبالفعل، إنّ اقترابنا من المسيح في سرّ قلبه، يسمح لنا بالتوقّف عند هذه النّقطة […] كشف حبّ الآب الرّحيم وهو المضمون الجوهريّ لرسالة ابن الانسان المسيحانيّة” [152]. قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني نفسه، في إشارة إلى القلب الأقدس، بطريقة شخصيّة جدًّا: “لقد كلّمني منذ شبابي” [153].

150. إنّ أهمّيّة العبادة لقلب المسيح اليوم تَظهَر بصورة خاصّة، في عمل البشارة والتّربية في رهبنات عديدة، نسائيّة ورجاليّة، وقد اتّسمت منذ نشأتها بهذه الخبرة الرّوحيّة الكريستولوجيّة. أن نذكرها هنا أمر صعب لا ينتهي. لِنَرَ فقط مثالَين بصورة عشوائيّة: “وجد المؤسّس [القدّيس دانيال كومبوني] القوّة للقيام بعمل البشارة في سرّ قلب يسوع” [154]. “وبدافع من محبّة قلب يسوع، نحاول مساعدة النّاس على النّمو في كرامتهم الإنسانيّة، كأبناء وبنات الله، على أساس الإنجيل وما يطلبه من المحبّة والغفران والعدل والتّضامن مع الفقراء والمهمَّشين” [155]. وبالمثل، فإنّ المزارات المكرَّسة لقلب المسيح والمنتشرة في العالم هي مصدر جذّاب للرّوحانيّة والحماس. إلى جميع الذين يشاركون بطريقة أو بأخرى في أماكن الإيمان والمحبّة هذه، أمنح بركتي الأبويّة.

العبادة في التّعزية

151. جُرحُ الجنب، الذي تدفَّق منه الماء الحيّ، لا يزال مفتوحًا في الرّبّ القائم من بين الأموات. هذا الجرح الكبير الذي أحدثته الحَربَة والجراح التي سبّبها إكليل الشّوك التي تظهر غالبًا في صور قلب يسوع الأقدس، لا يمكن فصلها عن هذه العبادة. في الواقع، فيها نتأمّل في محبّة يسوع الذي كان قادرًا أن يبذل نفسه حتّى النّهاية. قلب الرّبّ القائم من بين الأموات يحفظ علاماتِ بذلِ ذاتِه حتّى النّهاية، متحمِّلًا آلامًا شديدة من أجلنا. لذلك، من المحتَّم إلى حدّ ما أن يرغب المؤمن أن يُجيب ليس فقط على هذا الحبّ الكبير، بل أيضًا مع الألم الذي قَبِلَ المسيح أن يتحمّله مع هذا الحبّ الكثير.

معه على الصّليب

152. يجدر بنا أن نستعيد هذا التّعبير عن الخبرة الرّوحيّة الذي تطوّر حول قلب المسيح أي الرّغبة الدّاخليّة في تعزيته. لن أتناول الآن الكلام على التّعويض أو التّكفير، الذي أرى مكانه أنسب في سياق البعد الاجتماعيّ لهذه العبادة، والذي أشرحه في الفصل التّالي. الآن أودّ فقط أن أركّز على الرّغبة التي تَظهر غالبًا في قلب المؤمن المحبّ عندما يتأمّل في سرّ آلام المسيح، ويعيشه ليس فقط سرًّا يتذكّره، بل يصير بالنّعمة شيئًا حاضرًا فيه، وأكثر من ذلك، يحملنا هذا السّرّ إلى أن نكون نحن حاضرين بصورة سرّيّة في لحظة الفداء. إن كان الحبيب هو الأهمّ فكيف إذًا لا نريد أن نعزّيه؟

153. حاول البابا بيوس العاشر أن يجعل لهذه الخبرة أساسًا متينًا، ودعانا إلى أن نعترف بأنّ سرّ الفداء بآلام المسيح، بنعمة الله، يتجاوز كلّ مسافات الزّمان والمكان، فإذا بذل ذاته على الصّليب بسبب خطايا المستقبل، فإنّ خطايانا اليوم، وأعمالنا المقدَّمة لتعزيته، تتجاوز الزّمن وتصل إلى قلبه المجروح: “فإن كانت نفس يسوع، بسبب خطايانا المستقبليّة، والتي رآها مسبقًا، قد حزنت حتّى الموت، فلا شكّ أنّه شعر أيضًا ببعض العزاء منذ ذلك الحين من تعويضنا، لمَّا ظهر له الملاك من السّماء (لوقا 22، 43) ليعزّي قلبه المنهك من الحزن والقلق. وهكذا، حتّى الآن، بهذه الطّريقة العجيبة والحقيقيّة، يمكننا ويجب علينا أن نعزّي هذا القلب الأقدس، المجروح باستمرار بسبب خطايا النّاس ونكرانهم له” [156].

أسباب القلب

154. قد يبدو أنّ هذا التّعبير عن العبادة ليس له الدّعم اللاهوتيّ الكافي، لكن في الحقيقة القلب له أسبابه. ”حسّ المؤمنين“ ينتبه إلى أنّه يوجد هنا شيء سرّيّ يتجاوز منطقنا البشريّ، وأنّ آلام المسيح ليست فقط حادثة من الماضي: بل يمكننا المشاركة فيها بالإيمان. أن نتأمّل في بذل المسيح ذاتَه على الصّليب، بالنّسبة لتقوى المؤمنين، هو شيء أكبر من مجرّد ذكرى بسيطة. وهذه حقيقة راسخة في اللاهوت. [157] ويضاف إلى ذلك إدراكنا خطيئتنا التي حملها على كتفَيه المجروحتَين، وعدم استحقاقنا لهذا الحبّ الكثير، الذي يفوقنا دائمًا بلا حدود.

155. وفي كلّ الحالات، نسأل أنفسنا كيف يمكن أن ننظر إلى المسيح الحيّ القائم من بين الأموات، كامل السّعادة، وفي الوقت نفسه نعزّيه في آلامه. لنفكّر في هذا الواقع أنّ قلب يسوع القائم من بين الأموات يحفظ جرحه ذِكرَى ثابتة، وأنّ عمل النّعمة يُثير فينا خبرة ليست محصورة كلُّها في الزّمن. هذان الأمران يتيحان لنا بأن نعترف بأنّنا أمام طريق صوفيّة تتجاوز جهود العقل، وتعبِّر عمّا تلهمنا إيّاه كلمة الله نفسها. “وكتب البابا بيوس الحادي عشر: كيف يمكن القول إنّ المسيح يملك سعيدًا في السّماء إن كان من الممكن تعزيته بهذه الأعمال التعويضيّة؟ نقول مع أغسطينس: ”أعط نفسًا تحبّ فتفهم ما أقول“ ( في إنجيل يوحنّا، XXVI، 4)، هذه كلمات تردّ بالتّحديد على ما نريد. في الواقع، كلّ نفس، متَّقدة حقًّا بمحبّة الله، إن نظرَتْ إلى الماضي، وتأمّلت، رأتْ يسوع المتألّم من أجل الإنسان، الحزين، في وسط الآلام الخطيرة، ”من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا“، آلامٍ وقلق وعتاب. لقد “سُحِقَ بِسَبَبِ آثامِنا” (أشعيا 53، 5)، وهو الذي يشفينا بجراحه. وأمام كلّ هذا، كلّما دخلت النّفوس التّقيّة في العمق، رأت بوضوح أنّ خطايا البشر التي ارتكبوها في كلّ زمن، كانت سبَبًا في تسليم ابن الله إلى الموت” [158].

156. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار تعليم البابا بيوس الحادي عشر. في الواقع، عندما يذكر الكتاب المقدّس أنّ المؤمنين الذين لا يعيشون حسب إيمانهم فإنّهم “يَصلِبونَ ابنَ اللهِ ثانِيَةً” (العبرانيين 6، 6)، أو عندما أتحمّل الآلام من أجل الآخرين فإنّي “أُتِمُّ في جَسَدِي ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح” (قولسي 1، 24)، أو أنّ المسيح في آلامه صلّى ليس فقط من أجل تلاميذه في ذلك الوقت، بل من أجل “الَّذينَ يُؤمِنونَ بِه عن كلامِهم” (يوحنّا 17، 20)، كلّ هذا الكلام من الكتاب المقدّس يحطِّم أنماط فكرنا المحدودة. هذا كلام يبيِّن لنا أنّنا لا يمكن أن نقول هذا ماضٍ وهذا جاء بعده ولا رباط بينهما، وفكرنا لا يعرف أن يفسِّر ذلك. الإنجيل، في أوجهه المختلفة، ليس فقط لنتأمّل فيه أو نتذكّره، بل يجب أن نعيشه، سواء في أعمال المحبّة أو في الخبرة الدّاخليّة، وهذا ينطبق بشكل خاصّ على سرّ موت المسيح وقيامته من بين الأموات. الفصل بين الأزمنة الذي يستخدمه عقلنا لا يعبِّر عن حقيقة هذه الخبرة الإيمانيّة، حيث المسيح المتألّم، وفي الوقت نفسه، القوّة والعزاء والصّداقة التي نقدِّمها للرّبّ القائم من بين الأموات.

157. لنرَ إذًا وَحدة السّرّ الفصحيّ، في وجهَيْهِ غير المنفصلَين واللذين يضيء كلّ واحد منهما الآخر. هذا السّرّ الواحد، الحاضر بالنّعمة في وجهَيْه، يعني أنّه عندما نسعى إلى أن نقدّم شيئًا للمسيح لنعزّيه، فإنّ نور المحبّة الفصحيّ ينير ويغيِّر آلامنا. ما يحدث هو أنّنا نشارك في هذا السّرّ في حياتنا العمليّة، لأنّ المسيح نفسه أراد أن يشارك في حياتنا مسبقًا، وأراد أن يعيش مسبقًا كرأس للجسد الذي سيكون الكنيسة، سواء في الجراح أم في التّعزيات. عندما نعيش في نعمة الله، هذه المشاركة المتبادلة تصير خبرة روحيّة. في النّهاية، فإنّ الرّبّ القائم من بين الأموات هو الذي يجعل ممكنًا لنا، بعمل النّعمة، أن نتّحد بآلامه بصورة سرِّيّة. هذا ما تعرفه القلوب المؤمنة التي تعيش فرح القيامة، ولكنّها تريد في الوقت نفسه أن تشارك في مصير ربّها. إنّها مستعدّة لهذه المشاركة بالآلام والمتاعب وخيبات الأمل والمخاوف التي تشكّل جزءًا من حياتها. إنّها لا تعيش هذا السّرّ في عزلة، لأنّ هذه الجراح هي أيضًا مشاركة في مصير جسد المسيح السّرّي الذي يسير في شعب الله المقدّس والذي يحمل معه مصير المسيح في كلّ زمان ومكان في التّاريخ. العبادة التي تسعى للتّعزية ليست غير تاريخيّة أو تجريديّة، بل تصير جسدًا ودمًا في مسيرة الكنيسة.

النّدم

158. الرّغبة التي لا يمكن إلغاؤها في تعزية المسيح، والتي تبدأ بألَمنا عندما نتأمّل في ما تألّمه من أجلنا، تتغذّى أيضًا من الاعتراف الصّادق بعبوديّاتنا الكثيرة، وتعلّقنا بأمور شتّى، وعدم فرحنا بالإيمان، وسَعينا وراء أمور فانية، وبالإضافة إلى خطايانا العمليّة، عدم استجابة قلبنا لمحبّته ومخطّطه. إنّها خبرة تطهِّرنا، لأنّ الحبّ يحتاج إلى تنقية الدّموع التي تصيِّرُنا في النّهاية أكثر عطشًا لله وأقلّ هوسًا بأنفسنا.

159. وهكذا نرى أنّه كلّما تعمّقت الرّغبة في تعزية الرّبّ يسوع، تعمّق النّدم في قلب المؤمن، وهو “ليس الشّعور بالذّنب الذي يلقينا على الأرض، ولا هو وسواس يشلّنا، بل هو دافع خَيِّرٌ يضطرم في داخلنا ويشفي، لأنّ القلب عندما يرى الشّرّ في نفسه ويعترف بأنّه خاطئ، ينفتح ويقبل عمل الرّوح القدس، الماءَ الحيّ الذي يهزّه ويجعل الدّموع تنهمر على وجهه […]. ولا هو نوع من التّوبة العاطفيّة، كما نميل غالبًا إلى ذلك […]. بل أن نذرف دموع النّدم يعني أن نندم ندامة جادّة لأنّنا أحزنَّا الله بالخطيئة، ويعني أن نعترف بأنّنا مدينون دائمًا ولا فضل لنا […]. كما تحفر قطرة الماء الحجر، هكذا تحفر الدّموع شيئًا فشيئًا القلوب القاسية. بهذه الطّريقة نشهد معجزة الحزن، الحزن الجيِّد الذي يؤدّي إلى العذوبة […]. النّدم ليس ثمرة جهودنا، بل هو نعمة ويجب أن نطلبها في الصّلاة” [159]. هو أن نطلب “الألم مع المسيح المتروك، والعذاب مع المسيح المعذّب، والدّموع، والألم الحميم من أجل الألم الكبير الذي عاناه المسيح من أجلي” [160].

160. لذلك أطلب ألّا يستخفّ أحد من عبارات الحرارة في إيمان شعب الله المقدّس والأمين، الذي يسعى في تقواه الشّعبيّة إلى أن يعزّي المسيح. وأدعو كلّ واحد إلى أن يسأل نفسه أليس في هذه العبادة الشّعبيّة عقلانيّة، وحقيقة، وحكمة أكثر من بعض مظاهر هذا الحبّ الذي يسعى إلى أن يعزّي الرّبّ يسوع بأعمال فيها برود وبُعدٌ وحسابات بشريّة، نقوم بها نحن الذين نزعم أنّ لنا إيمانًا فيه عقلانيّة وعمق ونضج أكثر.

نعزّيه فنجد عزاءنا

161. في تأمّلنا في قلب المسيح، الذي بذل نفسه من أجلنا حتّى النّهاية، نجد عزاءنا. الألم الذي نشعر به في قلوبنا يخلق فينا الثّقة الكاملة، وفي النّهاية ما يبقى هو الشّكر والحنان والسّلام، وتبقى محبّته التي تملك على حياتنا. فالنّدم “لا يسبِّب القلق والاضطراب، بل يخفّف أثقال النّفس، لأنّه يعالج جرح الخطيئة، ويجعلنا مستعدّين لاستقبال حنان الرّبّ يسوع هناك حيث خطيئتنا” [161]. وآلامنا تتّحد مع آلام المسيح على الصّليب، لأنّنا عندما نقول إنّ النّعمة تسمح لنا بأن نتخطَّى كلّ المسافات، فهذا يعني أيضًا أنّ المسيح، عندما تألّم، اتَّحد بكلّ آلام تلاميذه عبر التاريخ. وهكذا، إن تألّمنا، يمكننا أن نختبر التّعزية الدّاخليّة حين نعرف أنّ المسيح نفسه يتألّم معنا. نريد أن نعزّيه، فنجد العزاء لأنفسنا.

162. وفي لحظة ما، في تأمّل القلب المؤمن، يجب أن يُسمَعَ فينا نداء االله الصّارخ: “عَزُّوا عَزُّوا شَعْبي، يَقولُ إِلهُكم” (أشعيا 40، 1). وتتبادر إلى ذهننا كلمات القدّيس بولس الذي يذكّرنا بأنّ الله يعزّينا “لِنَستَطيعَ، بما نَتَلقَّى نَحنُ مِن عَزاءٍ مِنَ الله، أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت” (2 قورنتس 1، 4).

163. وهذا يدعونا الآن إلى أن نحاول التعمُّق في أوجه العبادة الحقيقيّة لقلب المسيح، في الجماعة المؤمنة، وفي المجتمع، وفي الإرساليّات. في الواقع، يقودنا قلب المسيح إلى الآب، وفي الوقت نفسه يرسلنا إلى الإخوة. وفي ثمار الخدمة والأخوّة والرّسالة التي يصنعها قلب المسيح من خلالنا، تتمّ إرادة الآب. وبهذه الطّريقة نصل إلى نهاية الدّائرة: “أَلَا إِنَّ ما يُمَجَّدُ بِه أَبي أَن تُثمِروا ثَمَرًا كثيرًا” (يوحنّا 15، 8).

الفصل الخامس

الحبّ بالحبّ

164. في الخبرات الرّوحيّة للقدّيسة مارغريتا مريم، مع إعلانها المتَّقد لمحبّة يسوع، نجد أيضًا صدًى داخليًّا يدعونا إلى أن نبذل حياتنا. أن نعرف أنّنا محبوبون ونضع كلّ ثقتنا في هذا الحبّ لا يعني أن نلغي كلّ قدراتنا على العطاء، ولا يتطلّب أن نتخلّى عن الرّغبة التي لا يمكن كبتها في تقديم بعض الأعمال بقدراتنا الصّغيرة والمحدودة.

شكوى وطلب

165. منذ ظهور يسوع الثّاني الكبير للقدّيسة مارغريتا، عبّر لها عن ألمه لأنّ حبّه الكبير للبشر “يقابله عدم العرفان بالجميل واللامبالاة”، “والبرود في التّعامل والرّفض”. “وهذا – يقول الرّبّ يسوع – يجعلني أتألّم أكثر من كلّ ما عانيته في آلامي” [162].

166. تكلّم يسوع على عطشه لأن يكون محبوبًا، وأظهر لنا أنّ قلبه ليس قلبًا غير مبالٍ أمام ردّ فعلنا على رغبته: “أنا عطشان، وعطشًا شديدًا لأن يحبّني النّاس في سرّ القربان الأقدس، لدرجة أنّ هذا العطش يكاد يفنيني. ومع ذلك، لا أجد من يسعى، حسب رغبتي، لأن يروي عطشي، ويُبادلني حبّي” [163]. طَلَبُ يسوع هو الحبّ. عندما يكتشف قلب المؤمن هذا، فإنّ الرّدّ الذي ينشأ تلقائيًّا ليس بحثًا شاقًّا عن التّضحيات أو مجرّد أداء واجب ثقيل، بل هو مسألة محبّة: “نلت من إلهيّ نِعَمًا غير عاديّة من محبتّه، ودفعتني رغبتي على أن أبادله مِثلَها، وأن أبادل الحبّ بالحبّ” [164]. علّم البابا لاون الثّالث عشر وكتب أنّه من خلال صورة القلب الأقدس، حبّ يسوع “يدفعنا إلى أن نبادله الحبّ بالحبّ” [165].

امتداد لحبّه في الإخوة

167. يجب أن نعود إلى كلمة الله لندرك أنّ أفضل جواب لمحبّة قلب الله هي محبّة الإخوة. لا يوجد عمل أكبر يمكننا أن نقدّمه له لنبادله الحبّ بالحبّ. كلمة الله تقول بكلّ وضوح:

“كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متّى 25، 40).

“لأَنَّ تَمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذِهِ الكَلِمَةِ الواحِدة: «أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ»” (غلاطية 5، 14).

“نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة، لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت” (1 يوحنّا 3، 14).

“لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه” (1 يوحنّا 4، 20).

168. محبّة الإخوة لا نصنعها نحن وحدنا، وليست نتيجة جهدٍ طبيعيّ، بل تتطلّب تغييرًا في قلبنا الأنانيّ. إذّاك ينشأ فينا تلقائيًّا الابتهال المعروف: ”يا يسوع، اجعل قلبنا مثل قلبك“. ولهذا السّبب نفسه، لم تكن دعوة القدّيس بولس: ”اجتهدوا في عمل الأعمال الصّالحة“، بل كانت دعوته: “فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضًا في المَسيحِ يَسوع” (فيلبي 2، 5).

169. من الجدير بالذّكر أنّه، في عهد الإمبراطوريّة الرّومانيّة، وَجَدَ الفقراء الكثيرون والغرباء والأشخاص المُبعَدون الكثيرون الآخرون الاحترام والمودّة والاهتمام لدى المسيحيّين. وهذا ما يفسّر فكر الإمبراطور يوليانس المرتدّ عن الإيمان، الذي تساءل عن سبب احترام المسيحيّين وأتباعهم، ورأى أنّ أحد الأسباب هو اهتمامهم بمساعدة الفقراء والغرباء، بينما تجاهلتهم الإمبراطوريّة واحتقرتهم. بالنّسبة لهذا الإمبراطور، كان الأمر لا يطاق بأنّ فُقراء الإمبراطوريّة لم يكونوا يتلقّون مساعدة منه، بينما المسيحيّون المكروهون “كانوا يُطعمون فقراءهم، وأيضًا فقراء الإمبراطوريّة” [166]. فركّز في إحدى رسائله بصورة خاصّة على الأمر بإنشاء مؤسّسات خيريّة لتتنافس مع المسيحيّين وتجذب احترام المجتمع: “افتتح بيوت مضافة كثيرة في كلّ المدن، حتّى يستطيع الغرباء أن يتمتّعوا بأعمالنا الإنسانيّة. […] وعَوَّدَ الهيلينيّين على أعمال المحبّة” [167]. لكنّه لم يحقّق هدفه، بالتّأكيد لأنّه لم تكن محبّة مسيحيّة في هذه الأعمال، المحبّة التي تعترف أنّ كلّ إنسان له كرامة فريدة.

170. تماهى يسوع مع أصغرِ النّاس في المجتمع (راجع متّى 25، 31 – 46) “فأتى بتجديد كبير، وهو الاعتراف بكرامة كلّ شخص، وأيضًا ولا سيّما الأشخاص الموصوفين بأنّهم ”لا كرامة لهم“. هذا المبدأ الجديد في تاريخ البشريّة، والذي صار بموجبه أكثر النّاس استحقاقًا للاحترام والحبّ، هم أكثرهم ضعفًا وبؤسًا وعذابًا، حتّى لو فقد صورته البشريّة، غيّر وجه العالم، فأوجد المؤسّسات التي تعتني بالأشخاص الذين يعيشون في الحرمان: الأطفال المتروكين، والأيتام، والمسِنِّين المتروكين وحدهم، والمرضى العقليّين، والمصابين بأمراض غير قابلة للشّفاء أو يعانون من تشوُّهات خطيرة، أو يعيشون في الشّوارع” [168].

171. وأيضًا من ناحية قلب يسوع المجروح، النّظر إلى الرّبّ يسوع، الذي “أَخَذَ أَسقامَنا وحَمَلَ أَمراضَنا” (متّى 8، 17)، يحملنا على مزيد من الاهتمام بآلام واحتياجات الآخرين، ويقوِّينا للمشاركة في عمله لتحرير الإنسان، فنكون أدوات لنشر محبّته. [169] إن تأمّلنا في العطيّة نفسها التي قدّمها المسيح للجميع، يصير من المحتّم أن نتساءل لماذا لسنا قادرين على أن نبذل حياتنا من أجل الآخرين: “وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّةَ بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نَفْسَه في سَبيلِنا، فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا” (1 يوحنّا 3، 16).

بعض الأصداء في تاريخ الرّوحانيّة

172. هذه الوَحدة بين عبادة قلب يسوع والالتزام نحو الإخوة، نجدها في كلّ تاريخ الرّوحانيّة المسيحيّة. لننظر في بعض الأمثلة.

ينبوع للآخرين

173. فسّر آباء كنيسة كثيرون، بعد أوريجانس، نصّ يوحنّا 7، 38 – “ستَجْري مِن جوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ” – بمعنى أنّ هذه إشارة إلى المؤمن نفسه، لأنّه هو نفسه شرب من المسيح. وهكذا فإنّ الاتّحاد بالمسيح لا يهدف فقط إلى إرواء عطشنا، بل إلى أن نصير ينبوع ماء عذب للآخرين. كان أوريجانُس يقول إنّ المسيح يحقّق وعده عندما يفجِّر فينا ينابيع من الماء: “إنّ نفسَ الإنسان التي هي على صورة الله تستطيع أن تحتوي في ذاتها وأن تعطي من ذاتها الآبار والينابيع والأنهار” [170].

174. أوصى القدّيس أمبروزيوس أنْ اشرَبُوا من المسيح “لكي يفيض فيكم ينبوع الماء ويتفجَّر حياةً أبديّة” [171]. ويؤكّد ماريو فيتّورينو (Mario Vittorino) أنّ الرّوح القدس يُعطَى بوفرة “ومن يقبله يصير مُجَمَّع ماء تفيض منه من جديد أنهارٌ من الماء الحيّ” [172]. وقال القدّيس أغسطينس إنّ هذا النّهر الذي ينبع من المؤمن هو نهر المودّة. [173] وكرّر القدّيس توما الأكويني هذه الفكرة بقوله إنّه عندما “يسرع أحدٌ للمشاركة مع غيره مختلف مواهب النّعمة التي قبِلَها من الله، فإنّ الماء الحيّ يجري ويتدفَّق من صدره” [174].

175. في الواقع، إن كانت “ذبيحة الصّليب، التي يقدّمها يسوع بنفس محبّة ومطيعة، تقدِّم تعويضًا فائضًا وغير محدود، عن خطايا الجنس البشريّ” [175]، فالكنيسة، التي تُولد من قلب المسيح، تكمِّل وتُشرِك الجميع، في كلّ زمان ومكان، في آثار الآلام الفريدة الفادية التي تقود الإنسان إلى الاتّحاد المباشر مع الرّبّ يسوع.

