Index

29/09/2021-17:56

د. سميرة يوسف

الملائكة: الأرواح السمائية

«ها أَنا مُرسِلٌ أَمامَكَ مَلاكاً لِيَحفَظَكَ في الطَّريق […] فتَنَبَّهْ لَه وآسمَعْ […] لأَنَّ إسْمي فيه» (خر 23: 20- 21)

المقدّمة

الصلاة الملائكية، هي التي تجمع الكثيرين من المؤمنين في ساحة القديس بطرس كل أحد ويقودها قداسة البابا. الأعياد الكنيسة التي تهتم بـ “عيد رؤساء الملائكة (جبرائيل، روفائيل، ميخائيل)” الذي نحتفل به بالتاسع والعشرين من شهر سبتمبر من كل عام، وعيد الملائكة الحُراس في الثاني من شهر أكتوبر هو السبب الذي دفعني للتعمق ولتدّوين هذا المقال. بلاإضافة لتساؤل الكثير من الكهنة والعلمانيين عن دور الملائكة وهل هي بالفعل موجودة أم يُشار إليها رمزيًا في الكتب المقدسة؟ لذا أرغب، من خلال دراستي هذه، في تقديم بعض الملامح الكتابية التي تساعدنا على فهم دور الملائكة كتابيًا وأصلهم وكيف تستمر رسالتهم اليوم كمعاونين وحاملين الرسائل الإلهية للنا نحن البشر. في هذا المقال سنناقش ثلاث نقاط: ظهور الملائكة بالعهد القديم؛ ثم بالعهد الجديد وأخيراً اليوم كيف نكتشف قوة حضورهم غير المرئي، بناء على الإستنادات الكتابية، في وقتنا المُعاصر.

  1. الملائكة في العهد القديم (تك 3: 24)

أول إشارة كتابية للملائكة نجدها مُحررة بسفر التكوين، وتعلن عن أول حضور عن الأوراح السمائية أي الملائكة. كشف لنا كاتب سفر التكوين عن ملائكة الله بالإسم “الكروبين” مُشيراً إلى عمل إلهي فبعد أن خرج أول زوجين من العدن: «أَقامَ [الله] شَرقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الكَروبين وشُعلَةَ سَيْفٍ متقلِّبٍ لِحِراسةِ طَريقِ شَجَرَةِ الحَياة». الكروبين، منذ البدء يتميزون بدور جوهري وهو “الحراسة”. في البدء ظهر في حراسة شجرة الحياة بحسب الأمر الإلهي. إلا أن حراستهم لم تنقطع فأستمرت بحضورها الفريد بمرافقة الملائكة لكل البشرية. حتى اليوم، يتم تكرّيمهم مِن قِبلّ الكنيسة بلَقَّبْ “الحُرّاسْ” أي خدام الإهتمام الإلهي لكل إنسان، منذ ولادته وحتى موته إذ تحيط بحمايتها حياته باستمرار. هذا بخلاف الحضور الحي للملائكة في كثير من نصوص العهد القديم على سبيل المثال راجع تك 19. 28؛ 2صم 14. 19؛ طو 11. 12؛ أش 6؛ زك 1؛ مز 8. 77؛ حك 19؛ … .

في العهدين أن الأدوار الملائكية كثيرة وأهمها “توصيل الرسائل الإلهية” من قِبل الرّب لشعب أو لشخص ما. على سبيل المثال موسى: «فتَراءى لَه مَلاكُ الرَّبِّ في لَهيبِ نارٍ مِن وَسَطِ عُلَّيقَة» (خر 3: 2). لذا أودّ أن أتوقف معكم قليلاً على الدور المتميز لملاك الرب بسفر الخروج. بعد إتمام العبور والإحتفال بالفصح العبري ونوال نعمة الكلمات العشر (الشريعة). في أثناء وجود الشعب بالصحراء إذ نسمع صوت الرّب، بينما يعطي إرشادات خاصة للتهيئة للدخول إلى أرض كنعان، قائلاً لموسى: «ها أَنا مُرسِلٌ أَمامَكَ مَلاكاً لِيَحفَظَكَ في الطَّريق ويأَتِيَ بِكَ إِلى المَكانِ الَّذي أَعدَدتُه. فتَنَبَّهْ لَه وآسمَعْ صَوتَه ولا تَتَمَرَّدْ علَيه، فإِنَّه لا يَصفَحُ عن مَعصِيِتَكم، لأَنَّ إسْمي فيه. فإِن سَمِعتَ صَوتَه وعَمِلتَ بِكُلِّ ما أَتكَلَّمُ به، عادَيتُ أَعداءكَ وخاصَمتُ مُخاصِميكَ. لأَنَّ مَلاكي يَسيرُ أَمامَكَ» (23: 20- 23). سنتوقف من خلال هذا النص على ثلاث سمات وصف بهما الرّب ملاكه وهنَّ:

الأولى: “مُرسل مِن لّدُّن الرّب” إذن الرتب الملائكية بالرغم من دورها الخاص وتمتعها بالقرب من العرش الإلهي والمجد الأبدي فهي غير حرة لتتخذ قراراتها بل خاصغة لأوامر الرّب لتحمل رسائله. الثانية: “حفظ الإنسان والمرافقة” وعد الرب منذ البدء بحماية الإنسان من الشر وعدو الخير، لذا دور الملائكة هو المرافقة للجنس البشري وحفظهم ليصلوا إلى المكان المهيأ لهم مِن قِبلْ الرّب. وهذا يكشف لنا جوهرية رسالتهم المتعلقة بالتواصل مع البشريين كاشفًا لهم عن المخطط الإلهي بل يقودهم ليتمموه بحياتهم الأرضية.

الثالثة: “معاونة الإنسان لملائكة الرّب” الرب يبادر بحماية كل الإنسان، خليقته، إلا إن واجب الإنسان أن يتعاون مع عمل الرب من خلال ملائكته، الحاملين إسمه القدوس، ويمثلون حضوره الإلهي ويصبحون وكلائه. إذن من خلال إنتباه الإنسان للرَّب والإصغاء لملائكته والتحلي بروح المرونة فيما يكشفه من أسرار إلهية. وأيضًا الإنسان مدعو بدوره للطاعة فالملاك الذي يسير قائداً مسيرة عودة الإنسان إلى إلله مُتممًا ما كشفه الرب من خلاله. بالفعل هذا الكشف كان بالعهد القديم إلا إنه إستمر بالعهد الجديد إلا إنه كُشِفَ بشكل أكثر وضوحًا.

  1. الملائكة في العهد الجديد

تستمر الأرواح السمائية بحمل الرسالة الإلهية أيضًأ لبعض مِن شخصيات العهد الجديد كدور أساسي. مما يشير لفَّرادّة وإستمرارية ذات الدور الملائكي بالعهد القديم. على سبيل المثال في حوار زكريا الكاهن مع ملاك الرب المُعلن إجابته: «أَنا جِبرائيلُ القائِمُ لدى الله، أُرسِلتُ إليكَ لأُكلِّمَكَ وأُبَشِّرَكَ بِهذه الأُمور» (لو 1: 19). هذا الحوار مع زكريا أب يوحنا المُعمدّ الذي هيأ تقديم يسوع للعالم. هناك الكثير من الشخصيات الكتابية التي أرسل الرّب ملاكه لهم كالرعاة في لو 2: 15. راجع بعض النصوص بحسب مت 1. 28؛ يو 5. 12؛ أع 5. 7. 10؛ 2كو 11؛ 1تيم 1؛ رؤ 1. 2؛ … .

  1. بدء الخلاص برسالة ملائكية

      إلا أن الجديد لعالمنا اليوم يتضح في أن الرّب كشف سره لمريم “أم إبنه المستقبلي- حامل الخلاص الأبدي” مستخدمًا ذات الروح السمائية فيبشرنا لوقا بـ “الحوار”: «في الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ […] إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم» (لو 1: 26- 27). وأيضًا دور ملاك الرّب مع شخص يوسف، الذي نحتفل هذا العام به، وهو بمثابة الأب يسوع الأرضي. وهنا لم تتحاور الروح السمائية مع يوسف بل تمت رسالتها في شكل “حلم” يروي الإنجيلي: «تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له …» (مت 1: 20). ومنذ تواصل ملاك الرب بمريم ويوسف تجسد المخطط الخلاصي وبدء خلاص الإبن يدخل عالمنا البشري. إلا أن نقطة الإنطلاق هي الملاك الذي كشف سر الله لمريم ويوسف.

     الجديد في جوهرية دور الملاك بحمله