176. في داخل الكنيسة، لا يمكن فهم وساطة مريم، الشّفيعة والأم، إلّا “بكونها مشاركة في هذا الينبوع الوحيد الذي هو وساطة المسيح نفسه” [176]، الفادي الوحيد، و”الكنيسة لا تتردّد في الاعتراف بدور مريم المرتبط بيسوع” [177]. العبادة لقلب مريم، في الواقع، لا تريد أن تنزع شيئًا من العبادة الفريدة لقلب المسيح، بل تزيدها: “رسالة مريم الوالديّة تجاه البشر لا تحجب أو تقلّل بأيّ شكل من الأشكال من شأن وساطة المسيح الفريدة، بل تبيِّن فعّاليّتها” [178]. بفضل الينبوع الغزير الذي يتدفَّق من جنب المسيح المفتوح، تصير الكنيسة ومريم وجميع المؤمنين، بطرق مختلفة، قنوات للماء الحيّ. هكذا المسيح نفسُه يكشف مجده في تواضع طبيعتنا.

أخُوّة وتصوّف

177. دعانا القدّيس برناردس إلى الاتّحاد بقلب المسيح، واستخدم غِنَى هذه العبادة ليقترح علينا تغييرًا في الحياة على أساس المحبّة. اعتبر أنّ هناك إمكانيّة تحوّل العاطفة، المستعبدة للملذات، التي لا تتحرّر بالطّاعة العمياء لوصيّة ما، بل بالاستجابة لعذوبة محبّة المسيح. الشّرّ نتجاوزه بالخير، الشّرّ نهزمه بمزيد من المحبّة: “أحبِب إذًا الرّبّ إلهك من كلّ ملئ عاطفة قلبك، أحبِّبْه بكلّ سَهَرِك وحذرِ عقلك، وأحبِّبْه أيضًا بكلّ قوتك، لدرجة أنّك لا تخَافُ حتّى أن تموت من أجل محبّته […]. ليكن الرّبّ يسوع عذبًا ولطيفًا على قلبك، لمقاومة ملذّات الجسد التي هي عذبة بشكلٍ سيّء، ولتتغلّب العذوبة على العذوبة كما يدقّ مسمارٌ مسمارًا آخر” [179].

178. وجد القدّيس فرنسيس دي سالِس نورًا خاصًّا في طلب يسوع: “تَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب” (متّى 11، 29). وكان يقول: بهذه الطّريقة، في أبسط الأمور وفي الأمور العاديّة، نسرق قلب الرّبّ يسوع: “سيكون مسرورًا منّا فقط إن اهتممنا بخدمته جيّدًا في الأشياء المهمّة وفي الصّغيرة والتي لا معنى لها، وبهذه أو بتلك يمكننا أن نسرق قلبه […]. أعمال المحبّة اليوميّة الصّغيرة، وصداع في الرّأس، ووجع أسنان، ووعكة صحّيّة، ومضايقة من الزّوج أو الزّوجة، ومزهريّة تنكسر، وقلّة تهذيب أو أيّة حركة، وفقدان القفازات أو الخاتم أو المنديل، وجُهد بسيط لكي نذهب إلى الفراش باكرًا، والاستيقاظ باكرًا للصّلاة، ولتناول القربان المقدّس، والخجل الخفيّ الذي نشعر به عندما نقوم ببعض أعمال العبادة علنًا: باختصار، كلّ التّناقضات الصّغيرة التي نلقاها، إذا قبلناها بمحبَّة، فإنّها ترضي الصّلاح الإلهيّ بما لا يُقدَّر” [180]. ولكن، في النّهاية، مفتاح استجابتنا لمحبّة قلب المسيح هو محبّة القريب: “محبّة راسخة، ثابتة، لا تتغيَّر، ولا تتوقَّف عند التّفاهات ولا عند صفات أو أحوال الأشخاص، ولا تخضع لتغيّرات أو ميول في المزاج. […] ربّنا يسوع المسيح يحبّنا دون انقطاع، ويتحمّل عيوبنا ونقائصنا. لذلك يجب علينا أن نفعل الشّيء نفسه مع إخوتنا، فلا نتعب أبدًا من الصّبر عليهم” [181].

179. أراد القدّيس شارل دي فوكو أن يقتدي بيسوع، وأن يعيش مثله، وأن يتصرّف كما تصرّف، وأن يعمل دائمًا ما كان سيعمله يسوع لو كان مكانه. ولتحقيق هذا الهدف كاملًا، كان بحاجة إلى أن يكون فيه ما في قلب المسيح من مشاعر. وهكذا تظهر العبارة ”الحبّ بالحبّ“ مرّة أخرى، عندما يقول: “أرغب في الآلام لأبادله الحبّ بالحبّ، […] ولأشارك في عمله، وأقدّم نفسي معه، أنا العدم، ذبيحةً، وضحيّة، من أجل تقديس البشر” [182]. الرّغبة في حمل محبّة يسوع إلى الغير، وفي رسالته بين الفقراء والمنسيّين على الأرض، دفعته إلى اتّخاذ الشّعار ”يسوع محبّة“، مع رمز قلب المسيح الذي يعلُوهُ صليب. [183] لم يكن قرارًا سطحيًّا: “بكلّ قوّتي أحاول أن أبيِّن وأثبت لهؤلاء الإخوة الفقراء الضّائعين أنّ ديانتنا كلّها محبّة، وكلّها أخوّة، وأنّ شعارها هو القلب” [184]. وكانت رغبته أن يستقرّ مع إخوة آخرين “في المغرب باسم قلب يسوع” [185]. وبهذه الطّريقة، ستكون مهمّتهم كمبشِّرين بالإنجيل، طريقة الإشعاع: “يجب أن تشّع المحبّة من أديرة الأخُوّة، كما تشِّع من قلب يسوع” [186]. هذه الرّغبة جعلته تدريجًا أخًا كونيًّا لأنّه أراد أن يستقبل كلّ البشريّة المتألّمة في قلبه الأخويّ، عندما ترك نفسه تتكوّن على مثال قلب المسيح: “يجب على قلبنا، مثل قلب الكنيسة، ومثل قلب يسوع، أن يعانق جميع البشر” [187]. “محبّة قلب يسوع للبشريّة، المحبّة التي أظهرها في آلامه، هي المحبّة التي يجب أن نكنَّها لجميع البشر” [188].

180. قال الأب هوفلين، المرشد الرّوحي للقدّيس شارل دي فوكو: “عندما يسكن الربّ يسوع في القلب، فإنّه يمنحه هذه المشاعر، وهذا القلب يتنازل ويدنو من الصّغار. وهذا كان استعداد القلب في منصور دي بول أيضًا […] عندما يكون الرّبّ يسوع هو الحيُّ في نفس كاهن، فإنّه يميل به نحو الفقراء […]” [189]. من المهمّ أن نلاحظ أنّ هذا التفاني في القدّيس منصور دي بول، الذي وصفه الأب هوفيلين، قد تغذّى أيضًا بالعبادة لقلب المسيح. كان القدّيس منصور دي بول يدعو إلى أن نستمدّ ”من قلب يسوع المسيح كلمة عزاء للمريض الفقير“. [190] ولكي يتحقّق ذلك، من الضّروري أنّ يكون القلب قد تحوّل وتبدّل بمحبّة قلب المسيح ووداعته، وقد كرّر القدّيس منصور دي بول هذه القناعة كثيرًا في مواعظه ونصائحه، حتّى جعلها عنصرًا أساسيًّا في قوانين رهبنته: “الجميع سيبذلون قُصارَى جهدهم أيضًا ليتعلّمو هذا الدّرس الذي علّمنا إيّاه يسوع: تَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، ويجب أن نتذكّر، كما قال هو نفسه: بالوداعة نملك الأرض، لأنّه إن مارسنا هذه الفضيلة نكسب قلوب النّاس ونحوّلهم إلى الله، وهذا ما لا يمكن أن نحصل عليه من الذين يتصرّفون مع القريب بطريقة قاسية وسيّئة” [191].

التّعويض: البناء على الأنقاض

181. كلّ هذا يسمح لنا بأن نفهم، في ضوء كلمة الله، المعنى الذي يجب أن نعطيه ”للتّعويض“ المقدّم لقلب المسيح، وما الذي ينتظره الرّبّ يسوع منّا حقًّا أن نعوِّض عنه بمساعدة نعمته. دار نقاش كثير في هذا الأمر، والقدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني قدَّم جوابًا واضحًا ليرشدنا نحن المسيحيّين اليوم إلى روحِ تعويضٍ أكثر انسجامًا مع الإنجيل.

المعنى الاجتماعيّ للتّعويض لقلب المسيح

182. أوضح القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّه بتقديم أنفسنا معًا لقلب المسيح، “على أنقاض الكراهية والعنف، سنتمكّن من بناء حضارة المحبّة المنشودة، مملكة قلب المسيح”، وهذا يعني بالتّأكيد أنّنا قادرون على أن “نوحِّد المحبّة البنويّة نحو الله مع محبّة القريب”، وأكدّ بقوّة أنّ “هذا هو التّعويض الحقيقيّ الذي يطلبه قلب المخلِّص” [192]. نحن مدعوّون، مع المسيح، إلى بناء حضارة محبّة جديدة، على الدّمار الذي خلّفناه في هذا العالم مع خطيئتنا. هذا يعني أن نعوِّض، كما يريد قلب المسيح ذلك منّا. في وسط الكارثة التي خلّفها الشّرّ، قلب المسيح يريد تعاوننا لنبني من جديد الخير والجمال.

183. أكيد أنّ كلّ خطيئة تضرّ بالكنيسة والمجتمع، لذلك “كلّ خطيئة يمكن أن يقال فيها إنَّ لها بعدًا اجتماعيًّا”، ولو كان هذا صحيحًا خاصّة بالنّسبة لبعض الخطايا التي هي، “في جوهرها، اعتداء مباشر على القريب” [193]. وأوضح القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّ تكرار هذه الخطايا ضدّ الآخرين يؤدّي غالبًا إلى ترسيخ ”بُنيَة الخطيئة“ التي تؤثّر على تطوّر الشّعوب. [194] وهذا غالبًا جزءٌ من عقليّة مهيمنة تعتبر أمرًا طبيعيًّا وعقلانيًّا ما هو في الحقيقة فقط أنانيّة ولامبالاة. هذه الظّاهرة يمكننا أن نسمّيها بالاغتراب الاجتماعيّ: “فالمجتمع يكون مغتربًا، عندما يجعل كلّ تنظيماته في المجتمع، للإنتاج أو الاستهلاك، مثل عراقيل أمام تحقيق هذا العطاء وتأسيس هذا التّضامن بين البشر” [195]. ليس فقط المعيار الأخلاقيّ هو الذي يدفعنا إلى مقاومة هذه الهيكليّات الاجتماعيّة المغتربة، وكشفها، والتّوصّل لديناميكيّة اجتماعيّة تستعيد الخير وتبنيه، بل هي “توبة القلب” التي “تفرض الواجب” [196] للتّعويض ولإصلاح هذه الهيكليّات. إنّه جوابنا على قلب يسوع المسيح المحبّ الذي يعلِّمنا أن نحِبّ.

184. ولأنّ التّعويض الإنجيليّ له هذا المعنى الاجتماعيّ القوّي، فإنّ أعمال المحبّة والخدمة والمصالحة التي نقوم بها، لكي يكون فيها تعويض بصورة فعّالة، تتطلّب أن يدفعها المسيح، ويحرّكها، ويجعلها ممكنة. قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أيضًا: لبناء حضارة المحبّة تحتاج البشريّة اليوم إلى قلب المسيح. [197] لا يمكن فهم التّعويض المسيحيّ فقط على أنّه مجموعة من الأعمال الخارجيّة، والتي لا بدَّ منها أيضًا وهي أحيانًا أعمال عجيبة، إنّما يتطلّب التّعويض روحانيّة، ونفَسًا، ومعنى يمنحها القوّة والاندفاع والإبداع بلا كلل. وهي بحاجة إلى الحياة والنّار والنّور التي تأتي من قلب المسيح.

تعويض القلوب المجروحة

185. من جهة أخرى، التّعويض الخارجيّ فقط لا يكفي لا للعالم ولا لقلب المسيح. لو فكّر كلّ واحد في خطاياه وعواقبها على الآخرين، لاكتشف أنّ تعويض الضّرّر الذي ألحقه بهذا العالم يجب أن يتضمّن أيضًا الرّغبة في التّعويض للقلوب التي جُرِحَت، والتي حدث فيها الضّرّر الأعمق، والجرح الأكثر إيلامًا.

186. روح التّعويض “يدعونا إلى أن نملأ قلبنا بالأمل في إمكانيّة شفاء كلّ جرح، مهما كان عميقًا. قد يبدو التّعويض الكامل أحيانًا مستحيلًا، عندما تكون الممتلكات أو الأحبّاء قد هلكوا بصورة دائمة، أو عندما تصير بعض الحالات غير قابلة للإصلاح. لكن نيّة التّعويض، والتّعويض بصورة عمليّة، أمر ضروريّ لعمليّة المصالحة وعودة السّلام في القلب” [198].

جمال طَلبِ المغفرة

187. النّيّة الحسنة لا تكفي. لا بدَّ من ديناميكيّة الرّغبة الدّاخليّة، التي تسبّب نتائج خارجيّة. باختصار، “التّعويض، لكي يكون مسيحيًّا، ويلمس قلب الشّخص المهان، ولا يكون عملًا بسيطًا من أعمال العدل التّبادليّ، يفترض موقِفَين متطَلِّبَين: الاعتراف بالذّنب وطلب المغفرة. […] ومن هذا الاعتراف الصّادق بالضّرّر الذي لحق بالأخ، ومن الشّعور العميق والصّادق بأنّ الحبّ قد جُرِح، تنشأ الرّغبة في التّعويض” [199].

188. علينا ألّا نفكّر أنّ الاعتراف بالخطيئة أمام الآخرين هو أمرٌ مهينٌ أو ضارٌّ بكرامتنا الإنسانيّة. بل بالعكس، هو التّوقّف عن الكذب على الذّات، وهو الاعتراف بتاريخنا كما هو، متَّسِمًا بالخطيئة، خاصّة إذا أسأنا إلى إخوتنا: “شكوى الذّات هو جزء من الحكمة المسيحيّة. […] وهذا يُرضي الرّبّ يسوع، لأنّه يقبل القلب المنسحق” [200].

189. عادة طلب المغفرة من الإخوة، هو جزء من روح التّعويض، وهو نُبل كبير في وسط ضعفنا. طَلَبُ المغفرة هو وسيلة لشفاء العلاقات لأنّه “يفتح الحوار من جديد ويُظهِر الرّغبة في استئناف الرّباط في المحبّة الأخويّة. […] وهذا يمسّ قلب الأخ ويعزّيه ويحثّه على قبول المغفرة المطلوبة”. وبالتّالي، “إن لم يكن ممكنًا شفاء ما لا يمكن شفاؤه بصورة كاملة، فالحبّ يمكن أن يُولَد دائمًا من جديد، ويجعل الجرح محتملًا” [201].

190. القلب القادر على النّدم يمكن أن ينمو في الأخوّة والتّضامن، لأنّ “الذين لا يبكون يشيخون في داخلهم، أمّا الذين يرفعون صلاة بسيطة وحميمة، فيها سجود وتأثُّرٌ أمام الله، فإنّهم ينضجون. ويصيرون أقلّ تعلّقًا بأنفسهم ويزدادون تعلّقًا بالمسيح، ويصيرون فقراءً بالرّوح. وبهذه الطّريقة، يشعرون بأنّهم أقرب إلى الفقراء، وأنّهم أحبّاء الله” [202]. إذّاك تولد روح حقيقيّة للتّعويض، لأنّ “النّادم في قلبه يشعر أكثر من غيره بأنّه أخٌ لجميع الخطأة في العالم. يشعر أنّه أخٌ دون أيّ مظهر من الاستعلاء أو القسوة في الحكم، ويشعر دائمًا بالرّغبة في أن يحبّ ويعوِّض” [203]. هذا التّضامن الذي يُولَدُ من النّدم يجعل، في الوقت نفسه، المصالحة ممكنة. فالشّخص القادر على النّدم، “بدلًا من أن يغضب أو أن يتشكّك من شرّ ارتكبه إخوته، يبكي على خطاياهم. فهو لا يتشكّك. ويحدث نوع من الانقلاب في النّفس، إذ الميل الطّبيعيّ لأن نكون رحماء تجاه أنفسنا ومتشدِّدين تجاه الآخرين، ينقلب ونصير بنعمة الله، متشدِّدين مع أنفسنا ورحماء تجاه الآخرين” [204].

التّعويض: امتداد لقلب المسيح

191. هناك طريقة تكميليّة أخرى لفهم التّعويض، تسمح لنا بوضعه في علاقة مباشرة مع قلب المسيح، دون أن نستبعد من هذا التّعويض الالتزام العمليّ تجاه إخوتنا وأخواتنا الذين تكلّمنا عنهم.

192. أكَّدتُ في سياقٍ آخر، أنّ الله “بطريقة ما، أراد الحدّ من نفسه، نوعًا ما”، و”حيث نجد أشياء عديدة، نعتبرها شرورًا أو أخطارًا أو أسباب معاناة، إنّما هي في الواقع جزء من آلام الولادة وتدفعنا إلى أن نتعاون مع الخالق” [205]. تعاوننا مع الله يقدر أن يسمح لقدرته ومحبّته بأن تنتشرا في حياتنا وفي العالم، بينما الرّفض أو اللامبالاة يمنعان ذلك. بعض العبارات من الكتاب المقدّس تعبِّر عن ذلك بصورة مجازيّة، مثلًا، عندما يشتكي الله: “إن رَجَعتَ، يا إِسْرائيل، يَقولُ الرَّبّ، إِن رَجَعتَ إِلَيَّ” (إرميا 4، 1). أو عندما قال أمام شعبه الذي رفضه: “قدِ انقَلَبَ فيَّ فُؤادي واضطَرَمَت أَحْشائي” (هوشع 11، 8).

193. لا يمكننا أن نتكلَّم على ألَمٍ جديدٍ للمسيح الممجّد، لكن “سرّ المسيح الفصحيّ […] والمسيح كلّه بما هو وكلّ ما صنعه وتحمّله في سبيل النّاس أجمعين يشترك في الحياة الأبديّة الإلهيّة ويشمل هكذا جميع الأزمان وهو حاضر فيها” [206]. إلّا أنّه يمكننا القول إنّه هو نفسه رضي بالحدّ من مجد قيامته الفائض، وبإيقاف انتشار محبّته الكبيرة والمتَّقدة لكي يُفسح المجال لتعاوننا الحرّ مع قلبه. وهذا حقيقيّ جدًّا لدرجة أنّ رفضنا له يوقفه في اندفاعه للعطاء، وكذلك ثقتنا به وتقدمة ذاتنا له يفتح مجالًا، وتوفّر قناةً حرّة من العوائق لتدفّق محبّته. رفضنا له أو لامبالاتنا يحدّان من تأثير قوّته وتأثير حبّه فينا. فإن لم يجد فيّ الثّقة والانفتاح، يُحرَمُ حبُّه امتداده في حياتي الفريدة وغير المتكرّرة، في العالم الذي يدعوني فيه إلى أن أجعله حاضرًا، هذه إرادته. وهذا ليس علامة ضعف فيه، بل دليل حرّيته التي لا حدَّ لها، وقدرته التي تبدو لنا متناقضة، وكمال محبّته لكلّ واحد منّا. وعندما تظهر قدرة الله المطلقة في ضعف حرّيتنا، “الإيمان وحده يستطيع أن يعرف ذلك” [207].

194. في الواقع، رَوَت القدّيسة مارغريتا مريم أنّه في إحدى ظهورات المسيح لها، كلّمها على قلبه المضطرم بالحبّ لنا، والذي “لمّا لم يكن قادرًا بعد على احتواء نيران حبّه المتَّقد في داخله، شعر بحاجة لأن ينشرها” [208]. وبما أنّ الله القدير، في حرّيّته الإلهيّة، يحتاج إلينا، يُفهَمُ التّعويض على أنّه إزالة للعقبات التي نضعها أمام انتشار محبّة المسيح في العالم، بسبب قلّة الثّقة فينا والشّكر والتفاني.

تقدمة الحبّ

195. لكي نتأمّل بشكل أفضل في هذا السّرّ، تأتي لمساعدتنا مرّة أخرى روحانيّة القدّيسة تريزا الطّفل يسوع المضيئة. علِمَت أنّ بعض النّاس قد طوّروا شكلًا مبالغًا فيه من أشكال التّعويض، بنيَّتهم الحسنة لتقدمة ذاتهم من أجل الآخرين، يقدِّمون ذاتهم نوعًا من ”مانعة الصّواعق“ حتّى يتحقّق العدل الإلهيّ: “كنت أفكّر في النّفوس التي تقدّم ذاتها ذبيحة لعدل الله، لتبعد العقاب عن الخطأة وتحوِّلها إلى ذاتها” [209]. ومهما بدت تقدمة الذّات هذه رائعة، إلّا أنّها لم تكن مقتنعة بها تمامًا: “كنت أبعد من أن أندفع إلى القيام بها” [210]. وأدّى هذا الإصرار على العدل الإلهيّ في النّهاية إلى التّفكير بأنّ ذبيحة المسيح كانت غير كاملة أو كانت فعّالة جزئيًّا فقط، أو أنّ رحمته لم تكن كثيفة بصورة كافية.

196. اكتشفت القدّيسة تريزا، بحدْسها الرّوحي، أنّ هناك طريقة أخرى لتقديم الذّات، حيث لا حاجة لإرواء العدل الإلهيّ، بل لتسمح لمحبّة الله اللامتناهية بأن تنتشر دون عقبات: “يا إلهيّ، هل سيبقى حبّك المزدرى داخل قلبك؟ أعتقد أنّه لو وجَدتَ نفوسًا تقدّم ذاتها ضحايا محرقة لحبّك، لأذَبْتَها بسرعة. وأعتقد أنّك ستكون سعيدًا بألّا تحبس سيول الحنان اللامتناهي فيك” [211].

197. ليس هناك ما نضيفه إلى ذبيحة المسيح الفدائيّة الفريدة، لكنّه صحيح أنّ رفض حريتنا لا يسمح لقلب المسيح بأن يفيض ”موجات حنانه غير المحدود“ في هذا العالم. ولذلك يريد الرّبّ نفسه أن يحترم هذه الإمكانيّة. هذا ما يثير الاضطراب في قلب القدّيسة تريزا الطّفل يسوع، أكثر من العدل الإلهيّ، لأنّ العدل، في نظرها، لا يمكن أن يُفهَم إلّا في ضوء الحبّ. وقد رأينا أنّها كانت تسجد لكلّ الكمالات الإلهيّة من خلال الرّحمة، وكانت تراها متجليّة مُشِعَّةً بالحبّ. كانت تقول: “حتّى العدل (وربما أكثر من أيّ صفة أخرى) يبدو لي محاطًا بالحبّ” [212].

198. وهكذا، وُلدت تقدمة ذاتها، ليس للعدل الإلهيّ، بل للحبّ الرّحيم: “إنّي أقدّم نفسي ضحيّة محرقة لحبّك الرّحيم، وأتوسّل إليك أن تذيبني باستمرار، واترُكْ أمواج الحنان غير المحدود المحصورة فيك، تفيض في نفسي، وبهذه الطّريقة أصير شهيدة لحبّك، يا إلهي” [213]. من المهمّ أن نلاحظ أنّ الأمر ليس فقط بأن تسمح لقلب المسيح بأن ينشر جمال حبّه في قلبنا، من خلال الثّقة الكاملة، بل أيضًا من خلال حياتنا، يصل هو إلى الآخرين، ويغيِّر العالم: “في قلب الكنيسة أمّي، سأكون الحبّ! […] هكذا يتحقّق حلمي” [214]. الوجهان متّحدان بشكل لا ينفصل.

199. قَبِلَ الله تقدمة ذاتها. في الواقع، بعد مرور بعض الوقت أظهرت حبّها الشّديد للآخرين وأكّدت أنّ ذلك كان يأتي من قلب المسيح الممتدّ من خلالها. قالت للأخت ليوني ما يلي: “أحبّك بحنان ألف مرّة أكثر ممّا تحبّ الأخوات العاديّات بعضهنّ البعض، لأنّني أستطيع أن أحبّك بقلب عريسنا السّماوي” [215]. وبعد فترة من الزّمن، قالت لموريس بيليير (Maurice Bellière): “كم أريدك أن تفهم حنان قلب يسوع وما يتوقّعه منك!” [216].

تقدمة كاملة وانسجام

200. أيّها الأخوات والإخوة، أقترح أن نطوّر هذا الشّكل من التّعويض، وهو في النّهاية منح قلب المسيح إمكانيّة جديدة لنشر لهيب حنانه المتَّقد في هذا العالم. إن كان صحيحًا أنّ التّعويض هو الرّغبة في التّكفير عن الإهانات التي لحقت بطريقة ما بالحبّ غير المخلوق، بسبب النّسيان أو الإهانة، [217] فالطّريقة الأنسب هي أن يعطي حبّنا لله الفرصة لينتشر بدل تلك المرّات التي رُفِضَ أو أُنكِرَ فيها. وهذا يحدث إن ذهبنا إلى أبعد من ”التّعزية“ البسيطة للمسيح، التي تكلّمنا عليها في الفصل السّابق، ويصير تعويضنا أعمال محبّة أخويّة نشفي بها جراح الكنيسة والعالم. بهذه الطّريقة نقدّم طرقًا جديدة للقوّة الشّافية لقلب المسيح.

201. الزّهد والآلام التي تطلبها أعمال المحبّة هذه للقريب توحّدنا مع آلام المسيح، وبالتألّم مع المسيح في “هذا الصّلب السّرّي الذي يتكلّم عليه الرّسول، سننال ثمار التّعويض والتّكفير الوافرة، عن أنفسنا وعن الآخرين” [218]. المسيح وحده يخلِّص بذبيحته على الصّليب من أجلنا، وهو وحده يفدي، لأنّ “اللهَ واحِد، والوَسيطَ بَينَ اللهِ والنَّاسِ واحِد، وهو إِنْسان، أَيِ المسيحُ يسوعُ، الَّذي جادَ بِنَفْسِه فِدًى لِجَميعِ النَّاس” (1 طيموتاوس 2، 5–6). التّعويض الذي نقدّمه هو مشاركة، نقبلها بحرّيّة، في حبّه الفادي وذبيحته الواحدة. إذّاك نكمّل في جسدنا “ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح في سَبيلِ جَسَدِه الَّذي هو الكَنيسة” (قولسي 1، 24)، والمسيح نفسه هو الذي يُبقِي فينا آثار عطائه الكامل حبًّا لنا.

 

202. الآلام ترتبط غالبًا بالأنا، بنفسنا المجروحة، وتواضع قلب المسيح هو الذي يبيِّن لنا طريق التّواضع. أراد الله أن يأتي إلينا فلاشى نفسه، وصار صغيرًا. العهد القديم يعلّمنا ذلك من خلال رموز مختلفة تُظهر لنا إلهًا يدخل في تاريخنا الوضيع، ويسمح لشعبه بأن يرفضه. حبّه يختلط بالحياة اليوميّة لشعبه الذي أحبّه هو، وصار يستَجدِي جوابًا، كأنّه يطلب الإذن لإظهار مجده. من جهة أخرى، “ربما مرّة واحدة فقط دعانا الرّبّ يسوع بكلامه إلى قلبه. وشدّد على هذه السّمات: ”الوداعة والتّواضع“، كأنّه يريد أن يقول إنّه بهذه الطّريقة فقط يريد أن يكسب بها الإنسان” [219]. لمــَّا قال المسيح: “تَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب” (متّى 11، 29)، قال لنا “إنّه يحتاج إلى صغرنا وضَعَتِنا لكي يعبِّر عن نفسه” [220].

203. في كلّ ما قلناه، من المهمّ أن نلاحظ عدّة أوجه لا يمكن فصلها الواحد عن الآخر، لأنّ أعمال المحبّة للقريب، مع كلّ ما تنطوي عليه من زهد وإنكار للذّات وآلام وجهود، تقوم بهذه المهمّة عندما تتغذّى بمحبّة المسيح نفسه. إنّه يسمح لنا بأن نحبّ كما أحبّ هو، وهكذا هو نفسه يحبّ ويخدُم من خلالنا. وإن بدا من ناحيّة أنّه يصغر ويلاشي نفسه، لأنّه أراد أن يُبيِّن محبّته من خلال أعمالنا، من ناحيّة أخرى، في أبسط أعمال الرّحمة، يتمجّد قلبه ويُظهر كلّ عظمته. القلب البشري الذي يترك المجال لحبّ المسيح، بثقة كاملة، ويسمح له بأن يفيض ناره في حياته، يصير قادرًا على محبّة الآخرين مثل المسيح، ويجعل نفسه صغيرًا وقريبًا من الجميع. وهكذا يُروي المسيح عطشه وينشر مجده ولهيب حنانه المتَّقد فينا ومن خلالنا. ولْنلاحظْ الانسجام الجميل في كلّ هذا.

204. أخيرًا، لكي نفهم هذه العبادة بكلّ غناها، من الضّروريّ أن نضيف، معتبِرين ما قلناه عن بُعد الثّالوث الأقدس، أنّ التّعويض للمسيح الإنسان يُقدَّم إلى الآب من خلال عمل الرّوح القدس فينا. لذلك، فإنّ التّعويض لقلب المسيح يُقدَّم في النّهاية إلى الآب، الذي يسرُّه أن يرانا متّحدين مع المسيح عندما نقدِّم أنفسنا به ومعه وفيه.

أشعلوا العالم بالحبّ

205. الرّؤية المسيحيّة للحياة، فيها ما يجذب الإنسان، عندما تُعاش وتَظهَر في صورتها الكاملة: فهي ليست لجوءًا بسيطًا إلى مشاعرَ دينيّة، ولا هي أعمال عبادة باهرة. أيّ عبادة هي، لو اكتفينا بعلاقة شخصيّة مع المسيح، دون أن نهتمّ بمساعدة الآخرين فنخفِّف من آلامهم أو نساعدهم لتكون لهم حياة أفضل؟ هل يمكن ربّما أن نرضي قلب يسوع الذي أحبّ كثيرًا إن بقيت خبرتنا الدّينيّة فينا فقط، دون تأثير على حياة إخوتنا ومجتمعنا؟ لنكن صادقين ولنقرأ كلمة الله كاملة. ولهذا السّبب نفسه نقول إنّ الأمر ليس نشرًا لعمل اجتماعيّ لا معنى دينيّ له، وهذا في النّهاية أقلّ ممّا يريد الله أن يمنحه للإنسان. لهذا يجب أن نختتمّ هذا الفصل مذكِّرين بالبُعد الإرساليّ لمحبّتنا لقلب المسيح.

206. القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، بالإضافة إلى الكلام على البُعد الاجتماعيّ لعبادة قلب المسيح، قال إنّ “التّعويض، هو تعاون في عمل الرّسالة من أجل خلاص العالم” [221]. وبالطّريقة نفسها، فإنّ التّكرّس لقلب المسيح “يجب أن يكون مرتبطًا بعمل الكنيسة نفسها في حقل الرّسالة، لأنّه يجيب على رغبة قلب يسوع في أن ينشر في العالم كلّه، من خلال أعضاء جسده، عطاءه الكامل من أجل الملكوت” [222]. إذّاك من خلال المسيحيّين “تفيض المحبّة في قلوب البشر حتّى يُبنى جسد المسيح، الذي هو الكنيسة، ويُبنى أيضًا مجتمع عدل وسلام وأخوّة” [223].

207. انتشار نار محبّة قلب المسيح يتمّ أيضًا في عمل الكنيسة في الرّسالة، التي تحمل إعلان حبّ الله الذي ظهر في المسيح. كان القدّيس منصور دي بول يعلِّم هذا جيّدًا عندما كان يدعو تلاميذه إلى أن يطلبوا إلى الله “هذا القلب، هذا القلب الذي يجعلنا نذهب إلى كلّ مكان، قلب ابن الله هذا، قلب ربّنا يسوع المسيح، […] الذي يهيِّئنا لنذهب كما كان يذهب […] ويرسلنا نحن أيضًا مثل تلاميذه، لنحمل ناره إلى كلّ مكان” [224].

208. قال القدّيس البابا بولس السّادس، في كلمته للرّهبانيّات التي تنشر عبادة قلب يسوع الأقدس، “لا شكّ في أنّ الالتزام الرّعوي والغَيرة في الرّسالة سيتَّقدان بصورة شديدة، إن تأمّل الكهنة والمؤمنون، لنشر مجد الله، في مثال المحبّة الأزليّة التي أظهرها لنا المسيح، وإن وجَّهوا جهودهم لجعل جميع البشر يشتركون في غنى المسيح الذي لا يُستَقصَى” [225]. في نور القلب الأقدس، تصير الرّسالة مسألة محبّة، والخطر الأكبر في هذه الرّسالة هو أن نقول ونعمل أشياء كثيرة، ولكن لا ننجح بأن نحقّق لقاءً حيًّا مع محبّة المسيح التي تعانق وتخلِّص.

209. الرّسالة، إن فُهِمَت على أنّها إشعاع محبّة قلب المسيح، تتطلّب مُرسَلِين ”مشغوفين بحبِّ الله“، وما زالوا أسرى المسيح، فهُم ينقلون حتمًا هذا الحبّ الذي غيّر حياتهم. لهذا، هؤلاء يؤلمهم إضاعة الوقت في مناقشة القضايا الثّانويّة أو فرض حقائق وقوانين، لأنّ همّهم الأكبر هو نقل ما يعيشونه، وخاصّة، أن يتمكّن الآخرون من أن يدركوا صلاح وجمال الله المُحِبّ من خلال جهودهم الضّئيلة. أليس هذا ما يحدث مع كلّ مُحِبّ؟ يجدر بنا أن ننظر مثلًا في كلمات دانتي أليغييري، الواقع في الحبّ، وقد أراد أن يعبِّر عن هذا المنطق:

“عندما أفكِّر في قيمة الحبّ

أشعر بالحبِّ في نفسي عذبًا إلى حدِّ

أنّي ولو فقدت الجرأة في نفسي

فإنّ نَبَراتي تجعل الجميع عاشقين” [226].

210. التكلّم على المسيح، بالشّهادة أو بالكلام، حتّى لا يضطّر الآخرون إلى بذل جهد كبير لمحبّته، هذه هي أسمى رغبة لمرسل إلى النّفوس. في ديناميكيّة الحبّ لا يوجد اقتناص أو بحث عن أتباع، فكلام المحبّ لا يزعج ولا يفرض ولا يعرف الإكراه، بل يحمل الآخرين على السّؤال: كيف يمكن أن يكون مثل هذا الحبّ. ومع أقصى درجات الاحترام لحرّيّة الآخر وكرامته، يأمل المحبّ ببساطة أن يُسمح له بأن يروي قصّة الصّداقة التي تملأ حياته.

211. يَطلب منك المسيح، دون أن تهمل الفطنة والاحترام، ألّا تخجل من الاعتراف بصداقتك معه. يَطلب منك أن تكون لديك الشّجاعة على القول للآخرين إنّه حسنٌ لك أن تلتقي به: “مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أَبي الَّذي في السَّموات” (متّى 10، 32). بالنّسبة للقلب المحبّ، ليس هذا واجبًا، بل هو ضرورة يصعب عدم الاستجابة لها: “الوَيلُ لي إِن لم أُبَشِّر!” (1 قورنتس 9، 16). “كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة قد حُبِسَت في عِظامي فأَجهَدَني احتِمالُها ولَم أَقْوَ على ذلك” (إرميا 20، 9).

في شركة الخدمة

212. يجب ألّا نفكّر في رسالة التّعريف بالمسيح هذه، أنّها مجرّد شيء بيني وبينه. بل يجب أن نعيشها في شركة ووَحدة مع جماعتنا المؤمنة ومع الكنيسة. إن أبعدنا أنفسنا عن الجماعة، فإنّنا نُبعد أنفسنا عن يسوع. وإن نسيناها ولم نهتمّ للجماعة، فإنّ صداقتنا مع يسوع تبرد. يجب ألّا ننسَ هذا السّرّ أبدًا. محبّة الإخوة في جماعتنا المؤمنة – الرّهبانيّة، والرّعويّة، والأبرشيّة – هي بمثابة الوقود الذي يغذّي صداقتنا مع يسوع. أعمال المحبّة للإخوة في الجماعة المؤمنة يمكن أن تكون أفضل طريقة، أو أحيانًا الطّريقة الوحيدة الممكنة، للتعبير عن محبّة يسوع المسيح للآخرين. قال الرّبّ يسوع نفسه: “إِذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي” (يوحنّا 13، 35).

213. إنّها المحبّة التي تصير خدمة للجماعة. ولا أتعب من التّذكير بأنّ يسوع قال ذلك بوضوح كبير: “كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متّى 25، 40). فهو يوصيك أن تجده أيضًا في كلّ أخ وأخت، وخاصّة في الذين هم أكثرهم فقرًا، والمحتقرين والمتروكين. يا له من لقاء جميل!

214. لذلك، إن كرّسنا أنفسنا لمساعدة أحد، فهذا لا يعني أنّنا ننسى يسوع. بل بالعكس، سنجده بطريقة أخرى. وعندما نحاول أن نُنهِض ونَشفي أحدًا، فيسوع يكون هناك بجانبنا. يجب أن نتذكّر أنّ الرَّبَّ يسوع لمــَّا أرسل تلاميذه كان “يَعمَلُ مَعَهم” (مرقس 16، 20). إنّه هناك، يعمل، ويكافح ويصنع الخير معنا. بطريقة خفيّة، تظهر محبّته في خدمتنا، وهو نفسه الذي يتكلّم إلى العالم بهذه اللغة التي لا كلام فيها أحيانًا.

215. يسوع يرسلك لتنشر الخير ويدفعك من داخل نفسك. لهذا يدعوك إلى دعوة فيها خدمة: لتصنع الخير، سواء كنت طبيبًا، أم أمًّا، أم معلِّمًا، أم كاهنًّا. أينما كنت، يمكنك أن تسمع أنّه يدعوك ويرسلك لتحمل هذه الرّسالة على الأرض. هو نفسه يقول لنا: “فهاءَنَذا أُرسِلُكم” (لوقا 10، 3). وهذا جزء من الصّداقة معه. لذلك، لكي تنضج هذه الصّداقة، يجب أن تسمح له بأن يرسلك لتُتِمّ رسالة في هذا العالم، بثقة، وسخاء، وحرّيّة، ودون مخاوف. إن انغلقت في راحتك، لن تجد الأمان، ستَظهر دائمًا المخاوف والحزن والقلق. الذي لا يتمّم رسالته على هذه الأرض لا يمكن أن يكون سعيدًا، بل يُصاب بالإحباط. لهذا من الأفضل أن تتركه يرسلك، اتركه يسير بك أينما يريد. ولا تنسَ أنّه يرافقك. فهو لا يلقي بك في الهاوية ولا يتركك لقواك. هو يدفعك ويرافقك. وعَدَ بذلك وهو يفي بوعده: “هاءَنذا معَكم طَوالَ الأَيَّام” (متّى 28، 20).

216. يجب أن تكون مرسلًا، مُرسَلة، بطريقة ما، كما كان رسل يسوع والتّلاميذ الأوائل، الذين ذهبوا ليُعلنوا محبّة الله، ذهبوا ليعلنوا أنّ المسيح حيّ ويستحقّ أن نعرفه. عاشت القدّيسة تريزا الطّفل يسوع هذه الخبرة كعنصر ضروريّ من تقدمة ذاتها للحبّ الرّحيم: “أردت أن أسقي حبيبي، وأنا نفسي شعرت بعطش النّفوس يُحرِقُني” [227]. وهذه أيضًا هي رسالتك. كلّ واحد يتمِّم رسالته بطريقته الخاصّة، انظر كيف يمكنك أن تكون مُرسَلًا، مُرسَلة. فيسوع يستحقّ ذلك. إن كانت لديك الشّجاعة، هو، من جهته، ينيرك، ويرافقك ويقوّيك، وستعيش خبرة ثمينة تُفيدك كثيرًا. لا يهمّ إن استطعت أن ترى النّتائج، المهمّ أن تترك الرّبّ يسوع يعمل في سرّ القلوب، لكن لا تتوقّف عن اختبار الفرح في سَعيِك للتّعريف بمحبّة المسيح للآخرين.

الخاتمة

217. ما تعبِّر عنه هذه الوثيقة يسمح لنا بأن نكتشف أنّ ما ورد في الرّسائل الاجتماعيّة ”كُنْ مُسَبَّحًا“ (Laudato si) و ”كلّنا إخوة“ (Fratelli tutti) ليس غريبًا عن لقائنا بمحبّة يسوع المسيح، لأنّنا إذا ارتوينا من هذه المحبّة صِرْنا قادرين على نسج روابط الأخوّة، والاعتراف بكرامة كلّ إنسان، والاعتناء معًا ببيتنا المشترك.

218. اليوم، كلّ شيء يُشترى ويُدفع ثمنه، ويبدو أنّ الشّعور بالكرامة يعتمد على الأشياء التي نحصل عليها بسلطة المال. نحن مدفوعون فقط إلى أن نكدِّس المال ونستهلك الأشياء ونلهو، ونحن أسرى نظام مهين لا يسمح لنا بالنّظر إلى ما هو أبعد من احتياجاتنا المباشرة والمسكينة. محبّة المسيح خارج هذه الآليّة الفاسدة، وهو وحده يستطيع أن يحرّرنا من هذه الحُمَّى التي لم يعد فيها مكان للمحبّة المجّانيّة. إنّه قادر على إعطاء قلب لهذه الأرض وأن يخلق من جديد الحبّ حيثما نعتقد أنّ القدرة على الحبّ قد ماتت إلى الأبد.

219. الكنيسة أيضًا تحتاج إلى هذا، حتّى لا تستبدل محبّة المسيح بهيكليّات عفا عليها الزّمن، وهوس أزمنة غابرة، وعبادة عقليّاتنا الخاصّة، وكل أنواع التّعصّب، وينتهي بنا الأمر إلى إحلال كلّ ذلك محلّ محبّة الله المجّانيّة التي تحرّر وتحيي وتُفرح القلب وتُغذّي الجماعات. من الجرح في جنب المسيح ما زال النّهر يتدفَّق ولا ينضب أبدًا، ولا يزول، ويقدِّم نفسه دائمًا من جديد لمن يريد أن يحبّ. حبّه فقط يجعل البشريّة الجديدة ممكنة.

220. أصلّي إلى الرّب يسوع لكي تجري من قلبه الأقدس أنهارٌ من المياه الحيّة لنا جميعًا لشفاء الجراح التي نسبِّبُها لأنفسنا، ولتقوِيَةِ قدرتنا على الحبّ والخدمة، ولتدفعنا إلى أن نتعلَّم السَّير معًا نحو عالم عادل ومتضامن وأخوّي. وهذا إلى أن نحتفل معًا بسعادة بوليمة الملكوت السَّماوي. هناك المسيح القائم من بين الأموات، الذي سيوفِّق بين كلّ اختلافاتنا بالنّور الذي يفيض باستمرار من قلبه المفتوح. ليكن دائمًا مباركًا.

صَدَرَ في روما، قرب ضريح القدّيس بطرس، في 24 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، في السَّنة الثَّانية عشرة من حبريَّتي.

فرنسيس

_____________________________________

[1] أفكار كثيرة من هذا الفصل مستلهمة من كتابات الكاهن اليسوعي دييغو فارس (Diego Fares S.I) غير منشورة. ليقبله الله في مجد قدّيسيه.

[2] راجع هوميروس، الإلياذة، 21، 441.

[3] راجع المرجع نفسه، 10، 244.

[4] راجع Timeo 65 c-d، 70.

[5] عظة في قدّاس الصّباح في بيت القدّيسة مارتا، 14 تشرين الأوّل/أكتوبر 2016: L’Osservatore Romano، 15 تشرين الأوّل/أكتوبر 2016، 8.

[6] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، صلاة الملاك، 2 تموز/يوليو 2000: L’Osservatore Romano، 3-4 تمّوز/يوليو 2000، 4.

[7] المؤلّف نفسه، التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامَّة، 8 حزيران/يونيو 1994: L’Osservatore Romano، 9 حزيران/يونيو 1994، 5.

[8] الشّياطين (1873).

[9] Romano Guardini، العالم الدّيني في كتابات دوستويفسكي، بريشّا 1980، 236.

[10] Karl Rahner، بعض الأفكار للاهوت عبادة قلب يسوع الأقدس، في لاهوت قلب المسيح، روما 1995، 60.

[11] المرجع نفسه، 61.

[12] Byung-Chul Han, Heideggers Herz. Zum Begriff der Stimmung bei Martin Heidegger, München 1996, 39.

[13] المرجع نفسه، 60، راجع 176.

[14] راجع المرجع نفسه، نزاع Eros، ميلانو، 2019.

[15] راجع Martin Heidegger، شعر Hölderlin، ميلانو، 1988، 144.

[16] Cfr Michel de Certeau, Lo spazio del desiderio. Gli «Esercizi Spirituali» di Loyola, in Il parlare angelico: figure per una poetica della lingua: secoli XVI e XVII, Firenze 1989, 95-110.

[17] مسيرة العقل إلى الله، VII، 6: القدّيس بونافنتورا، ربط العلوم باللاهوت، روما 1995، 93.

[18] Id., Proemium in I Sent., q. 3: Opera Omnia, Quaracchi 1882, vol. 1, 13.

[19]S. John Henry Newman ، تأمّلات وصلوات، ميلانو، 2002، 106.

[20] دستور رعائي، فرح ورجاء، 82.

[21] المرجع نفسه، 10.

[22] المرجع نفسه، 14.

[23] راجع دائرة عقيدة الإيمان، إعلان الكرامة التي لا حدود لها، 2 نيسان/أبريل 2024، 8. راجع L’Osservatore Romano، 8 نيسان/أبريل 2024.

[24] دستور رعائي، فرح ورجاء، 26.

[25] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، صلاة الملاك، 28 حزيران/يونيو 1998: L’Osservatore Romano، 30 حزيران/يونيو – 1 تمّوز/يوليو 1998، 7.

[26] رسالة بابويّة عامّة، كُنْ مُسَبَّحًا، 24 أيّار/مايو 2015، 83: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ (2015)، 880.

[27] عظة في قدّاس الصّباح في بيت القدّيسة مارتا، 7 حزيران/يونيو 2013: L’Osservatore Romano، 8 حزيران/يونيو 2013، 8.

[28] بيوس الثّاني عشر، رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه -Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، I: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 316.

[29] بيوس السّادس، دستور، مصدر الإيمان -Auctorem fidei، 28 آب/أغسطس 1794، 63: (Denzinger-Hünermann)، 2663.

[30] لاون الثّالث عشر، رسالة بابويّة عامّة، السّنة المقدّسة – Annum Sacrum، 25 أيّار/مايو 1899: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 31 (1898-1899)، 649.

[31] المرجع نفسه: “في القلب الأقدس رمز وصورة صريحة لحبّ يسوع المسيح اللامتناهي”.

[32] صلاة الملاك، 9 حزيران/يونيو 2013: L’Osservatore Romano، 10-11 حزيران/يونيو 2013، 8.

[33] هكذا نفهم لماذا منعت الكنيسة وضع صور لقلب يسوع أو لقلب مريم وحدهما على المذبح (راجع ردّ رهبنة Riti إلى الكاهن كارلوس ليكوك، 5 نيسان/أبريل 1879: Decreta authentica Congregationis Sacrorum Rituum ex actis ejusdem collecta, vol. III, 107-108, n. 3492). خارج الليتورجيّا، “للعبادة الخاصّة” ( المرجع نفسه)، يمكن استخدام رمز القلب كتعبير تعليميّ أو صورة جماليّة أو رمزيّة يدعونا إلى التّفكير في محبّة المسيح، لكنّنا نوشك أن نتّخذ القلب موضوعًا للعبادة أو الحوار الرّوحيّ، منفصلًا عن شخص المسيح. في 31 آذار/مارس 1887، قدّمت الرّهبنة ردًّا مشابهًا آخر ( المرجع نفسه، 187، رقم 3673).

[34] المجمع التريدنتيني المسكونيّ، الجلسة XXV، قرار ”يأمر السّينودس المقدّس“ ( Mandat Sancta Synodus)، 3 كانون الأوّل/ديسمبر 1563: (Denzinger-Hünermann)، 1823.

[35] مؤتمر الأساقفة الخامس في أمريكا اللاتينيّة والكاريبي، وثيقة الأباريسيدا – Documento di Aparecida، 29 حزيران/يونيو 2007، رقم 259.

[36] رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه -Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 323-324.

[37] الرّسالة 261، 3: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 32، 972.

[38] في إنجيل القدّيس يوحنّا، العظة 63، 2: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 59، 350.

[39]  De fide ad Gratianum، II، 7، 56: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 16، 594 (طبعة 1880).

[40] شروحات – Enarrationes، في المزمور 87، 3: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 37، 1111.

[41] راجع في الإيمان القويم، 3، 6. 20: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 94، 1006. 1081.

[42] Olegario González De Cardedal، قلب المسيحيّة، سالامانكا، 2010، 70-71.

[43] صلاة الملاك، 1 حزيران/يونيو 2008: L’Osservatore Romano، 2-3 حزيران/يونيو 2008، 1.

[44] بيوس الثّاني عشر، رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه – Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، II: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 327-328.

[45] المرجع نفسه، 28: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 343-344.

[46] بندكتس السّادس عشر، صلاة الملاك، 1 حزيران/يونيو 2008: L’Osservatore Romano، 2-3 حزيران/يونيو 2008، 1.

[47] Vigilio، دستور، بين الهموم الكثيرة – Inter innumeras sollicitudines، 14 أيّار/مايو 553: (Denzinger-Hünermann)، 420.

[48] مجمع أفسس المسكوني، حرمان كيرلّس الإسكندريّ، 8: (Denzinger-Hünermann)، 259.

[49] مجمع القسطنطينيّة الثّاني المسكوني، الجلسة VIII، 2 حزيران/يونيو 553، القانون 9: (Denzinger-Hünermann)، 431.

[50] القدّيس يوحنّا الصّليب، النّشيد الرّوحيّ، A، المقطوعة 22، 4: الأعمال، روما 1979، 919.

[51] المرجع نفسه، المقطوعة 12، 8: الأعمال المذكورة، 881.

[52] المرجع نفسه، المقطوعة 12، 1: 881.

[53] “فلَيسَ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير” (1قورنتس 8، 6). “المَجْدُ للهِ أَبينا أَبَدَ الدُّهور. آمين” (فيلبي 4، 20). “تَبارَكَ اللّهُ أَبو ربِّنا يسوعَ المسيحِ، أَبو الرَّأفَةِ وإِلهُ كُلِّ عَزاء” (2 قورنتس 1، 3).

[54] رسالة بابويّة عامّة، في الألفيّة الثّالثة – Tertio millennio adveniente، 10 تشرين الثّاني/نوفمبر 1994، 49: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 87 (1995)، 35.

[55] رسالة إلى أهل رومة، 7: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 5، 694.

[56] “يجب أن يَعرِفَ العالَم أَنِّي أُحِبُّ الآب” (يوحنّا 14، 31). “أَنا والآبُ واحِد” (يوحنّا 10، 30). “أنا في الآبِ والآب فيَّ” (راجع يوحنّا 14، 10).

[57] “أَمضي إِلى الآب” (πρὸς τὸν πατέρα: يوحنّا 16، 28)؛ “أَنا ذاهِبٌ إِليكَ” (πρὸς σὲ: يوحنّا 17، 11).

[58] “εἰς τὸν κόλπον τοῦ πατρὸς”.

[59] الرّد على الهراطقة III، 18، 1: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 7، 923.

[60]   في إنجيل يوحنّا II، 2: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 14، 110.

[61] صلاة الملاك، 23 حزيران/يونيو 2002: L’Osservatore Romano، 24-25 حزيران/يونيو 2002، 1.

[62] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة في الذّكرى المئويّة لتكريس الجنس البشريّ لقلب يسوع الأقدس، وارسو، 11 حزيران/يونيو 1999، في الاحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس: L’Osservatore Romano، 12 حزيران/يونيو 1999، 5.

[63] المؤلّف نفسه، صلاة الملاك، 8 حزيران/يونيو 1986، 4: L’Osservatore Romano، 9-10 حزيران/يونيو 1986، 5.

[64] عظة، زيارة مستشفى Gemelli وكلّيّة الطّب في جامعة القلب الأقدس الكاثوليكيّة، 27 حزيران/يونيو 2014: L’Osservatore Romano، 29 حزيران/يونيو 2014، 7.

[65] أفسس 1، 5. 7؛ 2، 18؛ 3، 12.

[66] أفسس 2، 5. 6؛ 4، 15.

[67] أفسس 1، 3. 4. 6. 7. 11. 13. 15؛ 2، 10. 13. 21. 22؛ 3، 6. 11. 21.

[68] رسالة في الذّكرى المئويّة لتكريس الجنس البشريّ لقلب يسوع الأقدس، وارسو، 11 حزيران/يونيو 1999، في الاحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس: L’Osservatore Romano، 12 حزيران/يونيو 1999، 5.

[69] “بما أنّ القلب الأقدس هو رمز وصورة حسّيّة لحبّ يسوع المسيح غير المحدود الذي يدفعنا إلى أن نحِبَّ بعضنا بعضًا، فمن المناسب والملائم أن نكرِّس أنفسنا لقلبه الأقدس، أي أن نقدِّم ذاتنا، وأن نتَّحد بيسوع المسيح […]. وعلامة أخرى أمام عيوننا اليوم، في روعة الجمال والألوهيّة: قلب يسوع الأقدس على الصّليب، يسطع بين النيران، ببهاء رائع. ففيه نضع كلّ الآمال، وفيه نطلب ونرجو خلاص البشر” (رسالة بابويّة عامّة، السّنة المقدّسة – Annum sacrum، 25 أيّار/مايو 1899، أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 31 [1898-1899]، 649؛ 651).

[70] “في هذه العلامة المجيدة، وفي هذا التّعبّد النّاجم عنها، أليس صحيحًا أنّ هذه العبادة تحتوي كلّ الدّيانة، وهي أكمل قاعدة للحياة، وتقود الرّوح بسرعة إلى معرفة المسيح الحميمة، وتدفعه إلى محبّة شديدة له وإلى الاقتداء به بصورة فعّالة” رسالة بابويّة عامّة، الفادي الجزيل الرّحمة – Miserentissimus Redemptor، 8 أيّار/مايو 1928، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 20 (1928)، 167.

[71] “إنّه عمل عبادة بامتياز، أي إنّه الإرادة الكاملة والمطلقة لتسليم أنفسنا وتكريسها لحبّ الفادي الإلهيّ، والرّمز والعلامة الحيّة لهذه العبادة هو قلبه المطعون […]، فيه نقدر أن نرى ليس فقط الرّمز، ولكن أيضًا، بطريقة ما، خلاصة كلّ سرّ فدائنا […]. أظهر يسوع المسيح قلبه، مرارًا كثيرة وبوضوح، أنّه الرّمز الأنسب لتحفيز النّاس لمعرفة وقبول حبِّه، وقد جعله في الوقت نفسه علامةً وعربونًا لرحمته ونعمته لاحتياجات الكنيسة الرّوحيّة في الأزمنة الحديثة” (رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه – Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، مقدّمة، III، IV: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 311؛ 336؛ 340).

[72] التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامَّة، 8 حزيران/يونيو 1994، 2: L’Osservatore Romano، 9 حزيران/يونيو 1994، 5.

[73] صلاة الملاك، 1 حزيران/يونيو 2008: L’Osservatore Romano، 2-3 حزيران/يونيو 2008، 1.

[74] رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه – Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، IV: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 344.

[75] راجع المرجع نفسه: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 336.

[76] “قيمة أحداث الوحي الخاصّ تختلف جوهريًّا عن الوحي الوحيد العام: هذا الوحي يقتضي إيماننا […]. الوحي الخاصّ […] هو عون مقدّم، لكن استخدامه ليس إلزاميًّا” بندكتس السّادس عشر، الإرشاد الرّسوليّ، كلمة الله، 30 أيلول/سبتمبر 2010، 14: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 102 (2010)، 696.

[77] رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياه – Haurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، IV: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 340.

[78] المرجع نفسه: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 344.

[79] المرجع نفسه.

[80] الإرشاد الرّسوليّ، الثّقة فقط، 15 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، 20: L’Osservatore Romano، 16 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023.

[81] القدّيسة تريزا الطّفل يسوع من ليزيو، المخطوط A، 83vº: الأعمال الكاملة، روما 1997، 209.

[82] القدّيسة ماريّا فوستينا كُوالسكا، اليوميّات. الرّحمة الإلهيّة في نَفسِي (الدّفتر الأوّل، 22 شباط/فبراير 1931)، حاضرة الفاتيكان 2021، 74.

[83] راجع المشنا، سُكَّة IV، 5. 9.

[84] رسالة إلى الأب بيتر هانس كولفنباخ (Peter-Hans Kolvenbach)، الرّئيس العام للرّهبنة اليسوعيّة، فرنسا، 5 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986: L’Osservatore Romano، 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986، IX.

[85] أ عمال شُهداء ليون، في يوسابيوس من القيصريّة، تاريخ الكنيسة، V، 1، 22: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 20، 418.

[86] Rufinus, V, 1, 22 in GCS, Eusebius II, 1, p. 411, 13s.

[87] القدّيس يوستينس، الحوار 135: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 6، 787.

[88] Novaziano، في الثّالوث، 29: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 3، 944. راجع القدّيس غريغوريوس من إلفيرا (Elvira)، مؤلّفات أوريجانس في أسفار الكتاب المقدّس، XX، 12: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة ( CCSL) 69، 144.

[89] القدّيس أمبروزيوس، شروحات في المزامير I، 33: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 14، 983-984.

[90] راجع مؤلّفات في إنجيل يوحنّا، 61، 6: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 35، 1801.

[91] الرّسالة إلى روفينو (Rufinum) 3، 4. 3: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 22، 334.

[92] العظة في نشيد الأناشيد 61، 4: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 183، 1072.

[93] راجع الشّرح الثّاني في سفر نشيد الأناشيد ( Expositio altera super Cantica Canticorum)، الفصل الأوّل: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 180، 487.

[94] Guglielmo di Saint-Thierry، طبيعة الحبّ وكرامته، 1: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 184، 379.

[95] المؤلّف نفسه، صلوات وتأمّلات، 8، 6: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 180، 230.

[96] القدّيس بونافنتورا، شجرة الحياة. في سرّ الآلام، 30: الكتب الرّوحيّة، 3، روما 1992 ( كتابات القدّيس بونافنتورا، XIII)، 245.

[97] المرجع نفسه، 47.

[98] القدّيسة جيرترودا دي هلفتا، بشير العبادة الإلهيّة – Legatus divinae pietatis، IV ، 4، 4: مجموعة المصادر المسيحيّة 255، 66.

[99] LÉON DEHON ، الدّليل الرّوحي لكهنة قلب يسوع الأقدس، ترنهوت 1936، II، الفصل VII، رقم 141.

[100] القدّيسة كاترينا من مدينة سيينا، حوار العنايّة الإلهيّة، LXXV:Fiorilli M. – Caramella S. (ed.) ، باري 1928، 144.

[101] راجع مثلًا أنجيلوس فالز، في عبادة قلب يسوع الإلهيّ في رهبنة الواعظين، معهد الأنجيليكوم البابويّ، روما، 1937.

[102] Rafael García Herreros, Vida de San Juan Eudes, Bogotá 1943, 42.

[103] رسالة إلى القدّيسة جوفانّا فرنشيسكا دي شانتال، 24 نيسان/أبريل 1610: الأعمال الكاملة للقدّيس فرنسيس دي ساليس، المجلّد 8/2: الرّسائل 1605-1610، روما 2021، 686.

[104] عظة في الأحد الثّاني للزّمن الأربعيني، 20 شباط/فبراير 1622.

[105] رسالة إلى القدّيسة جوفانّا فرنشيسكا دي شانتال في الاحتفال بعيد الصّعود في 1612: القدّيس فرنسيس دي ساليس، الأعمال الكاملة، المجلّد II، (1611-1618) روما 1967، 183، الرّسالة 781.

[106] رسالة إلى ماريّا أماتا دي بلوناي (de Blonay)، 18 شباط/فبراير 1618: المرجع نفسه، 1056، الرّسالة 140.

[107] رسالة إلى القدّيسة جوفانّا فرنشيسكا دي شانتال، أواخر تشرين الثّاني/نوفمبر 1609: المرجع نفسه، 610، الرّسالة 552.

[108] رسالة إلى القدّيسة جوفانّا فرنشيسكا دي شانتال، حوالي 25 شباط/فبراير 1610: المرجع نفسه، 654، الرّسالة 573.

[109] الحديث XIV، في البساطة والفطنة الرّهبانية، t.6، 217.

[110] رسالة إلى القدّيسة جوفانّا فرنشيسكا دي شانتال، 10 حزيران/يونيو 1611: القدّيس فرنسيس دي ساليس، الأعمال الكاملة، المجلّد II، (1611-1618) روما 1967، 56، الرّسالة 69.

[111] القدّيسة مرغريتا مريم ألاكوك، السّيرة الذّاتيّة، روما 1983، 131.

[112] المرجع نفسه.

[113] المرجع نفسه، 134.

[114] راجع دائرة عقيدة الإيمان، قواعد للتّمييز في الظواهر خارقة الطّبيعة، 17 أيّار/مايو 2024، I، A، 12.

[115] القدّيسة مارغريتا مريم ألاكوك، السّيرة الذّاتيّة، رقم 92، روما 1983، 180.

[116] المؤلّف نفسه، رسالة إلى الرّاهبة من بارج (de la Barge)، 22 تشرين الأوّل/أكتوبر 1689: حياة وأعمال القدّيسة مارغريتا مريم ألاكوك، المجلّد II، روما 1985، 301.

[117] المؤلّف نفسه، السّيرة الذّاتيّة، 53، الأعمال المذكورة، 132.

[118] المرجع نفسه، 55، الأعمال المذكورة، 134.

[119] القدّيس كْلُود دي لا كولومبيير، خطاب في الثّقة بالله: خطابات مقدّسة في ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، وفي سيِّدتنا مريم العذراء، وفي القدّيسين، وفي الأواخر، الخ…، المجلّد الثّالث، تورينو 1913، 484-485.

[120] المؤلّف نفسه، رياضة روحيّة في لندن، 1-8 شباط/فبراير 1677.

[121] المؤلّف نفسه، رياضة روحيّة في ليون، تشرين الأوّل/أكتوبر- تشرين الثّاني/نوفمبر 1674.

[122] راجع القدّيس شارل دي فوكو، رسالة إلى مدام دي بوندي، 27 نيسان/أبريل 1897: في مجموعة شارل دي فوكو – الأرشيف الأبرشي في فيفيير.

[123] المؤلّف نفسه، رسالة إلى مدام دي بوندي، 28 نيسان/أبريل 1901: شارل دي فوكو، رسالة إلى مدام دي بوندي. من دير الترابيست (Trappa) إلى تامنراست (Tamanrasset)، روما 1968، 73. راجع رسالة إلى مدام دي بوندي، 5 نيسان/أبريل 1909، “بِكِ عرفت السّجود للقربان الأقدس، والزّياحات، وقلب يسوع الأقدس”: المرجع نفسه، 154.

[124] رسالة إلى مدام دي بوندي، 7 نيسان/أبريل 1890: شارل دي فوكو، الأعمال المذكورة، 29.

[125] رسالة إلى الأب هوفلين، 27 حزيران/يونيو 1892: شارل دي فوكو – الأب هوفلين، مراسلات غير منشورة، تورينو – ليومان 1965، 30.

[126] القدّيس شارل دي فوكو، تأمّلات في العهد القديم (1896-1897)، XXX، 1-21: شارل دي فوكو، من يقدر أن يقاوم الله؟ تأمّلات في الكتاب المقدّس (1896-1898)، روما 1983، 77-78.

[127] المؤلّف نفسه، رسالة إلى الأب هوفلين، 16 أيّار/مايو 1900: شارل دي فوكو – الأب هوفلين، مراسلات غير منشورة، تورينو – ليومان 1965، 132-133.

[128] المؤلّف نفسه، اليوميات، 17 أيّار/مايو 1906: المؤلّفات الرّوحيّة، روما 1983، 346.

[129] القدّيسة تريزا الطّفل يسوع من ليزيو، الرّسالة 67 إلى عمّتها مدام جيران ( Mme Guérin)، 18 تشرين الثّاني/نوفمبر 1888: الأعمال الكاملة، حاضرة الفاتيكان 1997، 354.

[130] المؤلّف نفسه، الرّسالة 122 إلى سِلين ( Celine)، 14 تشرين الأوّل/أكتوبر 1890: الأعمال الكاملة، 421.

[131] المؤلّف نفسه، شِعر 23، إلى قلب يسوع الأقدس، حزيران/يونيو وتشرين الأوّل/أكتوبر 1895: الأعمال الكاملة، 667-668.

[132] المؤلّف نفسه، الرّسالة 247، إلى الأب موريس بيليير ( Maurice Bellière)، 21 حزيران/يونيو 1897: الأعمال الكاملة، 587.

[133] المؤلّف نفسه، المحادثات الأخيرة. الدّفتر الأصفر، 11 تموز/يوليو 1897: الأعمال الكاملة، 1014-1015.

[134] المؤلّف نفسه، الرّسالة 197، إلى الرّاهبة الأخت ماريا لقلب يسوع الأقدس، 17 أيلول/سبتمبر 1896: الأعمال الكاملة، 537-538. هذا لا يعني أنّ تريزا لم تقدّم التّضحيات والآلام ومختلف الشّدائد، لتشارك يسوع في آلامه، لكنّها عندما أرادت أن تسير في العمق، لم تُرِدْ أن تعطي لهذه الآلام والتّضحيات قيمة ليست لها.

[135] المؤلّف نفسه، الرّسالة 142، إلى سِلين ( Celina)، 6 تموز/يوليو 1893: الأعمال الكاملة، 451.

[136] المؤلّف نفسه، الرّسالة 191، إلى ليوني ( Leonie)، 12 تموز/يوليو 1896: الأعمال الكاملة، 528.

[137] المؤلّف نفسه، الرّسالة 226، إلى الأب رولان ( P. Roulland)، 9 أيّار/مايو 1897: الأعمال الكاملة، 573.

[138] المؤلّف نفسه، الرّسالة 258، إلى الأب موريس بيليير ( Maurice Bellière)، 18 تموز/يوليو 1897: الأعمال الكاملة، 598.

[139] راجع القدّيس أغناطيوس دي لويولا، الرّياضة الرّوحيّة، 104، روما 1984، 110.

[140] المرجع نفسه، 297: الأعمال المذكورة، 211.

[141] راجع رسالة إلى القدّيس أغناطيوس، 23 كانون الثّاني/يناير 1541.

[142] سيرة القدّيس أغناطيوس ومبادئ الرّهبنة اليسوعيّة،c. 8 ، 96، Bilbao-Santander 2021، 147.

[143] القدّيس أغناطيوس دي لويولا، الرّياضة الرّوحيّة، 54، روما 1984، 80.

[144] راجع المرجع نفسه، 230 وما يليه.

[145] المجمع العامّ الثّالث والعشرون للرّهبنة اليسوعيّة، مرسوم 46، 1: معهد الرّهبنة اليسوعيّة، 2، فلورنسا 1893، 511.

[146] فيه رجائي، ميلانو 1983، 180.

[147] رسالة إلى الرّئيس العام للرّهبنة اليسوعيّة، Paray-le-Monial، 5 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986.

[148] محاضرات لآباء الرّسالة، 132، 13 آب/أغسطس 1655، ”الفقر“: القدّيس منصور دي بول، الأعمال، المجلّد 10، روما 2008، 208.

[149] محاضرات لراهبات بنات المحبّة، 89، 9 كانون الأوّل/ديسمبر 1657، ”التقشف، والمراسلة، والطعام والسّفر“ ( قوانين عامّة، الأعداد 24-27): الأعمال المذكورة، المجلّد 9، 807.

[150] القدّيس دانيال كومبوني، الكتابات، 3324: دانيال كومبوني، الكتابات، بولونيا 1991، 998.

[151] راجع عظة في القدّاس الإلهي لإعلان قداسة الطّوباوي جوزيف سيباستيان بيلكزار، 18 أيّار/مايو 2003: L’Osservatore Romano، 19-20 أيّار/مايو 2003، 6.

[152] رسالة بابويّة عامّة، غني بالرّحمة – Dives in misericordia، 30 تشرين الثّاني/نوفمبر 1980، 13: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 72 (1980)، 1219.

[153] التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامَّة، 20 حزيران/يونيو 1979: L’Osservatore Romano، 22 حزيران/يونيو 1979، 1.

[154] المرسلون الكومبونيّون لقلب يسوع، قانون الحياة و القوانين والدّليل العام، روما 1988، 3.

[155] راهبات قلب يسوع الأقدس، قوانين سنة 1982، 7.

[156] رسالة بابويّة عامّة، الفادي الرّحيمMiserentissimus Redemptor، 8 أيّار/مايو 1928: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 20 (1928)، 174.

[157] عندما تُمارس فضيلة الإيمان، وتُوجَّه إلى المسيح، فإنّ النّفس لا تصل فقط إلى الأفكار التي يجب أن نتذكّرها، بل إلى حقيقة حياته الإلهيّة (راجع القدّيس توما الأكوينيّ، الخلاصة اللاهوتيّة، II-II, q. 1, a. 2, ad. 2; q. 4, a. 1).

[158] بيوس الحادي عشر، رسالة بابويّة عامّة، الفادي الرّحيمMiserentissimus Redemptor، 8 أيّار/مايو 1928: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 20 (1928)، 174.

[159] عظة في قدّاس الميرون المقدّس، 28 آذار/مارس 2024: L’Osservatore Romano، 28 آذار/مارس 2024، 2.

[160] القدّيس أغناطيوس دي لويولا، الرّياضة الرّوحيّة، 203، روما 1984، 160.

[161] عظة في قدّاس الميرون المقدّس، 28 آذار/مارس 2024: L’Osservatore Romano، 28 آذار/مارس 2024، 2.

[162] القدّيسة مارغريتا مريم ألاكوك، السّيرة الذّاتية، بند 55: روما 1983، 134.

[163] المؤلّف نفسه، الرّسالة 133، 10: كتابات السّيرة الذّاتيّة، روما 1984، 182-183.

[164] المؤلّف نفسه، السّيرة الذّاتية، بند 92، الأعمال المذكورة، 180.

[165] رسالة بابويّة عامّة، السّنة المقدّسة – Annum sacrum، 25 أيّار/مايو 1899، 8.

[166] يوليانوس، الرّسالة XLIX إلى أرساشيوس أسقف غلاطيّة، Mainz 1828، 90-91.

[167] المرجع نفسه.

[168] دائرة عقيدة الإيمان، إعلان الكرامة التي لا حدود لها، 2 نيسان/أبريل 2024، 19: L’Osservatore Romano، 8 نيسان/أبريل 2024.

[169] راجع بندكتس السّادس عشر، رسالة إلى الرّئيس العام للرّهبنة اليسوعيّة في الذّكرى الخمسين للرّسالة البابويّة العّامة تستقون المياه (Haurietis Aquas)، 15 أيّار/مايو 2006: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 98 (2006)، 461.

[170] في سفر العدد، العظة 12، 1: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 12، 657.

[171] الرّسالة 29، 24: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 16، 1060.

[172] الرّد على آريوس 1 – Adv. Arium 1، 8: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 8، 1044.

[173] المجلّد في شرح إنجيل يوحنّا 32، 4: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 35، 1643.

[174] في إنجيل القدّيس يوحنّا، الفصل VII، القراءة 5.

[175] بيوس الثّاني عشر، رسالة بابويّة عامّة، تستقون المياهHaurietis Aquas، 15 أيّار/مايو 1956، II: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 48 (1956)، 321.

[176] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة بابويّة عامّة، أمّ الفــَادي – Redemptoris Mater، 25 آذار/مارس 1987، 38: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 79 (1987)، 411.

[177] المجمع الفاتيكاني الثّاني المسكونيّ، دستور عقائدي، نور الأمم – Lumen gentium، 62.

[178] المرجع نفسه، 60.

[179] عظة في سفر نشيد الأناشيد، XX، 4: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 183، 869.

[180] مدخل إلى حياة العبادة، الجزء III، الفصل XXXV: الأعمال الكاملة للقدّيس فرنسيس دي ساليس، المجلّد 3: فيلوثيا. مدخل إلى حياة العبادة، روما 2009، 220-221.

[181] عظة الأحد السّابع عشر بعد العنصرة.

[182] يسوع وآلامه، رياضة روحيّة في النّاصرة، 5-15 تشرين الثّاني/نوفمبر 1987: شارل دي فوكو، الحياة المخفيّة. رياضات روحيّة في الأرض المقدّسة (1897-1900)، روما 1974، 72.

[183] من 19 آذار/مارس 1902، كانت رسائله كلّها مُعَنوَنة بالكلمتَين: يسوع محبّة، ويفصل بينهما قلب يعلوه صليب.

[184] رسالة إلى الأب هوفلين ( Huvelin)، 15 تموز/يوليو 1904: المؤلّفات الرّوحيّة، روما 1983، 633.

[185] رسالة إلى الأب مارتين، 25 كانون الثّاني/يناير 1903: شارل دي فوكو، هذا المكان الأخير العزيز. رسائل إلى إخوتي الترابيست، باريس، 2012، 311.

[186] ورد في رينيه فوالوم ( René Voillaumeأديرة الأخُوّة للأب دي فوكو، باريس 1946، 173.

[187] تأمّلات من الأناجيل المقدّسة في المقاطع التي لها صلة بالفضائل الخمس عشرة، النّاصرة 1897-1898، المحبّة 77 (متّى 20، 28): شارل دي فوكو، تأمّلات من الأناجيل المقدّسة في المقاطع التي لها صلة بالله وحده، والإيمان والرّجاء والمحبّة (1897-1898)، روما، 1973، 325.

[188] المرجع نفسه، المحبّة 90 (متّى 27، 30): الأعمال المذكورة، 338.

[189] الأب هوفلين، بعض مرشدي النّفوس في القرن السّابع عشر، باريس 1911، 97.

[190] راجع محاضرة إلى راهبات بنات المحبّة، 85، 11 تشرين الثّاني/نوفمبر 1657، ”خدمة المرضى والاهتمام بصحّتهم“، قوانين عامّة، الأعداد 12-16: القدّيس منصور دي بول، الأعمال، المجلّد 9، روما 2008، 757.

[191] قوانين وأنظمة لرهبنة الرّسالة، روما 1984، 110.

[192] رسالة إلى الرّئيس العام للرّهبنة اليسوعيّة، Paray le Monial، 5 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986: L’Osservatore Romano، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 1986، 7.

[193] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الإرشاد الرّسوليّ بعد السّينودس، المصالحة والتوبة – Reconciliatio et Paenitentia، 2 كانون الأوّل/ديسمبر 1984، 16: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 77 (1985)، 215.

[194] راجع المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، الاهتمام بالشّأن الاجتماعي – Sollicitudo rei socialis، 30 كانون الأوّل/ديسمبر 1987، 36: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 80 (1988)، 561-562.

[195] المؤلّف نفسه، الرسالة البابويّة العامّة، السَّنة المِئَة – Centesimus annus، 1 أيّار/مايو 1991، 41: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 83 (1991)، 844-845.

[196] التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 1888.

[197] راجع التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامَّة، 8 حزيران/يونيو 1994، 2: L’Osservatore Romano، 9 حزيران/يونيو 1994، 5.

[198] كلمة للمشاركين في النّدوة الدّوليّة ”إصلاح ما لا يمكن إصلاحه“، في الذّكرى 350 لظهور يسوع في Paray-le-Monial، 4 أيّار/مايو 2024: L’Osservatore Romano، 4 أيّار/مايو 2024، 12.

[199] المرجع نفسه.

[200] عظة في قداس الصّباح في بيت القدّيسة مارتا، 6 آذار/ مارس 2018: L’Osservatore Romano، 5-6 آذار/مارس 2018، 8.

[201] كلمة للمشاركين في النّدوة الدّوليّة ”إصلاح ما لا يمكن إصلاحه“، في الذّكرى 350 لظهور يسوع في Paray-le-Monial، 4 أيّار/مايو 2024: L’Osservatore Romano، 4 أيّار/مايو 2024، 12.

[202] عظة في قدّاس الميرون المقدّس، 28 آذار/مارس 2024: L’Osservatore Romano، 28 آذار/مارس 2024، 2.

[203] المرجع نفسه.

[204] المرجع نفسه.

[205] رسالة بابويّة عامّة، كُنْ مُسَبَّحًا، 24 أيّار/مايو 2015، 80: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 107 (2015)، 879.

[206] التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1085.

[207] المرجع نفسه، رقم 268.

[208] السّيرة الذّاتيّة، روما 1983، 131.

[209] القدّيسة تريزا الطّفل يسوع من ليزيو، المخطوطة A، 84r°: الأعمال الكاملة، روما 1997، 209-210.

[210] المرجع نفسه، الأعمال المذكورة، 210.

[211] المرجع نفسه.

[212] المؤلّف نفسه، المخطوطة A، 83v°: الأعمال المذكورة، 209؛ راجع رسالة 226 إلى الأب أدولف رولان ( P. Adolfo Roulland)، 9 أيّار/مايو 1897: الأعمال المذكورة، 572.

[213] المؤلّف نفسه، تقدمة نفسي ذبيحة محرقة لحبّ الله الرّحيم، 2r°-2v°: الأعمال المذكورة، 943.

[214] المؤلّف نفسه، المخطوطة B، 3v°: الأعمال المذكورة، 223.

[215] المؤلّف نفسه، الرّسالة 186، إلى ليوني ( Leonie)، 11 نيسان/أبريل 1896: الأعمال المذكورة، 521.

[216] المؤلّف نفسه، الرّسالة 258، إلى الأب موريس بيليير، 18 تموز/يوليو 1897، 2r°: الأعمال المذكورة، 598.

[217] راجع بيوس الحادي عشر، رسالة بابويّة عامّة، الفادي الرّحيم – Miserentissimus Redemptor، 8 أيّار/مايو 1928: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 20 (1928)، 169.

[218] المرجع نفسه.

[219] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامَّة، 20 حزيران/يونيو 1979: L’Osservatore Romano، 22 حزيران/يونيو 1979، 1.

[220] عظة في قداس الصّباح في بيت القدّيسة مارتا، 27 حزيران/يونيو 2014: L’Osservatore Romano، 28 حزيران/يونيو 2014، 8.

[221] رسالة في الذّكرى المئويّة لتكريس الجنس البشري لقلب يسوع الأقدس، وارسو، 11 حزيران/يونيو 1999، في الاحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس: L’Osservatore Romano، 12 حزيران/يونيو 1999، 5.

[222] المرجع نفسه.

[223] رسالة إلى رئيس أساقفة ليون في مناسبة رحلة الحج إلى Paray-le-Monial (فرنسا)، في الذّكرى المئويّة لتكريس الجنس البشري لقلب يسوع الأقدس، 4 حزيران/يونيو 1999: L’Osservatore Romano، 12 حزيران/يونيو 1999، 4.

[224] محاضرات إلى كهنة الرّسالة، 135، 22 آب/أغسطس 1655، تكرار الصّلاة: القدّيس منصور دي بول، الأعمال، المجلّد 10، روما 2008، 237-238.

[225] الرّسالة Diserti interpretes، 25 أيّار/مايو 1965، 4: كُتَيِّب الحياة المكرّسة، بولونيا – ميلانو 2001، رقم 3809.

[226] الحياة الجديدة XIX، 5-6.

[227] المخطوطة A، 45v°: الأعمال الكاملة، روما 1997، 146.

************

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post القلب الذي يُغيّر والحبّ الذي يُعطي appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
البابا ينشر رسالته العامّة الحبريّة الرّابعة https://ar.zenit.org/2024/10/23/%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7-%d9%8a%d9%86%d8%b4%d8%b1-%d8%b1%d8%b3%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%85%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%a7/ Wed, 23 Oct 2024 08:18:37 +0000 https://ar.zenit.org/?p=74595 لقد أحبّنا

The post البابا ينشر رسالته العامّة الحبريّة الرّابعة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
أعلن الفاتيكان أنّ يوم الخميس 24 تشرين الأوّل 2024 سيشهد نشر رسالة حبريّة عامّة رابعة جديدة تحت عنوان “لقد أحبّنا” Dilexit nos، بعد رسائل سنة 2013 Lumen Fidei وسنة 2015 Laudato si وسنة 2020 Laudato si ، كما أورد الخبر القسم الفرنسي من زينيت.

في تفاصيل أخرى، سيكون مضمون الرّسالة موضوع “الحبّ البشري والإلهي لقلب يسوع”، مع الإشارة إلى أنّ البابا كان قد أعلن عن هذه الوثيقة في 5 حزيران الماضي خلال المقابلة العامّة مع المؤمنين، والتي تمّ إعدادها بالتزامن مع يوبيل مرور 350 سنة على ظهورات قلب يسوع الأقدس على القدّيسة مرغريت ماري ألاكوك (1647 – 1690) في Paray-le-Monial فرنسا، مع التّذكير بأنّ هذه الظهورات كانت أساسيّة في تعزيز عبادة قلب يسوع في العالم.

في سياق متّصل، تضمّ الرسالة العامّة الحبريّة تأمّلات حول نصوص مُقتصّة مِن الكتابات المقدّسة ومِن مراجع تاريخيّة، فيما تهدف إلى إعادة منح عالمنا المعاصر “الجمال الروحيّ” وأهمية عبادة قلب يسوع.

أمّا رسالة المحبّة والرّحمة فهي ضروريّة للكنيسة ولعالمنا، وقد قال البابا في هذا الشأن: “أعتقد أنّ التأمّل بالأوجه المختلفة لمحبّة الربّ لنا سينفعنا، بما أنّ هذه الأوجه تُنير طريق التجدّد الكنسي، وتحمل معنى لعالم يبدو أنّه أضاع قلبه”.

« Un monde qui semble avoir perdu le cœur » pape François © jesuites.com

« Un monde qui semble avoir perdu le cœur » pape François © jesuites.com

The post البابا ينشر رسالته العامّة الحبريّة الرّابعة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
البابا: لن أتعب من التِّكرار والقول إنَّ الحرب هزيمة https://ar.zenit.org/2024/10/07/%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7-%d9%84%d9%86-%d8%a3%d8%aa%d8%b9%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%90%d9%91%d9%83%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d9%84-%d8%a5%d9%86%d9%8e/ Mon, 07 Oct 2024 11:18:37 +0000 https://ar.zenit.org/?p=74363 رسالة قداسة البابا فرنسيس إلى المؤمنين الكاثوليك في الشَّرق الأوسط

The post البابا: لن أتعب من التِّكرار والقول إنَّ الحرب هزيمة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
الإخوة والأخوات الأعزَّاء،

أُفكِّر فيكم وأُصلِّي من أجلكم. أودُّ أن أكون معكم في هذا اليوم الحزين. قبل سنة اشتعلت شرارة الكراهية، ولم تنطفئ بل تفجَّرت في دوامة من العنف، وسط العجز المخزي في الأسرة الدّوليَّة والدّول الكبرى عن إسكات الأسلحة ووضع حدٍّ لمأساة الحرب. الدِّماء تسيل، والدُّموع أيضًا. الغضب يتزايد، ومعه الرَّغبة في الانتقام، ويبدو أنَّ لا أحد يهتمُّ بما يُفيدُ ويريده النَّاس: الحوار، والسَّلام. لن أتعب من التِّكرار والقول إنَّ الحرب هزيمة، وإنَّ الأسلحة لا تبني المستقبل بل تدمِّره، وإنَّ العنف لن يجلب أبدًا السَّلام. والتَّاريخ يُثبِت ذلك، ومع ذلك، يبدو أنَّ السَّنوات العديدة من الصِّراعات لم تُعلِّمْنا شيئًا.

وأنتم، أيُّها الإخوة والأخوات في المسيح الَّذين تسكنون في الأماكن الَّتي تتكلَّم عليها الكتب المقدَّسة، أنتم قطيع صغير أعزَل، متعطِّش للسَّلام. شكرًا لكم على ما أنتم، شكرًا لأنَّكم تريدون البقاء في أراضيكم، شكرًا لأنَّكم تعرفون أن تصلُّوا وتحبُّوا رغم كلِّ شيء. أنتم بِذار أحبَّها الله. ومثل حبَّة الزَّرع الَّتي يبدو أنَّ الأرض تغطِّيها وتخنقها، ثمَّ تجد دائمًا طريقها إلى الأعلى، إلى النُّور، لتؤتي ثمرها وتعطي الحياة، كذلك أنتم لا تسمحون للظَّلام الَّذي يحيط بكم بأن يبتلعكم، بل، وأنتم مغروسون في أراضيكم المقدَّسة، تصيرون براعم أمل، لأنَّ نور الإيمان يقودكم إلى الشَّهادة للحبّ بينما يتكلَّمون حولكم على الكراهية، وإلى اللقاء بينما يسود الصِّراع، وإلى الوَحدة بينما يتحوَّل كلّ شيء إلى الخصام.

أتوجَّه إليكم بقلب أبَويّ، أنتم شعب الله المقدَّس. إليكم، أنتم أبناء كنائسكم العريقة، وهي اليوم كنائس ”شهداء“. إليكم، أنتم بِذار السَّلام في شتاء الحرب. إليكم، أنتم الَّذين تؤمنون بيسوع ”الوَديع مُتواضِع القَلب“ (راجع متّى 11، 29) وفيه تصيرون شهودًا لقوَّة السَّلام من غير سلاح.

النَّاس اليوم لا يعرفون أن يجدوا السَّلام، ونحن المسيحيّين يجب ألَّا نتعب من أن نطلُبَه من الله. لذلك، دَعَوتُ الجميع اليوم إلى أن يعيشوا يوم صلاةٍ وصوم. الصَّلاة والصَّوم هما أسلحة الحبّ الَّتي تغيِّر التَّاريخ، الأسلحة الَّتي تَهزِم عدوَّنا الحقيقي الوحيد، روح الشَّرّ الَّذي يغذِّي الحرب، لأنَّه “مُنذُ البَدءِ قَتَّالٌ لِلنَّاس”، و”كَذَّابٌ وأَبو الكَذِب” (يوحنّا 8، 44). من فضلكم، لِنُكَرِّسْ وقتًا للصَّلاة ولْنَكتَشِفْ من جديد قُدرَة الصَّوم الخلاصيَّة!

في قلبي شيء أودُّ أن أقوله لكم، أيُّها الإخوة والأخوات، وأيضًا لجميع الرِّجال والنِّساء من جميع الطَّوائف والأديان الَّذين يتألَّمون في الشَّرق الأوسط من جنون الحرب: أنا قريبٌ منكم، أنا معكم.

أنا معكم، أنتم سكَّانَ غزَّة، المعذَّبين والمُرهَقين، أنتم كلّ يوم في فكري وصلاتي.

أنا معكم، أنتم المُجبَرين على ترك بيوتكم، وترك المدرسة والعمل، مشرَّدِين تبحثون عن أيّ اتجاهٍ للهرب من القنابل.

أنا معكم، أنتنَّ الأمَّهات اللواتي تذرفن الدُّموع وتنظرن إلى أبنائكنَّ الَّذين ماتوا أو جُرِحوا، كما كانت مريم تنظر إلى يسوع ابنها. ومعكم، أنتم الصِّغار الَّذين تسكنون أراضي الشَّرق النَّبيلة، حيث مكائد الأقوياء تسلِبكم حقَّكم في اللَّعب.

أنا معكم، أنتم الَّذين تخافون أن ترفعوا نظركم إلى العُلى، لأنَّ السَّماء تمطر نارًا.

أنا معكم، أنتم الَّذين لا صوت لكم، لأنَّهم يتكلَّمون كثيرًا على خطط واستراتيجيّات، وينسُون وضع الَّذين يعانون من الحرب، وهي حرب يَجبُرُ الأقوياءُ غيرهم على خوضها. لكن هؤلاء ينتظرهم حُكمُ الله الَّذي لا مَرَدَّ له (راجع الحكمة 6، 8).

أنا معكم، أنتم العطاش إلى السَّلام والعدل، الَّذين لا تستسلمون لمنطق الشَّرّ، وباسم يسوع “أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم” (متّى 5، 44).

شكرًا لكم، أنتم أبناء السَّلام، لأنَّكم تعزُّون قلب الله الَّذي يجرحه شرّ الإنسان. وشكرًا لجميع الَّذين يساعدونكم، في كلّ العالم، إنَّهم يرُون فيكم ويعالجون المسيح الجائع، والمريض، والغريب، والمتروك، والفقير والمحتاج، وأسألكم أن تستمرُّوا في عمل ذلك بسخاء. وشكرًا لكم، أنتم الإخوة الأساقفة والكهنة، الَّذين تحملون تعزية الله في العزلة البشريَّة. أسألكم أن تنظروا إلى الشَّعب المقدَّس الَّذي دُعيتم إلى أن تخدموه. اتركوا الله يَمَسُّ قلوبكم، وتخلُّوا عن كلِّ انقسام وطمع من أجل محبَّة مؤمنيكم.

أيُّها الإخوة والأخوات في يسوع، أبارككم وأعانقكم بمودَّة، من كلِّ قلبي. لِتَحرُسْكُم سيِّدتنا مريم العذراء، سيِّدة السَّلام. ولْيَحْمِكم القدِّيس يوسف، شفيع الكنيسة.

مع تحيَّتي الأخويَّة،

فرنسيس

روما، بازيليكا القدِّيس يوحنَّا في اللاتران، 7 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2024.

 

  ***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post البابا: لن أتعب من التِّكرار والقول إنَّ الحرب هزيمة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
الرّجاء يتغلّب على كلّ تعب، وكلّ أزمة، وكلّ قلق https://ar.zenit.org/2024/09/19/%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%91%d8%ac%d8%a7%d8%a1-%d9%8a%d8%aa%d8%ba%d9%84%d9%91%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%83%d9%84%d9%91-%d8%aa%d8%b9%d8%a8%d8%8c-%d9%88%d9%83%d9%84%d9%91-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9%d8%8c/ Thu, 19 Sep 2024 05:19:29 +0000 https://ar.zenit.org/?p=74083 النصّ الكامل لرسالة قداسة البابا فرنسيس
في اليوم العالمي التّاسع والثّلاثين للشّبيبة
24 تشرين الثّاني/ نوفمبر 2024

The post الرّجاء يتغلّب على كلّ تعب، وكلّ أزمة، وكلّ قلق appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>

الرَّاجونَ لِلرَّبّ، […]، يَسيرونَ ولا يَتعَبون (أشعيا 40، 31)

أيّها الشّباب الأعزّاء،

بدأنا في السّنة الماضيّة السّير على طريق الرّجاء نحو اليوبيل الكبير، وتأمّلنا في جملة القدّيس بولس “كُونوا في الرَّجاءِ فَرِحين” (رومة 12، 12). واستعدادًا لحجّ اليوبيل في سنة 2025، نسمح لأنفسنا هذه السّنة بأن نستلهم النّبي أشعيا الذي يقول: “الرَّاجونَ لِلرَّبّ، […]، يَسيرونَ ولا يَتعَبون” (أشعيا 40، 31). هذه الجملة مأخوذة من ما يسمّى بسفر التّعزية (أشعيا 40-55)، الذي يُعلَن فيه نهاية سبي إسرائيل إلى بابل، وبداية مرحلة جديدة من الرّجاء، والولادة الجديدة لشعب الله الذي يستطيع العودة إلى وطنه بفضل ”طريق“ جديد يفتحه الله لأبنائه عبر التّاريخ (راجع أشعيا 40، 3).

نحن أيضًا نعيش اليوم في زمن يتَّسِمُ بأوضاع مأساويّة، تبعث على اليأس وتمنعنا من النّظر إلى المستقبل بنفس هادئة مطمئنّة: مأساة الحرب، والظّلم الاجتماعيّ، وعدم المساواة، والجوع، واستغلال البشر والخليقة. في كثير من الأحيان، أنتم الشّباب الذين تدفعون الثّمن الكبير، والذين تشعرون بعدم اليقين بشأن المستقبل ولا ترون منافِذ أكيدة لأحلامكم، وبالتالي توشكون أن تعيشوا بلا أمل، أسرى الملل والكآبة، فتنجرفون أحيانًا إلى وهْم الاعتداء وأنواع الدّمار. (راجع مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي، الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، 12). لهذا، أيّها الأحبّاء، أودّ، كما حدث لإسرائيل في بابل، أن يصل إليكم إعلان الرّجاء أيضًا: اليوم أيضًا يفتح الله أمامكم طريقًا ويدعوكم إلى اتّباعه بفرح ورجاء.

1. رحلة الحياة وتحدياتها

تنبّأ أشعيا قال: “يَسيرونَ ولا يَتعَبون”. لنتأمّل إذًا في هذين الجانبَين: السَّير والتعب.

حياتنا هي رحلة حجّ، رحلة تدفعنا إلى ما هو أبعد من أنفسنا، ورحلة بحث عن السّعادة. الحياة المسيحيّة، بشكل خاص، هي حجّ نحو الله، خلاصنا وكمال كلّ خير. الأهداف والانتصارات والنّجاحات على طول الطّريق، إن ظلّت ماديّة فقط، بعد أوّل لحظة من الشّبع، تتركنا جائعين، ومشتاقين إلى معنى أعمق. في الواقع، إنّها لا تُشبِع نفوسنا شِبَعًا كاملًا، لأنّ الذي خَلَقنا هو اللامتناهي، وبالتّالي، تسكن فينا الرّغبة في التّسامي فوق ما هو أرضي، والقلق المستمرّ نحو تحقيق أسمى التّطلعات، نحو ”المزيد“. لهذا، كما قلت لكم مرات عديدة، ”النّظر إلى الحياة من الشّرفة“، لا يمكن أن يكون كافيًا لكم، أيّها الشّباب.

ومع ذلك، فمن الطّبيعي أنّه على الرّغم من أنّنا نبدأ مسيرتنا بحماس، إلّا أنّنا عاجلًا أم آجلًا نبدأ بالشّعور بالتّعب. وفي بعض الحالات، ما يسبّب القلق والتّعب الدّاخليّ هو الضّغوط الاجتماعيّة، التي تدفع الإنسان للوصول إلى معايير معيّنة من النّجاح في الدّراسة والعمل والحياة الشّخصيّة. وينتج عن ذلك حزن، ونعيش في قلق من النّشاط الفارغ الذي يقودنا إلى ملء أيامنا بآلاف الأشياء، وعلى الرّغم من ذلك، يتكوَّن لدينا انطباع بعدم القدرة على فعل ما يكفي وعدم الوصول إلى المستوى أبدًا. ويضاف مرارًا الملل إلى هذا التّعب. إنّها حالة اللامبالاة وعدم الرّضى في الذين لا ينطلقون ولا يسيرون، ولا يقرّرون، ولا يختارون، ولا يخاطرون أبدًا، ويفضلّون البقاء في منطقة راحتهم، منغلقين على أنفسهم، ويرون العالم ويحكمون عليه من خلف الأقنعة، دون أن ”تتسخ أيديهم“ بالمشاكل، مع الآخرين، ومع الحياة. هذا النّوع من التّعب يشبه الإسمنت الذي تُوحِلُ فيه أقدامنا، ثم يجِفّ ويثقل علينا ويقيِّدنا ويمنعنا من متابعة السّير. أُفضِّل تعب الذين يسيرون، على ملل الذين يظلّون خامدين ولا رغبة لهم في السّير!

والمفارقة أنّ الحلّ للتعب هو عدم البقاء واقفين لنستريح. بل هو أن ننطلق في مسيرة ونصير حجّاج رجاء. هذه هي دعوتي لكم: سيروا في الرّجاء! الرّجاء يتغلّب على كلّ تعب، وكلّ أزمة، وكلّ قلق، ويعطينا دافعًا قوّيًا لمتابعة السّير، وهو عطيّة نقبلها من الله نفسه: فهو يعطي معنى لوقتنا، وينير لنا مسيرتنا، ويبيِّن لنا الاتجاه وهدف الحياة. استخدم الرّسول بولس صورة المتسابقين في المدرّج الذين يركضون لينالوا جائزة النّصر (1 قورنتس 9، 24). مَن منكم شارك في مسابقة رياضيّة – ليس كمتفرّج ولكن كمشارك فعليّ – يعرف جيِّدًا القوة الدّاخلية اللازمة للوصول إلى الهدف. الرّجاء هو بالتّحديد قوّة جديدة يغرسها الله فينا، وتسمح لنا بأن نثابر في السّباق، وتعطينا ”نظرًا بعيدًا“ يتجاوز صعوبات الحاضر ويوجِّهنا نحو هدف أكيد: الشّركة والوَحدة مع الله، وكمال الحياة الأبديّة. إن كان هناك هدف جميل، وإن كانت الحياة لا تسير نحو اللاشيء، وإن لم يضِع شيء مما أحلم به وأخطّط له وأحقّقه، إذّاك يستحق الأمر أن نسير، ونعرَق، ونتحمّل العقبات، ونواجه التّعب، لأنّ المكافأة النّهائية مدهشة!

2. الحجّاج في الصّحراء

في رحلة الحياة ستكون هناك حتمًا تحديات يجب مواجهتها. في العصور القديمة، في رحلات الحجّ الطّويلة، كان لا بد من مواجهة تغيّر الفصول وتنوّع المناخ. كانوا يجتازون المروج الجميلة والغابات الباردة، ولكن أيضًا الجبال المغطاة بالثّلوج والصّحاري الحارة. كذلك للمؤمنين أيضًا، فإنّ حجّ الحياة والمسيرة نحو هدف بعيد لا يزالان متعِبَين، كما كانت الرّحلة في الصّحراء نحو أرض الميعاد لشعب إسرائيل.

وهذا هو بالنّسبة لكم جميعًا. وأيضًا بالنّسبة للذين قبِلوا عطيّة الإيمان، كانت هناك لحظات سعيدة فيها كان الله حاضرًا وشعرتم بقربه، ولحظات أخرى اختبرتم فيها الصّحراء. قَد يحدث أنّ الحماسة الأولى في الدّراسة أو العمل، أو الاندفاع لاتّباع المسيح – سواء في الزّواج أو الكهنوت أو الحياة المكرّسة – تتبعها لحظات أزمة تجعل الحياة تبدو وكأنّها مسيرة صعبة في الصّحراء. مع ذلك، أوقات الأزمات هذه ليست أوقاتًا ضائعة أو عديمة الفائدة، بل يمكنها أن تكون فرصًا مهمّة للنّمو. إنّها لحظات تنقية الرّجاء! في الواقع، في الأزمات، تختفي ”آمالٌ“ زائفة كثيرة، التي هي أصغر من قلبنا. إنّها تنكشف في الصعاب، ونبقى عراة مع أنفسنا ومع الأسئلة الأساسيّة للحياة، وبعيدًا عن أيّ وهْم. وفي هذه اللحظة يستطيع كلّ واحد منّا أن يسأل نفسه: على أيّ آمال أبني حياتي؟ هل هي حقيقيّة أم أوهام؟

في هذه اللحظات، الرّبّ يسوع لا يتركنا، بل يقترب منّا بأُبوّته ويعطينا دائمًا الخبز الذي ينشّط قوّتنا ويعيدنا إلى مسيرتنا. لنتذكّر أنّه أعطى المَنَّ للشعب في البرّيّة (راجع خروج 16) وإيليّا النّبيّ، الذي كان متعبًا ومحبطًا، قدّم له مرّتين رغيف خبزٍ وماء حتّى يتمكّن من أن يمشي “أَربَعينَ يَومًا وأَربَعينَ لَيلَةً إِلى جَبَلِ اللهِ حوريب” (راجع الملوك الأوّل 19، 3-8). في قصص الكتاب المقدّس هذه، رأى إيمان الكنيسة تنبّؤات مسبقة لعطيّة الإفخارستيّا الثّمينة، والمنّ الحقيقيّ والزّاد الحقيقيّ، الذي يمنحنا إياه الله ليقوِّيَنا في مسيرتنا. كما قال الطّوباويّ كارلو أكوتيس، الإفخارستيّا هي الطّريق إلى السّماء. هذا الشّاب الذي جعل من القربان الأقدّس موعده اليوميّ الأهمّ! وهكذا، باتّحادنا الوثيق مع الرّبّ يسوع، نسير دون كلل، لأنّه هو يسير معنا (راجع متّى 28، 20). أدعوكم إلى أن تكتشفوا من جديد عطيّة الإفخارستيّا الكبيرة!

في لحظات التّعب الحتميّة في أثناء حجّنا في هذا العالم، لنتعلّم أن نستريح مثل يسوع وفي يسوع. هو الذي أوصى التّلاميذ أن يستريحوا بعد أن رجعوا من الرّسالة (راجع مرقس 6، 31)، يدرك حاجتكم إلى راحة الجسم، ووقت التّرفيه عن النّفس، لكي تستمتعوا بصحبة الأصدقاء، وتمارسوا الرّياضة ولكي تناموا أيضًا. لكن، هناك راحة أعمق، وهي راحة النّفس، التي يبحث عنها كثيرون وقليلون يجدونها، والتي توجد فقط في المسيح. اعلموا أنّ التّعب الدّاخلي كلّه يمكن أن يجد الرّاحة في الرّبّ يسوع الذي يقول لكم: “تَعالَوا إِلَيَّ جَميعًا أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم” (متّى 11، 28). عندما يَثقُل عليكم تعب المسير، ارجعوا إلى يسوع، وتعلَّموا أن تجدوا الرّاحة فِيهِ وأن تبقوا فِيهِ، لأن “الرَّاجينَ لِلرَّبّ […] يَسيرونَ ولا يَتعَبون” (أشعيا 40، 31).

3. لا سُيَّاح بل حُجَّاج

أيّها الشّباب الأعزّاء، الدّعوة التي أوجّهها إليكم هي أن تنطلقوا في مسيرة، وتكتشفوا الحياة، على خطى المحبّة، وتبحثوا عن وجه الله. وما أوصيكم به هو هذا: لا تنطلقوا في رحلتكم مجرّد سائحين فقط، بل حجّاجًا. أي لا تكُنْ مسيرتكم ببساطة مرورًا في أماكن الحياة بطريقة سطحيّة، ودون أن تدركوا جمال ما تصادفون، ودون أن تكتشفوا معنى الطّرق التي قطعتموها، فتلتقطون لحظات قصيرة، وخبرات عابرة تثبّتونها في صورة شخصيّة (سِلْفِي). السّائح يفعل ذلك. أمّا الحاجّ، فينغمس بكلّ نفسه في الأماكن التي يمرّها، ويجعلها تتكلّم، وتصير جزءًا من بحثه عن السّعادة. حجّ اليوبيل إذًا، يهدف لأن يصير علامة الرّحلة الدّاخليّة التي نحن كلّنا مدعوّون إلى أن نقوم بها، لكي نصل إلى الهدف النّهائيّ.

بهذه المواقف نستعدّ كلّنا لسنة اليوبيل. أتمنّى أن يستطيع الكثيرون منكم أن يأتوا إلى روما في رحلة حجّ ليعبروا من الأبواب المقدّسة. في كلّ حال، سيكون هناك إمكانيّة للجميع أن يقوموا بهذا الحجّ في الكنائس الخاصّة أيضًا، لاكتشاف المزارات المحلّيّة الكثيرة من جديد، التي تحمي إيمان وتقوى شعب الله المقدّس والمؤمن. وأتمنّى أن يصير حجّ اليوبيل هذا لكلّ واحد منّا “لحظة لقاء شخصيّ وحيّ مع الرّبّ يسوع، ”باب الخلاص“ (مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي، الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، 1). أحثّكم على أن تعيشوه بثلاثة مواقف أساسيّة: الشّكر، حتّى ينفتح قلبكم على تسبيح الله لعطاياه التي قبلتموها منه، وفي المقام الأوّل عطيّة الحياة. والبحث، حتّى تعبِّر مسيرتكم عن رغبتكم الدّائمة في طلب الرّبّ يسوع ولا تُطفؤوا عطش قلبكم. وأخيرًا، التّوبة، التي تساعدنا لننظر داخل أنفسنا، ونتعرّف على الطّرق والخيارات الخاطئة التي نسلكها أحيانًا، فنقدر أن نتوب إلى الرّبّ يسوع وإلى نور إنجيله.

4. حجّاج رجاءٍ للرّسالة

أترك لكم أيضًا صورة موحية لمسيرتكم. عندما تَصِلون إلى بازيليكا القّديس بطرس في روما، تعبرون السّاحة التي تحيطها الأروقة التي أنشأها المهندس المعماري والنّحات العظيم جان لورينزو بيرنيني (Gian Lorenzo Bernini). الرّواق كلّه من جانبيه يبدو لنا مثل عِناق كبير: مثل ذراعَي الكنيسة المفتوحتَين، أمّنا، التي تستقبل أبناءها كلّهم! في سنة الرّجاء المقدّسة المقبلة هذه، أدعوكم جميعًا إلى أن تختبروا عِناق الله الرّحيم، وتختبروا مغفرته، ومَحوَ جميع ”ذنوبكم الدّاخليّة“، كما كان في تقليد اليوبيلات في الكتاب المقدّس. وهكذا، بعد أن يستقبلكم الله ويلِدكم فيه من جديد، صيروا أنتم أيضًا أذرعًا مفتوحة لأصدقائكم وأقرانكم الكثيرين الذين يحتاجون أن يشعروا، باستقبالكم لهم، بمحبّة الله الآب. ليقدّم كلّ واحد منكم “ولو ابتسامة فقط، أو علامة صداقة، أو نظرة أخويّة، أو إصغاء صادقًا، أو خدمة مجّانيّة، ونحن نعلَم أنّ ذلك يمكن أن يصير، في روح يسوع، بذرة رجاء مثمرة للذين يَرَوْنها منّا” (المرجع نفسه، 18)، وتصيرون هكذا مرسلين فرح لا يكِلّون.

ونحن نسير، لنرفع عيوننا، عيون الإيمان، نحو القدّيسين الذين سبقونا في مسيرتهم، والذين وصلوا إلى الهدف، وهم يعطوننا شهادتهم المشجّعة: “جاهَدتُ جِهادًا حَسَنًا وأَتْمَمْتُ شَوطي وحافَظتُ على الإِيمان، وقد أُعِدَّ لي إِكْليلُ البِرِّ الَّذي يَجْزيني بِه الرَّبُّ الدَّيَّانُ العادِلُ في ذلِكَ اليَوم، لا وَحْدي، بل جَميعَ الَّذينَ اشْتاقوا ظُهورَه” (2 طيموتاوس 4، 7-8). ليشدِّدْنا ويُسنِدْنا مثال القدّيسين والقدّيسات.

تشجّعوا! أحملكم جميعًا في قلبي وأوكل مسيرة كلّ واحد منكم إلى مريم العذراء، حتّى تعرفوا على مثالها، أن تنتظروا بصبر وثقة ما ترجونه، وتبقوا سائرين حجّاجَ رجاء ومحبّة.

روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، يوم 29 آب/أغسطس 2024، تذكار استشهاد القدّيس يوحنّا المعمدان.

فرنسيس

    

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post الرّجاء يتغلّب على كلّ تعب، وكلّ أزمة، وكلّ قلق appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
دور الآداب في التّنشئة https://ar.zenit.org/2024/08/05/%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%af%d8%a7%d8%a8-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%91%d9%86%d8%b4%d8%a6%d8%a9/ Mon, 05 Aug 2024 18:03:48 +0000 https://ar.zenit.org/?p=73658 في 4 آب 2024

The post دور الآداب في التّنشئة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>

1. كتبت في البداية عنوانًا كان يشير إلى التّنشئة الكهنوتيّة، لكن بعد ذلك فكّرت أنّ هذه الأمور يمكن أن تقال أيضًا في تنشئة العاملين الرّعويّين كلّهم، وكلّ مسيحيّ أيضًا. أشير هنا إلى قيمة قراءة الرّوايات والقصائد في مسيرة نضجنا الشّخصيّ.

2. في ملل أيام العطلة، وحرارة الطّقس، وفي الوِحدة في بعض الأحياء المهجورة، يصبح غالبًا عثورنا على كتاب جيّد للقراءة واحة تُبعدنا عن الاختيارات الأخرى التي لا تناسبنا. ثمّ هناك لحظات التّعب الكثيرة، والغضب، والإحباط، والفشل، وأوقات لا نستطيع أن نجد فيها راحة النّفس، حتّى في الصّلاة، في هذه الحال يساعدنا كتابٌ جيّد لأن نجتاز العاصفة، حتّى نستطيع أن نحصل على شيء من الهدوء. وربّما تفتح لنا هذه القراءة مساحات داخليّة جديدة تساعدنا لأن نتجنّب انغلاقنا على أنفسنا مع بعض الأفكار المهووسة التي تحاصرنا بلا هوادة. كانت خبرة القراءة هذه تُمارس باستمرار، قبل انتشار وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ والهواتف المحمولة وغيرها من الأجهزة، ومن اختبرها يعرف جيّدًا عمّا أتكلّم. وهي ليست شيئًا عفا عليه الزّمن.

3. على عكس الوسائل السّمعيّة والبصريّة، حيث المنتَج يكون أكثر اكتمالًا والمساحة والوقت اللازمَان ”لإغناء“ الرّواية أو تفسيرها يكونان عادة مختصرين، هناك مجال أكبر للتّفاعل بين القارئ والكتاب. إنّه يُعيد بطريقة ما كتابة الرّواية، ويوسِّعُها بخياله، ويخلق عالمًا، ويستخدم قدراته، وذاكرته، وأحلامه، وقصّته نفسها المليئة بالمآسي والرّموز، فيصير الكتاب نتيجة لذلك رواية مختلفة تمامًا عمّا أراد المؤلّف أن يكتب. وهكذا، فإنّ العمل الأدبيّ هو نصّ حيّ وخصب دائمًا، وقادر أن يتكلّم من جديد بطرق عديدة، ويؤدّي إلى نتيجة فريدة مع كلّ قارئ يلتقيه. في القراءة، القارئ يغتني بما يتلقّاه من المؤلّف، وفي الوقت نفسه يسمح له المؤلّف بأن يطوِّر ويُنَمِّي غنى شخصيته. ومن ثمَّ فإن كلّ كتاب جديد يقرأه، يجدّد ويوسّع عالمه الشّخصيّ.

4. هذا يقودني إلى أن أقيّم بصورة إيجابيّة جدًّا موقف بعض الإكليريكيّات على الأقلّ، التي يتمّ فيها التّغلّب على هوس الشّاشات – والأخبار المزيّفة السّامّة والسّطحيّة والعنيفة – بتخصيص وقت للآداب، ولأوقات للقراءة الهادئة والخالية من الدّوافع المختلفة، وللكلام على هذه الكتب، الجديدة أو القديمة، التي ما زالت تعلِّمُنا أمورًا كثيرة. لكن يجب أن نلاحظ، للأسف، أنّه في مسيرة التّنشئة للذين هُم مُتّجهون نحو الخدمة الكهنوتيّة، لا يوجد اهتمام كافٍ حاليًّا للآداب. في الواقع، يُنظر غالبًا إلى الآداب على أنّها طريقة للتّرفيه، أو تعبير بسيط عن ثقافة ليست جزءًا من مسيرة الاستعداد، ولا الخبرة الرّعويّة العمليّة لكهنة المستقبل. الاهتمام بالآداب يُعتبر شيئًا غير ضروريّ، ما عدا بعض الاستثناءات. في هذا الصّدد، أودّ أن أُوكّد أنّ هذا النّهج خطأ، وهو أساس صورة من الفقر الفكريّ والرّوحيّ الخطير لكهنة المستقبل، الذين يُحرمون بهذه الطّريقة نعمة الوصول إلى قلب الثّقافة الإنسانيّة، عن طريق الآداب، وبصورة أدقّ، إلى قلب الإنسان.

5. بهذه الرّسالة، أودّ أن أقترح تغييرًا جذريًّا في النّهج، في ما يختصّ بالاهتمام الكبير الذي يجب أن نوليه للآداب، في سياق تنشئة المتقدّمين للكهنوت. في هذا الصّدد، أجد مؤثّرًا جدًّا ما قاله أحد اللاهوتيّين:

“الآداب […] تتدفّق من الشّخص ممَّا لا يمكن إلغاؤه فيه، في سرّه […]. إنّها الحياة التي تدرك نفسها عندما تصل إلى مِلءِ التّعبير عن ذاتها، فتلجأ إلى موارد اللغة كلّها”[1].

6. وهكذا، تتَّصل الآداب، بطريقة أو بأخرى، مع ما يريده كلّ واحد منّا من الحياة، لأنّها تدخل في علاقة حميمة مع حياتنا العمليّة، ونزاعاتها الجوهريّة، ومع رغباتها ومفاهيمها.

7. تعلّمت ذلك عندما كنت شابًّا مع طلّابي. بين سنتَي 1964 و1965، كان عمري 28 سنة، وكنت أستاذًا للآداب في ”سانتا في“ (Santa Fe) في مدرسة لليسوعيّين. كنت أعلّم طلّاب السّنتَين الأخيرتَين في الثّانويّة، وكان عليَّ أن أجعل طلّابي يدرسون (El Cid) ”السِّيد“. لكنّ هذا الدّرس لم يعجبهم. طلبوا أن يدرسوا غارسيّا لوركا (García Lorca). فقرّرت أن يدرسوا (El Cid) في البيت، وأنا سأناقش في الصّف المؤلّفين المفضَّلين لدى الشّباب. كانوا يريدون أن يقرؤوا الأعمال الأدبيّة المعاصرة. وبقراءتهم للأمور التي كانت تجذبهم أوّلًا، ‏ كانوا ينفتحون على الآداب عمومًا والشّعر، ثمّ كانوا ينتقلون بعد ذلك إلى مؤلّفين آخرين. في النّهاية، القلب يسعى إلى المزيد، وكلّ واحد يجد طريقه في الآداب. [2] أنا، مثلًا، أحبّ كُتَّاب المآسي، لأنّه يمكننا كلّنا أن نشعر بأنّ أعمالهم كأنّها أعمالنا، وهي تعبير عن مآسينا. عندما نبكي على مصير الشّخصيّات، نحن في النّهاية نبكي على أنفسنا وعلى فراغنا وعيوبنا ووِحدتنا. بالطّبع، أنا لا أطلب منكم أن تقرأوا القراءات نفسها التي قرأتها. كلّ واحد منّا يجد الكتب التي تعبِّر عن حياته والتي ستصير رفيق سفره الحقيقيّ. أن نقرأ شيئا ونحن مُكرَهون، يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة، وسنبذل جهدًا كبيرًا فقط لأنّ الآخرين قالوا إنّه ضروريّ. لا، علينا أن نختار قراءاتنا بانفتاح ومفاجأة ومرونة، وأن ندع الآخرين ينصحونا، ونكون صادقين أيضًا، فنحاول أن نجد ما نحن بحاجة إليه في كلّ لحظة من حياتنا.

إيمان وثقافة

8. علاوة على ذلك، للمؤمّن الذي يريد حقًّا أن يدخل في حوار مع ثقافة عصره، أو ببساطة مع حياة النّاس العاديّين، الآداب أمرٌ لا غنى عنه. أكّد المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، لسبب وجيه، أنّ “الآداب والفنون […] تحاول أن تعبّر عن طبيعة الإنسان” و “تلقي الضّوء على أفراحه وويلاته، وعلى احتياجات البشر وقواهم”[3]. في الحقيقة، الآداب تستند على حياتنا اليوميّة، وعلى عواطفها وأحداثها الواقعيّة مثل “العمل والوظيفة والحبّ والموت وكلّ الأمور الصّغيرة التي تملأ الحياة”[4].

9. كيف يمكننا أن نصل إلى قلب الثّقافات القديمة والجديدة إذا تجاهلنا وأقصينا و/أو أسكتنا رموزها ورسائلها وإبداعاتها ورواياتها التي بها استحوذت وأرادت أن تكشف وتتذكّر أعمالها ومُثُلُهَا العُليا الأجمل، وكذلك عنفها ومخاوفها وأعمق عواطفها؟ كيف يمكننا أن نتكلّم إلى قلوب البشر إذا تجاهلنا أو أهملنا أو لم نقدّر ”ذلك الكلام“ الذي به أرادوا أن يُعلنوا، ولِمَ لا، ويكشفوا عن مأساة حياتهم ومشاعرهم من خلال الرّوايات والأشعار؟

10. استطاعت رسالة الكنيسة أن تبيّن كلَّ جمالها، ونضارتها وكلّ ما هو جديد فيها في لقائها مع الثّقافات المختلفة – غالبًا بفضل الآداب – وقد تجذّرت فيها ولم تخَفْ أن تجازف وأن تأخذ منها أفضل ما وجدته. هذا الموقف حرّرها من تجربة الأنانيّة الأصوليّة التي تصمّ الآذان، وتَظهَر في الاعتقاد بأنّ قواعد تاريخيّة ثقافيّة معيّنة لديها القدرة على أن تعبّر عن غِنى وعمق الإنجيل كلّه.[5] وهذا خطأ. نبوءات شؤم كثيرة تحاول اليوم أن تزرع اليأس، وهي متجذّرة في هذا الموقف. الاتصال بأساليب أدبيّة ونحويّة مختلفة، يسمح دائمًا بأن نتعمّق في أوجه الوحيّ المختلفة، ودون أن نحصرها أو نُفقرها في حدود الاحتياجات التّاريخيّة أو البُنى العقليّة.

11. ليس من قبيل الصّدفة أنّ المسيحيّة الأولى، على سبيل المثال، أدركت جيّدًا الحاجة إلى مقارنة وثيقة مع الثّقافة الكلاسيكيّة في ذلك الوقت. أحد آباء الكنيسة الشّرقيّة، مثل باسيليوس من قيصريّة، مثلًا، في خطابه للشّباب، الذي ألّفه بين السّنوات 370 و 375، والذي ربّما كان موجّهًا إلى أبناء إخوته، أشاد بقيمة الأدب الكلاسيكيّ – ”أدب الذين من الخارج“ (éxothen)، كما كان يُسمّي المؤلّفين الوثنيّين – سواء من حيث العبارات، (lógoi) التي كانت تُستخدم في اللاهوت وفي تفسير الكتاب المقدّس، وسواء من حيث شهادة الحياة نفسها، أي من حيث العمل (práxeis) (الأفعال، والسّلوكيّات) التي كان يجب أن يؤخذ بها بعين الاعتبار في الزّهد والأخلاق. واختتم خطابه وهو يَحُثُّ الشّباب المسيحيّين على اعتبار الآداب الكلاسيكيّة بمثابة ”زوادة“ (ephódion) يحملونها معهم لتعليمهم وتنشئتهم، فيستمدون منها ”منفعة لنفسهم“ (الفصل الرّابع، 8-9). ومن هذا اللقاء بالتّحديد للحدث المسيحيّ مع ثقافة العصر، ظهرت صياغة جديدة مبتكرة لإعلان الإنجيل.

12. بفضل التّمييز الإنجيليّ في الثّقافة، يمكننا أن نكتشف حضور الرّوح القدس في الواقع الإنسانيّ المتنوّع، أي يمكننا أن نرى الزّرع الذي زرعه الرّوح من قبل، وحضوره في الأحداث، والمشاعر، والرّغبات، والميول العميقة في القلوب والسّياقات الاجتماعيّة والثّقافيّة والرّوحيّة. يمكننا، مثلًا، أن نرى مقاربة مماثلة في سفر أعمال الرّسل، في الكلام على بولس في الأَرْيوباغُس (راجع أعمال الرّسل 17، 16-34). أكّد بولس وهو يتكلّم على الله: “ففيهِ حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا، كما قالَ شُعَراءُ مِنكم: فنَحنُ أَيضًا مِن سُلالَتِه” (أعمال الرّسل 17، 28). في هذه الآية اقتباسان: الأوّل غير مباشر في القسم الأوّل، حيث يستشهد بالشّاعر إبيمينيدس (القرن السّادس قبل المسيح)، والثّاني مباشر، فيه يستشهد ”بالظواهر“ (Fenomeni) للشّاعر أراتوس دي سيلو (Arato di Silo) (القرن الثّالث قبل المسيح)، الذي تغَنَّى بالكواكب وحالات الطّقس الجيّد والسّيّئ. “بيَّن بولس [هنا] أنّه ”قارئ“ للشّعر وسمح لنا بأن نرى طريقته في استخدام النّصّ الأدبيّ، الذي لا يمكنه إلّا أن ينعكس في التّمييز الإنجيليّ للثّقافة. قال أهل أثينا فيه إنّه ”ثرثار“، (حرفيًّا ”جامع البذور“ – spermologos). كانت تلك بالتّأكيد إهانة، لكنّها في الوقت نفسه حقيقة عميقة. جمع بولس بذور الشّعر الوثنيّ، وخرج من موقف سابق من الازدراء العميق (راجع أعمال الرّسل 17، 16)، وتوصَّل إلى الاعتراف بأهل أثينا أنّهم ”متديّنون جدًا“ ورأى في صفحات أدبهم الكلاسيكيّ تحضيرًا حقيقيًّا للإنجيل” [6].

13. ماذا فعل بولس؟ فهِم أنّ ”الآداب تكشف الأعماق التي يسكنها الإنسان، بينما الوحي، ثمّ اللاهوت، يتبنّانهما ليبيِّنا كيف يقدر المسيح أن يجتازها وينيرها“ [7]. في اتّجاه هذه الأعماق، الآداب هي إذن ”طريق للدخول“ [8] تساعد الرّاعي على أن يدخل في حوار مثمر مع ثقافة عصره.

المسيح ليس بلا جسد، أبدًا

14. قبل التّعمّق في الأسباب المحدّدة التي تدعو إلى تعزيز الاهتمام بالآداب في مسيرة تنشئة كهنة المستقبل، اسمحوا لي أن أذكر هنا فكرة عن السّياق الدّيني الحالي: “العودة إلى المقدّسات والبحث الرّوحيّ اللذان يميِّزان عصرنا هما ظاهرتان فيهما بعض الالتباس. فنحن نواجه اليوم، أكثر من الإلحاد، التّحديّ في أن نروي عطش الكثيرين إلى الله، بما هو مناسب، كي لا يسعوا لإروائه بأجوبة غريبة أو بيسوع المسيح بلا جسد” [9]. المهمّة الملّحة في إعلان الإنجيل في عصرنا تطلب من المؤمنين والكهنة بشكل خاصّ الالتزام حتّى يتمكّن الجميع من لقاء يسوع المسيح الذي صار جسدًا، وإنسانًا، ودخل في التّاريخ. يجب علينا جميعًا أن نكون متنبِّهين لكي لا يغيب عن بالنا أبدًا ”جسد“ يسوع المسيح: الجسد المجبول من العواطف والمشاعر والأحاسيس والقصص الملموسة، واليدان اللتان تلمسان وتشفيان، والنّظرات التي تحرّر وتشجِّع، والضّيافة، والمغفرة، والتّسامح، والشّجاعة، والجرأة: في كلمة واحدة، المحبّة.

15. وعلى هذا المستوى بالتّحديد، يمكن لقراءة الآداب المستمرّة أن تجعل كهنة المستقبل وجميع العاملين الرّعويّين أكثر حساسيّة بإنسانيّة الرّبّ يسوع الكاملة، التي يُفيض فيها ألوهيته كاملة، فيعلنوا الإنجيل بطريقة تسمح للجميع، أقول للجميع، أن يختبروا صحّة ما يقوله المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: “في الواقع، فقط في سرّ الكلمة المتجسِّد يجد سرّ الإنسان النّور الحقيقي” [10]. وهذا لا يعني سرّ الإنسانيّة التجريديّة، بل سرّ ذلك الإنسان المحسوس بكلّ جراحه ورغباته وذكرياته وآمال حياته.

الخير الكبير

16. من وجهة نظر عمليّة، يرى العلماء العديدون أنّ عادة القراءة تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة عديدة في حياة الشّخص: فهي تساعده ليكتسب ويغتني بمزيد من المفردات، وتطوِّر جوانب مختلفة من ذكائه. كما أنّها تحفِّز الخيال والإبداع. وفي الوقت نفسه، تسمح له بأن يتعلّم التّعبير عن قصصه بطريقة أبلغ. كما أنّها تحسِّن القدرة على التّركيز، وتقلّل من مستويات الضّعف الإدراكي، وتهدّئ التّوتر والقلق.

17. وأكثر من ذلك: إنّها تهيّئنا لنفهم ولنواجه أيضًا المواقف المختلفة التي قد تنشأ في الحياة. في القراءة نندمج في الشّخصيّات، والهموم، والدراما، والمخاطر، ومخاوف الأشخاص الذين تغلّبوا أخيرًا على تحدّيات الحياة، أو ربما نقدّم، في أثناء القراءة، النّصائح للشّخصيّات، وقد تكون مفيدة لنا فيما بعد.

18. لمحاولة تشجيع المزيد من القراءة، أقتبس بكلّ سرور بعض النّصوص لمؤلّفين معروفين، وهم يعلِّموننا أمورًا كثيرة في كلام قليل:

تطلق الرّوايات العنان “فينا في غضون ساعة واحدة لكلّ الأفراح والمصائب المحتمّلة التي قد تستغرق في الحياة سنوات كاملة لنعرف شيئًا قليلًا منها، ولن تنكشف لنا أبدًا قِمَّتها، لأنّ البطء الذي تسير به يمنعنا من إدراكها” [11].

“بقراءة الأعمال الأدبيّة الكبيرة، أصير آلاف البشر، وفي الوقت نفسه، أبقى أنا. مثل سماء الليل في الشّعر اليونانيّ، أرى بعدد لا يُحصى من العيون، لكنّني دائمًا أنا هو الذي يرى. هنا، كما هو الحال في الدّين والحبّ والعمل الأخلاقيّ والمعرفة، أتجاوز نفسي، ومع ذلك، عندما أفعل ذلك، أكون أنا أكثر من أيّ وقت مضى” [12].

19. ومع ذلك، لا أقصد التّركيز فقط على هذا المستوى من الفائدة الشّخصيّة، بل التّفكير في أكثر الأسباب حسمًا لإيقاظ حبّ القراءة من جديد.

الإصغاء إلى صوت أحد

20. عندما يتجّه فكري إلى الآداب، تتبادر إلى ذهني ما قاله الكاتب الأرجنتينيّ الكبير خورخي لويس بورخيس [13] (Jorge Luis Borges) لطلابه: أهمّ شيء هو القراءة، وأن تكون على اتّصال مباشر بالآداب، وأن تندمج في النّص الحيّ الذي تقرأه، أكثر من أن تركّز على الأفكار والتّعليقات النّقديّة. وقد شرح بورخيس هذه الفكرة لطلابه وقال لهم إنّهم ربما لن يفهموا في البداية سوى القليل مما كانوا يقرؤونه، لكنّهم على أيّ حال سيُصغون إلى ”صوت أحد“. هذا هو تعريف الآداب التي أُحبّها كثيرًا: الإصغاء إلى صوت أحد. ولا ننسَ مدى خطورة أن نتوقّف عن الإصغاء إلى صوت الآخر الذي يخاطبنا! إذ نقع على الفور في العزلة الذّاتية، وندخل في نوع من أنواع الصّممّ ”الرّوحي“، الذي يؤثّر أيضًا سلبًا على علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالله، بغض النّظر عن مدى قدرتنا على دراسة اللاهوت أو عِلم النّفس.

21. باتّباع هذا الطّريق الذي يجعلنا حساسين لسِرّ الآخرين، تساعدنا الآداب لنتعلَّم كيف نصل إلى قلوبهم. كيف لا يمكننا أن نتذكّر في هذه المرحلة الكلام الشّجاع الذي وجّهه القدّيس بولس السّادس إلى الفنّانين، وكذلك إلى الكتّاب الكبار في 7 أيّار/مايو 1964؟ قال: “نحن بحاجة إليكم. خدمتنا بحاجة لتعاونكم. لأنّ خدمتنا، كما تعلَمون، هي التّبشير وجعل عالم الرّوح، غير المرئيّ، الذي لا يمكن وصفه، عالم الله، سهلَ الوصول إليه ومفهومًا، بل مؤثِّرًا. وفي هذه العمليّة، التي تضع العالم غير المرئيّ في صيغ يمكن الوصول إليها وفهمها، أنتم أسياد.” [14] هنا بيت القصيد: مهمّة المؤمنين، والكهنة على وجه الخصّوص، هي تحديدًا ”لمس“ قلب الإنسان المعاصر حتّى يتحرّك وينفتح أمام إعلان الرّبّ يسوع، وفي التزامهم هذا فإنّ الإسهام الذي يمكن أن تقدّمه الآداب والشّعر له قيمة لا تُثمَّن.

22. توماس ستيرنز إليوت (Thomas Stearns Eliot)، الشّاعر الذي تَدينُ له الرّوح المسيحيّة بمؤلّفات أدبيّة ميَّزت الزّمن المعاصر، وصف الأزمة الدّينيّة الحديثة بأنّها أزمة ”عجز عاطفي“ منتشرة. [15] في ضوء هذه القراءة للواقع، فإنّ مشكلة الإيمان اليوم ليست أوّلًا مشكلة إيمان أكثر أو أقل بالقضايا العقائديّة، بل المشكلة مرتبطة بعدم قدرة الكثيرين على الاندهاش أمام الله، أو خليقته، أو الكائنات البشريّة الأخرى. فتقوم مهمّتنا إذن بشفاء وإغناء حساسيَّتنا. ولهذا السّبب، عند عودتي من الزّيارة الرّسوليّة إلى اليابان، وعندما سألوني ماذا يجب أن يتعلّمه الغرب من الشرّق، أجبت: “أعتقد أنّ الغرب يحتاج إلى شيء من الشّعر” [16].

نوع من قاعدة قفز للتّمييز

23. ماذا يستفيد الكاهن إذن من هذه الصّلة بالآداب؟ لماذا من الضّروريّ أن ننظر إلى قراءة الرّوايات الكبيرة ونشرها على أنها عنصرٌ مهمّ في جملة المعارف الكهنوتيّة؟ لماذا من المهمّ أن نستعيد وننشّط في مسار تنشئة المرشّحين للكهنوت، ما أوضحه اللاهوتي كارل راهنر، وهو الشّعور بالتّقارب الرّوحي العميق بين الكاهن والشّاعر؟ [17]

24. لنحاول أن نجيب على هذه الأسئلة بإصغائنا إلى اعتبارات اللاهوتيّ الألمانيّ. [18] كتبَ راهنر: كلام الشّاعر ”مليء بالحنين“، وهو “أبواب مفتوحة على اللامتناهيّ، أبواب تبقى مفتوحة على مصاريعها على مساحات غير محدودة. إنّها تذكّرنا بما لا يمكن وصفه، وتتجّه نحو ما لا يمكن وصفه”. هذا الكلام الشّعريّ “يطلّ على اللامتناهي، لكنّه لا يستطيع أن يعطينا هذا اللامتناهي، ولا يستطيع أن يحمل أو أن يخفي في داخله ذلك اللامتناهي”. وهذا هو في الواقع نموذج لكلمة الله. ويتابع راهنر: “ومن ثَمَّ، فإنّ الكلام الشّعريّ يستدعي كلمة الله” [19]. بالنّسبة للمسيحيّين، الكلمة هي الله، وكلّ الكلام البشريّ يحمل آثار حنين جوهريّ إلى الله، ويميل نحو كلمة الله. يمكن القول إنّ الكلام الشّعريّ الحقيقيّ يشارك بشكل مشابه في كلمة الله، كما تقدّم لنا ذلك الرّسالة إلى العبرانيين بطريقة مدوّيّة (راجع العبرانيين 4، 12-13).

25. وهذه هي الطّريقة التي تمكَّن بها كارل راهنر من إقامة تشابه جميل بين الكاهن والشّاعر: “الكلام وحده هو الذي يقدر أن يحرّر كلّ الواقع المقيَّد وغير المعلَن: والذي نسميه الصَّمَمُ أمام نزعة الإنسان إلى الله” [20].

26. وفي الآداب هناك مسائل تتعلّق بالشّكل وبالمعنى، ويجب التّمييز بينها. ولذلك فهي تمثّل نوعًا ما قاعدة للتّمييز، التي تَصقل مهارات الحكمة في التّدقيق في ما هو داخليّ وما هو خارجيّ في كاهن المستقبل. المكان الذي ينفتح فيه طريق الوصول إلى الحقيقة هو ما في داخل القارئ، المندمج مباشرة في عمليّة القراءة. وهنا ينكشف سيناريو التّمييز الرّوحيّ الشّخصيّ، حيث يوجد القلق والأزمات أيضًا. في الواقع، هناك صفحات أدبيّة عديدة يمكن أن تستجيب لمفهوم الكآبة كما عرفها القدّيس أغناطيوس.

27. “نعني بالكآبة […] ظلمة في النّفس، والاضطراب الدّاخليّ، والاندفاع إلى الأمور الوضيعة والأرضيّة، والقلق النّاجم عن مختلف الاضطرابات والتّجارب: هكذا تميل النّفس إلى عدم الثّقة، فتصير بلا رجاء وبلا محبّة، وتجد نفسها كسولة، وفاترة، وحزينة، وكأنّها منفصلة عن خالقها وربّها” [21].

28. الألم أو الملل الذي تشعر به عندما تقرأ بعض النّصوص ليست بالضّرورة مشاعر سيّئة أو لا فائدة منها. لاحظ أغناطيوس دي لويولا نفسه أنّ الرّوح الصّالح يعمل في الذين يسيرون من سيئ إلى أسوأ”، فيثير فيهم القلق والاضطراب وعدم الرضى. [22] هذا هو التّطبيق الحرفي لأوّل بند في قانون القدّيس أغناطيوس، للتّمييز بين الأرواح، في الذين “يسيرون من خطيئة مميتة إلى خطيئة مميتة”. فالرّوح الصّالح يدفع هؤلاء الأشخاص “بالقلق ووخز الضّمير انطلاقا من العقل” [23] ليقودهم إلى الخير والجمال.

29. نفهم من هذا أنّ القارئ ليس متلقيًّا لرسالة حسنة، بل هو شخص يُدفَعُ بصورة قوية إلى الانتقال إلى منطقة غير مستقرّة حيث الحدود بين الخلاص والهلاك ليست مبدئيًّا محدّدة ولا منفصلة. فالقراءة، هو مثل فِعلِ ”التّمييز“، حيث يصير القارئ هو ”الفاعل“ في ما يقرأ،  وفي الوقت نفسه، هو ”موضوع“ ما يقرأه. عندما يقرأ القارئ رواية أو مجموعة أشعار، يعيش فعليًّا خبرة وهي أنّه هو ”المقروء“ بالكلمات التي يقرأها. [24] وهكذا فإنّ القارئ يشبه اللاعب في الملعب: فهو يلعب اللعبة، ولكن في الوقت نفسه اللعبة تَتِمُّ به، بمعنى أنّه مندمج تمامًا في ما يعمله. [25]

الاهتمام والهضم

30. أمّا فيما يختصّ بالمحتويّات، فيجب الاعتراف بأنّ الآداب هي مثل ”التّلسكوب“ – بحسب الصّورة المعروفة التي صاغها بروست [26] (Proust) – الموجَّه على الأشخاص والأشياء، لتقريب ”المسافة الكبرى“ التي تصنعها الحياة اليوميّة بين ما نشعر به، وبين الخبرة الإنسانيّة برمتها. “الآداب تشبه مختبرًا للصّوّر الفوتوغرافيّة، حيث يمكن معالجة الصّور حتّى تظهر دقائقها وتفاصيلها. هذا هو، إذن، ما ”تصنعه“ الآداب: ”تطوِّر“ صور الحياة” [27]، وتسألنا عن معناها. باختصار، إنّها تفيدنا لنختبر الحياة بمزيد من الفعّاليّة.

31. وفي الواقع، فإنّ نظرتنا العادية إلى العالم ”مقلّصة“ ومحدودة بسبب الضّغط الذي تمارسه علينا الأغراض التّشغيليّة والمباشرة لأعمالنا. وحتّى الخدمة – في العبادة والعمل الرّعويّ وأعمال المحبّة – يمكن أن تصير أوامر توجّه قوانا واهتمامنا فقط نحو الأهداف التي يجب تحقيقها. ولكن، يذكِّرنا يسوع في مثل الزّارع، بأنّه يجب أن تسقط البِذار في تربة عميقة لتنضج وتثمر مع مرور الوقت، دون أن تختنق في الأمور السّطحيّة أو بين الأشواك (متّى 13، 18-23). وهكذا يصير الخطر هو الوقوع في ”الإنتاجيّة العالية“ التي تستهين بالتّمييز، وتفتقر إلى الحساسيّة، وتقلّل من التّعقيد. لذلك من الضّروري والملِّح معارضة هذا التّسارع والتّبسيط لحياتنا اليوميّة، وذلك بأن نتعلّم بأن نقيم المسافات بيننا وبين ما هو فوري، والإبطاء في العمل، والتّأمّل والإصغاء. يمكن أن يحدث هذا عندما يتوقَّف الشّخص، فيبدأ قراءة كتاب لا لأيّ هدف آخر.

32. من الضّروريّ أن نستعيد طرقًا مرنة غير استراتيجيّة للتعامل مع الواقع، لا تهدف مباشرة إلى تحقيق نتيجة، بل تسمح لفائض الوجود اللامحدود بأن يظهر. المسافة، والبطء، والحرّيّة هي ميزات مقاربة للواقع تجد في الآداب شكلًا من أشكال التّعبير ليس حصريًا، لكنّه متميِّز. فتصير الآداب ساحة تدريب حيث يمكننا أن ندرِّب نظرنا في البحث عن حقيقة الأشخاص والمواقف واستكشافها كأنها سِرّ، كأنّها مليئًة بمعنى فائض، ولا يمكن أن يظهر إلّا جزئيًا في فئات، وأطُر تفسيريّة، وفي ديناميكيّات سطحيّة مثل ربط النّتيجة بالسّبب، والغاية بالوسيلة.

33. صورة جميلة أخرى للتّعبير عن دور الآداب تأتي من فيزيولوجيا الجهاز البشريّ، وخاصّة من عمليّة الهضم. هنا المثال يأتي من “اجترار البقرة”، كما قال الرّاهب غيوم دي سانت تييري (Guillaume de Saint-Thierry) في القرن الحادي عشر، واليسوعيّ جان جوزيف سورين (Jean-Joseph Surin) في القرن السّابع عشر. يتكلَّم هذا الأخير عن ”معدة النّفس“، وقد أشار اليسوعيّ ميشيل دي سيرتو (Michel De Certeau) إلى ”فيزيولوجيا حقيقية للقراءة الهاضمة“. [28] إذن، تساعدنا الآداب على التّعبير عن حضورنا في العالم، و”هضمه“ واستيعابه، وفهم ما هو ما بعد الذي نعيشه. تفيد إذن في تفسير الحياة، والتّمييز بين المعاني ونزعاتها الأساسيّة. [29]

الرّؤيّة بعيون الآخرين

34. فيما يتعلّق بشكل الخطاب، يحدث ما يلي: عندما نقرأ نصًا أدبيًّا، نكون في وضع يسمح لنا “بـأن نرى بعيون الآخرين” [30]، فنكتسب منظورًا واسعًا يوسِّع إنسانيتنا. وهكذا يتمّ تنشيط قدرة الخيال التّعاطفيّ فينا، وهي وسيلة أساسيّة للقدرة على التّماهي مع وجهة نظر الآخرين وحالتهم ومشاعرهم، والتي بدونها لا يوجد تضامن أو مشاركة أو شفقة أو رحمة. عندما نقرأ نكتشف أنّ ما نشعر به ليس مُلكَنا فقط، بل هو شامل الجميع، ومن ثَمَّ حتّى أكثر الأشخاص المتروكين لن يشعروا بالوِحدة.

35. التّنوّع العجيب في الكائن البشريّ والتّعدديّة في اللحظات الزّمنيّة، العامّة أو المفردة، في الثّقافات والمعارف، يُعبَّر عنها في الآداب بلغة قادرة على احترام تنوّعها والتّعبير عنها، وفي الوقت نفسه تُوضَع في قوالب نحويّة رمزيّة تمنحها مفهومًا مشتركًا، ليس غريبًا. أصالة الكلمة الأدبيّة هي في أنّها تعبِّر عن غنى الخبرة وتنقلها من دون أن تحوِّلها إلى ”موضوع“ في الوصف التّعبيري في المعرفة التّحليليّة أو في الفحص المنظِّم للحكم النّقدي، بل هي مضمون جهد يحاول أن يعبِّر ويفسّر ويعطي معنى للخبرة المعنية.

36. عند نقرأ قصة، بفضل رؤيّة المؤلِّف، كلّ واحد يتخيّل بطريقته الخاصّة بكاء فتاة متروكة، أو امرأة مسنّة تغطيّ جسد حفيدها النّائم، وحماس رجل بالانتقاد من الجميع، والشّاب الذي يحلم بالطّريق الوحيد للخروج من آلام الحياة البائسة والعنيفة. عندما نشعر بآثار عالمنا الدّاخليّ وسط تلك القصّص، تزداد حساسيّتنا أمام خبرات الآخرين، ونخرج من أنفسنا لندخل إلى أعماقهم، فنستطيع أن نفهم أتعابهم ورغباتهم أكثر بعض الشّيء، ونرى الواقع بعيونهم، وفي النّهاية نصير رفاق سفرهم. وهكذا نندمج في الحياة العمليّة والدّاخليّة لبائع الخضار، والزّانية، والطّفل الذي يكبر بدون والديه، وامرأة عامل البناء، والمرأة المسنّة التي ما زالت تحلم بأنّها ستجد أميرها. ويمكننا أن نفعل ذلك بتعاطف، وأحيانًا بتسامح وتفهُّم.

37. كتب جان كوكتو (Jean Cocteau) إلى جاك ماريتان (Jacques Maritain): “الآداب مستحيلة، يجب أن نخرج منها، ولا جدوى من محاولة الخروج منها بالآداب لأنّ الحبّ والإيمان وحدهما يسمحان لنا بأن نخرج من أنفسنا” [31]. ولكن هل نخرج حقًّا من أنفسنا إن كانت آلام الآخرين وأفراحهم لا تحترق في قلوبنا؟ أُفضِّل أن أتذكّر أنّي، لكوني مسيحيًّا، لا يوجد شيء إنسانيّ لا يهُمُّني.

38. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الآداب ليست نسبويّة، لأنّها لا تجرّدنا من معايير القيمة. التّمثيل الرّمزي للخير والشّرّ، للصّواب والخطأ، كأبعاد تظهر في الآداب في الحياة الفرديّة والأحداث التّاريخيّة الجماعيّة، لا تلغي الحكم الأخلاقيّ، لكنّها تمنعه من أن يصير أعمى أو حكمًا سطحيًّا. يسوع يسألنا: “لماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُ لها؟” (متّى 7، 3).

39. وفي عنف الآخرين أو محدوديتهم أو ضعفهم، لنا الفرصة للتّفكّير بشكل أفضل في أنفسنا. تفتح الآداب أمام القارئ رؤيّة واسعة للغنى والشّقاء في الخبرة الإنسانيّة، فتُربّي نظرته على قبول البطء في الفهم، والتّواضع في عدم تبسيط الأمور، والوداعة في عدم ادّعاء السّيطرة والحكم على الواقع والحالة الإنسانيّة. من المؤكّد أنّ هناك حاجة للحكم، لكن يجب ألّا ننسى أبدًا حدوده: في الواقع، يجب ألّا يُفهَمَ الحكم أبدًا أنّه حكم بالإعدام، أو بالإلغاء، أو بقمع الإنسانيّة لصالح شموليّة قانون جافّ.

40. نظرة الآداب تدرِّب القارئ على اللامركزيّة، وعلى معنى حدوده، وعلى التّخلّي عن السّيطرة، المعرفيّة والنّقديّة، على الخبرة، وتعلِّمه الفقر الذي هو مصدر غنى كبير. وبالاعتراف بعدم الفائدة، بل باستحالة إخضاع سرّ العالم والكائن البشريّ لمعارضة قطبيّة بين الصّواب والخطإ والصّحيح وغير الصحيح، يجد القارئ واجب الحكم، لا كأداة للسّيطرة، بل كدافع إلى إصغاء مستمرّ، واستعداد دائم للمغامرة في هذا الغنى الخارق في التّاريخ، والنّاجم عن حضور الرّوح، الذي يعطي نفسه وهو نعمة: مثل حدث لا يمكن التّنبّؤ به ولا فهمه، ولا يعتمد على عمل الإنسان، بل يعيد تعريف الإنسان على أنّه أمل الخلاص.

القدرة الرّوحيّة للآداب

41. أرجو أن أكون بيَّنت، في هذه الأفكار الموجزة، الدّور الذي يمكن أن تلعبه الآداب في تربية قلب الرّاعي وعقله، راعي المستقبل، نحو ممارسة حرّة ومتواضعة للطّاقة العقليّة الفرديّة، ونحو اعتراف مثمر بتعدّديّة اللغات البشريّة، وتوسيع حساسيّة الإنسان الإنسانيّة، وأخيرًا نحو انفتاح روحيّ كبير للإصغاء إلى الصّوت، صوت الله، من خلال أصوات عديدة.

42. بهذا المعنى، تساعد الآداب القارئ على تحطيم أصنام اللغات التي تجد مرجعيتها في ذاتها، والمكتفية بذاتها، والتي تهدّد أحيانًا بتلويث خطابنا الكنسيّ، بسجن حرّيّة كلمة الله. الكلمة الأدبيّة هي كلمة تحرِّك اللغة، وتحرّرها وتنقّيها: وأخيرًا، تفتحها على إمكانياتها التّعبيريّة والاستكشافيّة الإضافيّة، وتجعلها قادرة على التّرحيب بكلمة الله التي تستقر في كلمة الإنسان، وليس عندما تفهم نفسها على أنّها معرفة كاملة ونهائيّة، بل عندما تسهر وتصغي وتنتظر الذي سيأتي ”ليجعَلَ كُلَّ شَيءٍ جَديدًا“ (راجع رؤيّة 21، 5).

43. القدرة الرّوحيّة للآداب تذكّر أخيرًا بالمهمّة الأساسيّة التي أوكلها الله إلى الإنسان: مهمة ”تسميّة“ الكائنات والأشياء (راجع تكوين 2، 19- 20). مهمّة حارس الخليقة، التي أوكلها الله لآدم، هي أوّلًا إدراك الإنسان لواقعه الخاصّ ولمعنى وجود الكائنات الأخرى. الكاهن مكلّف أيضًا بهذه المهمّة الأصليّة التي هي ”تسميّة“، وإعطاء المعنى، وأن يكون أداة شركة ووَحدة بين الخليقة والكلمة المتجسِّد، وقدرته على إضاءة كلّ جانب من جوانب الحالة الإنسانيّة.

44. القرب بين الكاهن والشّاعر يظهر في هذا الاتّحاد السّريّ وغير المنفصل بين الكلمة الإلهيّة والكلمة البشريّة، وهو على أساس رتبة هي خدمة مليئة بالإصغاء والرّحمة، وهي موهبة تصير مسؤوليّة، وهي رؤيّة للحقيقة والخير تفضي إلى الجمال. لا يسعنا إلّا أن نصغي إلى الكلام الذي تركه لنا الشّاعر بول سيلان (Paul Celan): “من تعلَّم حقًّا أن يرى، اقترب من غير المرئيّ” [32].

صَدَرَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، في 17 تموز/يوليو 2024، الثّاني عشر من حبريّتنا.

فرنسيس

 

************

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024

 


[1] R. Latourelle, «Letteratura», in R. Latourelle – R. Fisichella, Dizionario di Teologia Fondamentale, Assisi (PG) 1990, 631.

[2] Cfr. A. Spadaro, «J. M. Bergoglio, il “maestrillo” creativo. Intervista all’alunno Jorge Milia», in La Civiltà Cattolica 2014 I 523-534.

 

[3]المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 62.

[4] K. Rahner, «Il futuro del libro religioso», in Nuovi saggi II, Roma 1968, 647.

 

[5]راجع الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 117.

[6] A. Spadaro, Svolta di respiro. Spiritualità della vita contemporanea, Milano, Vita e Pensiero, 101.

[7] R. Latourelle, «Letteratura», 633.

 

[8]القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة إلى الفنّانين، رقم 6.

 

[9] الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 89.

 

[10] دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء – Gaudium et spes، رقم 22.

[11] M. PROUST, Alla ricerca del tempo perduto. I. La strada di Swann, Milano, Mondadori, 1983, 104 s.

[12] C.S. Lewis, Lettori e letture. Un esperimento di critica, Milano 1997, 165.

[13] Cfr. J.L. Borges, BorgesOral, Buenos Aires 1979, 22.

 

[14] القدّيس بولس السّادس، عظة، قداس الفنّانين في الكابيلا سيكستينا، 7 أيّار/مايو 1964.

[15] T.S. Eliot, The Idea of a Christian Society, London 1946, 30.

 

[16] مؤتمر صحفيّ لقداسة البابا فرنسيس أثناء رحلة العودة من الزيارة الرّسوليّة إلى تايلاند واليابان، 26 تشرين الأوّل/نوفمبر 2019.

[17] Cfr. A. Spadaro, La grazia della parola. Karl Rahner e la poesia, Milano, Jaca Book, 2006.

[18] K. Rahner, «Sacerdote e poeta» in La fede in mezzo al mondo, Alba 1963, 131-173.

[19] Ivi 171 s.

[20] Ivi, 146.

 

[21] القدّيس أغناطيوس دي لويولا، رياضات روحيّة، رقم 317.

 

[22] راجع المؤلّف نفسه، رقم 335.

 

[23] المؤلّف نفسه، رقم 314.

[24] Cfr. K. Rahner, «Sacerdote e poeta» in La Fede in mezzo al mondo, Alba 1963, 141.

[25] Cfr. A Spadaro, La pagina che illumina. Scrittura creativa come esercizio spirituale, Milano, Ares, 2023, 46-47.

[26] M. Proust, À la recherche du temps perdu. Le temps retrouvé, Paris 1954, Vol. III, 1041.

[27] A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 14.

[28] M. De Certeau, Il parlare angelico. Figure per una poetica della lingua (Secoli XVI e XVII), Firenze 1989, 139 s.

[29] Cfr. A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 16.

[30] C.S. Lewis, Lettori e letture. Un esperimento di critica, Milano 1997, 165.

[31] J. Cocteau – J. Maritain, Dialogo sulla fede, Firenze, Passigli, 1988, 56. Cfr. A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 11-12.

[32] P. Celan, Microliti, Milano 2020, 101.

 


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post دور الآداب في التّنشئة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
الألعاب الأولمبيّة تحمل السلام وليس الحرب https://ar.zenit.org/2024/07/23/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%85%d8%a8%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%aa%d8%ad%d9%85%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85-%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d8%a7/ Tue, 23 Jul 2024 12:37:48 +0000 https://ar.zenit.org/?p=73499 رسالة البابا إلى المونسنيور أولريتش رئيس أساقفة باريس

The post الألعاب الأولمبيّة تحمل السلام وليس الحرب appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
بتاريخ 27 حزيران 2024، وجّه البابا فرنسيس رسالة لرئيس أساقفة باريس المونسنيور لوران أولريتش لمناسبة انعقاد الألعاب الأولمبيّة في باريس بين 26 تموز و11 آب 2024، مُشيراً إلى أنّه يتّحد بنوايا القدّاس الذي سيحتفل به، كما أورد الخبر القسم الفرنسي من زينيت.

وأضاف البابا في رسالته أنّه يسأل الله أن يبارك جميع المشاركين في الألعاب، سواء كانوا رياضيّين أو مشاهدين، وأن يدعم مَن سيستقبلونهم، شاهدين بذلك على مجانية وكرم الاستقبال حيال الجميع، خاصّة المسيح الساكن في قلوبهم، ومُعبِّراً عن امتنانه لعدم نسيانهم الضعفاء والفقراء.

كما وتمنّى البابا في رسالته أن تكون هذه الألعاب الأولمبيّة مناسبة أخويّة تتخطّى الاختلافات وتوحّد الأمّة.

ثمّ أكّد الحبر الأعظم أنّ الرياضة لغة عالميّة تتجاوز الحدود واللغات والأعراق والجنسيّات والأديان، فيما توحّد الأشخاص وتحفّز الحوار والاستقبال المتبادَل والإخلاص في العلاقات، داعياً إلى أن يعترف كلّ إنسان بحدوده وبقيمة الآخرين، بما أنّ الألعاب الأولمبيّة قد تكون مكان لقاء استثنائيّاً بين الشعوب، حتّى الأكثر عدائيّة منها.

وفي الختام، تمنّى الأب الأقدس أن تكون الألعاب الأولمبيّة في باريس مناسبة لأن يكتشف المشاركون فيها ويقدّروا بعضهم البعض، وأن يُسقطوا الأحكام المُسبَقة، ويضعوا الصداقة حيث الحقد. “إنّ الألعاب الأولمبيّة تحمل السلام بطبيعتها، وليس الحرب… أتمّنى بشدّة أن يحترم الجميع الهدنة الأولمبيّة على أمل حلّ الصراعات والعودة إلى الوفاق. فليُشفق الله علينا، وليُنِر ضمائر الحكّام حيال مسؤوليّاتهم، وليُنجح فاعلي السلام في محاولاتهم”.

ثمّ منح البابا بركته الرسوليّة، عاهِداً بالألعاب إلى القدّيسة جنفياف والقدّيس دينيس شفيعَي باريس، وإلى سيّدة الانتقال شفيعة فرنسا.

The post الألعاب الأولمبيّة تحمل السلام وليس الحرب appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
استخدموا وسائل التواصل بدون البقاء في الحياة الافتراضيّة https://ar.zenit.org/2024/07/10/%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ae%d8%af%d9%85%d9%88%d8%a7-%d9%88%d8%b3%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d8%a7%d8%b5%d9%84-%d8%a8%d8%af%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%82%d8%a7%d8%a1-%d9%81%d9%8a/ Wed, 10 Jul 2024 06:58:36 +0000 https://ar.zenit.org/?p=73291 رسالة البابا لشباب رومانيا

The post استخدموا وسائل التواصل بدون البقاء في الحياة الافتراضيّة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
أجاب البابا فرنسيس على رسالة وجّهها (خلال منتصف شهر أيار) المشاركون الشباب في لقاء نظّمته أبرشيّة ياش في رومانيا، عبر الكاردينال بييترو بارولين (أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان)، كما أورد الخبر القسم الفرنسي من موقع “فاتيكان نيوز” الإلكتروني.

في التفاصيل، طلب البابا من الشباب في رسالته أن يكونوا “حملة رجاء وبنّائي جسور، مُستخدمين الأدوات المُتاحة لزرع الطيبة والمحبّة في العالم”. كما وشجّعهم أيضاً على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي “ببسالة وإبداع، مع نقل القِيم المُثمرة كالمحبّة والسلام والحوار بين الإثنيات والثقافات والقيم العائليّة والمسيحيّة”، حاثّاً الجميع على ألّا يُصبحوا عبيداً للهاتف المحمول وعلى ألّا يحتجزوا أنفسهم في الحياة الافتراضيّة، على حساب الحياة الحقيقيّة.

وأضاف الحبر الأعظم: “انطلقوا في العالم، التقوا الناس، أصغوا إلى قصصهم، وانظروا إلى عيون إخوتكم وأخواتكم. إنّ الغنى الحقيقي موجود في العلاقات البشريّة التي نعيشها كلّ يوم في صِلة مباشرة وصادقة”، مُشجِّعاً على المشاركة في اللقاء الوطني للشباب الذي سينعقد في مقاطعة براشوف خلال أيلول المقبل. “ستكون هذه مناسبة ثمينة للنموّ معاً في الإيمان، ولمشاطرة الاختبارات وتعزيز طريقكم المسيحي”.

وفي نهاية رسالته، طلب البابا الصلاة لأجله قائلاً: “إنّ دعمكم الروحي هبة لا تُقدَّر بثمن تساعدني على خدمة الكنيسة والبشريّة”.

The post استخدموا وسائل التواصل بدون البقاء في الحياة الافتراضيّة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
املأ قلبك بالرّجاء واعمل مع الخليقة https://ar.zenit.org/2024/06/28/%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%a3-%d9%82%d9%84%d8%a8%d9%83-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%91%d8%ac%d8%a7%d8%a1-%d9%88%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%84-%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%84%d9%8a%d9%82%d8%a9/ Fri, 28 Jun 2024 04:16:45 +0000 https://ar.zenit.org/?p=73136 رسالة البابا فرنسيس في اليوم العالمي للصّلاة من أجل العناية بالخليقة في الأوّل من شهر أيلول 2024

The post املأ قلبك بالرّجاء واعمل مع الخليقة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!

”املأ قلبك بالرّجاء واعمل مع الخليقة“: هذا هو موضوع يوم الصّلاة من أجل العناية بالخليقة، في الأوّل من أيلول/سبتمبر المقبل. الموضوع يشير إلى رسالة القدّيس بولس الرّسول إلى أهل رومة (8، 19-25)، حيث يوضِّح الرّسول ما معنى أن نحيا بحسب الرّوح، ويركّز على رجاء الخلاص الأكيد بالإيمان، وهو الحياة الجديدة في المسيح.

1. لنبدأ بسؤال بسيط، وقد لا يكون له جواب واضح: عندما نكون مؤمنين حقًا، ”ما معنى أن نكون مؤمنين“؟ ليس لأنّنا ”نؤمن“ بشيء فائق لا يقدر عقلنا أن يفهمه، وهو السّرّ البعيد المنال لإله بعيد، وغير مَرئِيٍّ ولا اسم له. بل يقول القدّيس بولس: “لأنّ الرّوح القدس يسكن فينا”. نعم، نحن مؤمنون لأنّ محبّة الله نفسها “أُفيضَت في قُلوبِنا” (رومة 5، 5). لذلك فإنّ الرّوح القدس هو الآن حقًا “عُربونُ مِيراثِنا” (أفسس 1، 14)، وهو مثل حافز لنحيا في شوق دائم إلى الخيرات الأبديّة، وفقًا لملء إنسانيّة يسوع بما فيها من جمال وصلاح. فالرّوح يجعل المؤمنين مبدعين، وناشطين في أعمال محبّة. ويضعهم في مسيرة كبرى للحرّيّة الرّوحية، لكنّها لا تخلو من الصّراع بين منطق العالم ومنطق الرّوح اللذين لهما ثمار متضاربة (غلاطية 5، 16-17). نحن نعلَم أنّ باكورة ثمر الرّوح، وخلاصة الثّمار كلّها، هي المحبّة. إذًا، بقيادة الرّوح القدس، المؤمنون هم أبناء الله ويمكنهم أن يتوجّهوا إليه وأن يدعوه “أَبًّا، يا أَبَتِ!” (رومة 8، 15)، تمامًا مثل يسوع، وفي حرّيّة الذين لن يعودوا إلى الوقوع في الخوف من الموت، لأنّ يسوع قام من بين الأموات. هذا هو الرّجاء الكبير: محبّة الله قد انتصرت، وتنتصر دائمًا وستنتصر مرّة أخرى. مصير المجد صار أكيدًا، بالرّغم من رؤيّة الموت الجسديّ، للإنسان الجديد الذي يعيش في الرّوح. وهذا الرّجاء لا يُخيِّب صاحبه أبدًا، كما يذكّرنا أيضًا مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل القادم [1].

2. حياة المسيحيّ هي حياة إيمان، نشطة في المحبّة، ومفعمة بالرّجاء، وتنتظر عودة الرّبّ يسوع في مجده. ”تأخُّر“ ظهور الرّبّ في المجيء الثّاني ليس مشكلة. السّؤال هو آخر: “متى جاءَ ابنُ الإِنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟” (لوقا 18، 8). نعم، الإيمان هو عطيّة، وثمرة حضور الرّوح فينا، ولكنّه أيضًا واجب نقوم به بحرّيّة، في الطّاعة لوصيّة المحبّة التي أوصى بها يسوع. هذا هو الرّجاء المبارك الذي نشهد له: أين؟ ومتى؟ وكيف؟ داخل مآسي الجسد البشريّ المتألّم. إن كان الإنسان يحلم، عليه الآن أن يحلم بعيون مفتوحة، تملأها رؤى الحبّ والأخوّة والصّداقة والعدل للجميع. الخلاص المسيحيّ ينفذ في عمق آلام العالم، الذي لا يشمل البشر فقط، بل الكون كلّه، الطّبيعة نفسها، بيت الإنسان، وبيئته الحيويّة. ويصوّر الخليقة على أنّها ”الفردوس الأرضيّ“، الأرض الأم، والتي ينبغي أن تكون مكانًا للفرح والوعد بالسّعادة للجميع. التّفاؤل المسيحيّ يقوم على رجاء حيّ: فهو يعرف أنّ كلّ شيء يؤول إلى مجد الله، وإلى الكمال النّهائي في سلامه، وإلى قيامة الجسد في البِرّ، ”من مجد إلى مجد“. ومع ذلك، ففي الوقت الذي يمرّ، نتقاسم الألم والمعاناة: الخَليقَةُ جَمعاء تَئِنُّ (راجع رومة 8، 19-22)، والمسيحيُّون يَئِنُّون (راجع الآيات 23-25)، والرّوح نفسه يَئِنُّ (راجع الآيات 26-27). الأنين يبيِّن القلق والألم، مع التَّوق والرّغبة. والأنين يعبِّر عن الثّقة بالله والثّقة برفقته الحنونة والمتطلّبة، لتحقيق خطته التي هي فرح ومحبّة وسلام في الرّوح القدس.

3. الخليقة كلّها تشملها عمليّة الولادة الجديدة هذه، وتَئِنُّ، وتنتظر التّحرّر: إنّه نمو خفيّ ينضج، إنّه مثل ”حبّة الخردل التي تصبح شجرة كبيرة“ أو مثل ”الخميرة في العجين“ (راجع متّى 13، 31-33). البدايات صغيرة، لكن النّتائج المتوقّعة يمكن أن تكون ذات جمال فائق. مثل انتظار ولادة، – هكذا يكون ظهور أبناء الله – الرّجاء هو إمكانيّة البقاء ثابتين في وسط الشّدائد، وألّا نصاب بالإحباط في أوقات الضّيقات أو أمام همجيّة الإنسان. الرّجاء المسيحيّ لا يُخيِّب صاحبه أبدًا، ولا يملأهم بالأوهام: إنّ أنين الخليقة والمسيحيّين والرّوح هو استباق وانتظار للخلاص الذي بدأ وهو يعمل فينا منذ الآن، إلّا أنّنا الآن مغمورون في آلام كثيرة وصفها القدّيس بولس بأنّها ”شِدَّةٌ وضِيقٌ واضْطِهادٌ وجُوعٌ وعُرْيٌ وخَطَرٌ وسَيْف“ (رومة 8، 35). فعلى هذا يكون الرّجاء قراءة بديلة للتّاريخ والأحداث الإنسانيّة: فهو ليس أوهامًا، بل واقع، إنّها واقعيّة الإيمان الذي يَرَى ما لا يُرَى. وهذا الرّجاء ينتظر بصبر، مثل إبراهيم الذي لم يرَ ما سيأتي. يروق لي أن أذكر ذلك المؤمن والرّائي الكبير، جواكينو دا فيوري (Gioacchino da Fiore)، رئيس دير كالابريا ”ذو الرّوح النّبويّة“، كما قال فيه دانتي أليغييري [2]: في زمن صراعات دمويّة، وصراع بين البابويّة والإمبراطوريّة، وفي زمن الحروب الصّليبيّة، والبدع وروح الدّنيا في الكنيسة، استطاع جواكينو دا فيوري أن يرشد إلى مثال روح جديدة للحياة بين النّاس، على أساس الأخوّة الشّاملة والسّلام المسيحيّ، ثمرة لحياة بموجب الإنجيل. وقد اقترحْتُ روح الصّداقة الاجتماعيّة والأخوّة العالميّة هذه في الرّسالة العامّة، ”كلّنا إخوة“ (Fratelli tutti). هذا الانسجام بين البشر يجب أن يمتدّ أيضًا إلى الخليقة، في ”وجود مركَّزٍ على الإنسان“ (راجع دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، 67)، مع حسّ بالمسؤوليّة تجاه بيئة بشريّة ومتكاملة، تكون طريقًا إلى خلاص بيتنا المشترك وإلى خلاصنا نحن الذين نعيش فيه.

4. لماذا يوجدُ شرٌّ كثير في العالم؟ ولماذا يوجدُ ظلمٌ كثير، وحروبٌ كثيرة بين الأشقّاء، تُميت الأطفال، وتُدَمِّر المُدن، وتلوّث بيئة حياة الإنسان، وتدنّس وتخرّب أمّنا الأرض؟ قال القدّيس بولس وقد أشار إشارة ضمنيّة إلى خطيئة آدم، قال: “فإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ الخَليقَةَ جَمْعاءَ تَئِنُّ إِلى اليَومِ مِن آلامِ المَخاض” (رومة 8، 22). ارتبط جهاد المسيحيّين الأخلاقيّ ”بأنين“ الخليقة، لأنّها “أُخضِعَت لِلباطِل” (الآية 20). الكون كلّه وكلّ مخلوق يَئِنُّ ويتوق ”بفارغ الصّبر“ حتّى يمرّ الوضع الحاليّ ويعود إلى الوضع الأصليّ: في الواقع، تحرُّر الإنسان يستلزم أيضًا تحرُّر المخلوقات الأخرى كلّها التي تضامنت مع الحالة الإنسانيّة ووضعت تحت نير العبوديّة. مثل البشريّة، الخليقة مُستعبَدة – دون أيّ ذَنبٍ لها -، وتجد نفسها غير قادرة على أن تقوم بما صُمِّمَت من أجله، أي أن يكون لها معنى وهدف دائم، فهي عُرضة للانحلال والموت، وهذا يتفاقم بسبب إساءة الإنسان للطّبيعة. لكن، عكس هذا الواقع، فإنّ خلاص الإنسان في المسيح هو أيضًا رجاء أكيد للخليقة: “لأَنَّ الخَلِيقَةَ هي أَيضًا ستُحَرَّرُ مِن عُبودِيَّةِ الفَسادِ لِتُشارِكَ أَبناءَ اللهِ في حُرِّيَّتِهم ومَجْدِهم” (رومة 8، 21). وهكذا يمكننا أن نرى في فداء المسيح رباط التّضامن بين الإنسان وسائر المخلوقات.

5. في انتظارنا الثّابت والمليء بالرّجاء لعودة يسوع المجيدة، الرّوح القدس يسهر على الجماعة المؤمنة ويرشدها باستمرار، ويدعوها إلى التّوبة في أنماط حياتها، لكي تقاوم التّدهور البشريّ للبيئة وتبيّن النّقد الاجتماعيّ الذي هو أوّلًا شهادة على إمكانيّة التّغيير. هذه التّوبة تتمثّل في الانتقال من غطرسة الذين يريدون السّيطرة على الآخرين وعلى الطّبيعة – وتحويلها إلى شيء يمكن التّلاعب به – إلى تواضع الذين يهتمّون بالآخرين وبالخليقة. “الإنسان الذي يدَّعِي بأنّه يحلّ محلّ الله يصير هو أكبر خطر على نفسه” (سبِّحوا الله، 73)، لأنّ خطيئة آدم دمّرت العلاقات الأساسيّة التي يعيش بها الإنسان: العلاقة مع الله، ومع نفسه ومع البشر الآخرين، ومع الكون. يجب إعادة تحديد هذه العلاقات كلّها، بشكل متناسق، وحفظها، و”تصحيحها“. لا يجوز أن يغيب أيّ عنصر من العناصر السّابقة، فإن غاب واحدٌ فشَلَ كلّ شيء.

6. أن نملأ قلبنا بالرّجاء ونعمل مع الخليقة يعني قبل كلّ شيء أن نوحّد جهودنا، ونسير معًا، مع كلّ الرّجال والنّساء أصحاب الإرادة الصّالحة، ونساهم في “إعادة التّفكير معًا في قضيّة قُدرة الإنسان: ما معناها؟ وما هي حدودها؟ لأنّ قدرتنا زادت بشكل محموم في غضون بضعة عقود فقط. لقد حقّقنا تقدّمًا تكنولوجيًّا باهرًا ومذهلًا، ولا ندرك أنّنا في الوقت نفسه أصبحنا كائنات شديدة الخطورة، قادرة على أن تعرّض للخطر حياة العديد من الكائنات وتهدِّد بقاءنا نفسه” (سبِّحوا الله، 28). القوّة غير المضبوطة تولِّد الوحوش وتنقلب ضدّنا. لذلك، من الملحّ اليوم أن نضع حدودًا أخلاقيّة على تطوّر الذّكاء الاصطناعيّ، الذي يمكن أن يُستَخدَم، بسبب قدرته على الحسابيات وعلى التّمثيل، للسّيطرة على الإنسان وعلى الطّبيعة، بدل أن يكون في خدمة السّلام والتّنمية المتكاملة (راجع رسالة اليوم العالمي للسّلام 2024).

7. “الرّوح القدس يرافقنا في الحياة”: فَهِمَ الأطفال هذه الجملة جيّدًا، الذين اجتمعوا في ساحة القدّيس بطرس في يومهم العالميّ الأوّل، والذي تزامن مع أحد الثّالوث الأقدس. الله ليس فكرة مجرّدة لا صورة لها، بل هو أبٌ مُحبّ، وابن وصديق وفادٍ لكلّ إنسان، وروحٌ قدُسٌ يرشد خطواتنا على طريق المحبّة. الطّاعة لروح المحبّة تغيّر تصرّف الإنسان بشكل جذريّ: من ”مُفترس“ إلى ”مُزارع“ للحديقة. الأرض أُعطيت للإنسان، لكنّها تبقى لله (راجع الأحبار 25، 23). هذه هي المركزيّة البشريّة اللاهوتيّة للتّقليد اليهوديّ المسيحيّ. لذلك، إن حاولنا أن نمتلك الطّبيعة ونسيطر عليها، ونتلاعب بها كما نرغب، فهذا شكلٌ من أشكال عبادة الأصنام. هذا هو الإنسان على مثال بروميثيوس بغروره، والمنتشي بقوّته التكنوقراطيّة، وهو الذي يضع الأرض بغطرسته في حالة ”يائِسَة“، أي بدون نعمة الله. الآن، إن كانت نعمة الله هو يسوع، الذي مات وقام من بين الأموات، فإنّ ما قاله البابا بندكتس السّادس عشر صحيح: “ليسَ العلمُ الذي يفديَ الإنسان. بل المحبّة هي التي تفديه” (الرّسالة العامّة بالرّجاء مخلَّصون، 26)، محبّة الله في المسيح، التي لا يمكن لأيّ شيء أو أحد أن يفصلنا عنها (راجع رومة 8، 38-39). الخليقة مشدودة باستمرار إلى مستقبلها، وليست غير متحركة أو منغلقة على نفسها. واليوم، بفضل اكتشافات الفيزياء المعاصرة، تظهر العلاقة بين المادّة والرّوح بجاذبيّة أشدّ وهي دائمًا في ازياد.

8. إذًا، حماية الخليقة هي مسألة ليس فقط أخلاقيّة، بل أيضًا لاهوتيّة وبامتياز: فهي مسألة التّرابط بين سرِّ الإنسان وسرِّ الله. ويمكننا أن نقول إنّ هذا التّرابط يؤدّي إلى ”ولادة“، بما أنّه يسمو ويعلو حتّى يبلغ حبّ الله الذي يخلق الإنسان في المسيح. عمل الله الخالق هذا يعطي ويؤسّس عمل الإنسان الحرّ، وكلّ الطّابع الأخلاقيّ فيه: فهو حرٌّ لكونه مخلوقًا على صورة الله الذي هو يسوع المسيح، ولهذا فهو ”ممثّل“ الخليقة في المسيح نفسه. هناك دافع سبّبي أعلى من الإنسان (لاهوتيّ-أخلاقيّ) يُلزم المسيحيّ بأن يعمل للعدل والسّلام في العالم، وذلك بالتّوجيه العام للخيرات: إنّه ظهور أبناء الله الذي تنتظره الخليقة، وهي تَئِنُّ كمثل الأنين في يوم المخاض. الموضوع ليس فقط حياة الإنسان الأرضيّة في هذا التّاريخ، بل هو خاصّة مصيره في الأبديّة، هو السّعادة الأبديّة، وفردوس سلامنا، في المسيح ربّ الكون، المصلوب والقائم من بين الأموات حبًّا لنا.

9. أن نملأ قلبنا بالرّجاء ونعمل مع الخليقة يعني إذًا أن نعيش الإيمان المتجسّد، الذي يعرف كيف يدخل في جسد النّاس الذين يتألّمون ويرجون، مشاركين معهم انتظارهم قيامة الجسد، وهم الموجَّهون إليها منذ البدء بيسوع المسيح. في يسوع، ابن الله الأزليّ الذي صار جسدًا، نحن حقًّا أبناء الآب. بالإيمان والمعموديّة تبدأ حياة المؤمن بحسب الرّوح القدس (راجع رومة 8، 2)، حياة مقدّسة، وحياة أبناء للآب، مثل يسوع (راجع رومة 8، 14-17)، لأنّه بقوّة الرّوح القدس، المسيح يحيا فينا (راجع غلاطية 2، 20)، حياة تصير نشيد محبّة لله، وللبشريّة، ومع الخليقة ومن أجلها، وتجد ملئها وكمالها في القداسة. [3]

روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، يوم 27 حزيران/يونيو 2024.

فرنسيس

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024


[1]  الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025 (9 أيار/مايو).

[2] Divina CommediaParadiso, XII, 141.

[3]وقد عبَّر عنها الكاهن الرّوسميني كليمنتي ريبورا بطريقة شعريّة، قال: “بينما تصعد الخليقة في المسيح إلى الآب، / في المصير الخفيّ/ كلّ شيء هو ألم الولادة: /كم من الموت حتّى أن تولد الحياة! / من أمّ وحيدة، إلهيّة، /تتمّ الولادة بفرح: /الحياة التي يعطيها الحبّ بالدّموع، / والشّوق، في هذه الدّنيا شعر؛ / لكن القداسة وحدها تكمل النّشيد” ( Curriculum vitae, “Poesia e santità”: Poesie, prose e traduzioni, Milano 2015, p. 297).


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

The post املأ قلبك بالرّجاء واعمل مع الخليقة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
إن لم تترجم الصلاة بعمل ملموس، فهي باطلة https://ar.zenit.org/2024/06/14/%d8%a5%d9%86-%d9%84%d9%85-%d8%aa%d8%aa%d8%b1%d8%ac%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%a9-%d8%a8%d8%b9%d9%85%d9%84-%d9%85%d9%84%d9%85%d9%88%d8%b3%d8%8c-%d9%81%d9%87%d9%8a-%d8%a8%d8%a7%d8%b7%d9%84/ Fri, 14 Jun 2024 19:04:06 +0000 https://ar.zenit.org/?p=72968 اليوم العالمي للصلاة من أجل الفقير

The post إن لم تترجم الصلاة بعمل ملموس، فهي باطلة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>
اختار البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الثامن للفقراء عنوانًا مميزًا لهذه السنة المخصصة للصلاة ولمناسبة اليوبيل العادي للعام 2025: “صلاة الفقير تصل إلى قلب الله” (سي 21: 5).

بهذا الخيار، ذكّر أنّ للفقراء مكانة مخصّصة في قلب الله المتيقّظ والقريب من كلّ واحد منهم. الله يسمع صلاة الفقراء وإزاء الألم، يتوق لكي يحقق العدالة.

سيترأّس الأب الأقدس القداس الإلهي في 17 تشرين الثاني في بازيليك القديس بطرس وسيتبعه غداء تقليدي مع الفقراء من تنظيم دائرة المحبة. أما الأسبوع الذي يسبق اليوم فكلّ الجماعات الرعوية والأبرشية في العالم هي مدعوّة لكي تخصص للفقراء أنشطتهم الرعوية.

وكان البابا في رسالته التي نشرها يوم الخميس 13 حزيران 2024، أن ذكّر أنّ هذا اليوم هو فرصة لندرك وجود الفقراء في مدننا وفهم احتياجاتهم مذكّرًا “بالفقراء الجدد” الذين يولدون من عنف الحروب. أوضح أنّ الصلاة يجب أن تجد حقيقتها في المحبة الملموسة. “إن لم تترجم الصلاة بعمل ملموس، فهي باطلة…” من جهة أخرى، قد تتحوّل المحبة بدون صلاة إلى عمل خيري سرعان ما ينفد. هذا هو الإرث الذي تركه العديد من القديسين في التاريخ، مثل القديسة تريزا من كالكوتا التي رددت دائمًا أنّ الصلاة هي المكان الذي تستمدّ منه الإيمان والقوّة لخدمة الفقراء.

وضرب البابا فرنسيس أيضًا مثال القديس الفرنسي بينوا جوزبف لابري (1748 – 1783) الذي كرّس حياته لخدمة الفقراء وذكر بامتنان العديد من الأشخاص الذين يخصّصون وقتهم للإصغاء والدعم لأفقر الفقراء. إنها وجوه ملموسة، من خلال مثالهم، “يسمعون إجابة الله لصلاة الذين يلجأون إليه”.

وفي الختام، دعا البابا الجميع أن يولوا انتباهًا روحيًا أكثر جدية تجاه الفقراء.

The post إن لم تترجم الصلاة بعمل ملموس، فهي باطلة appeared first on ZENIT - Arabic.

]]>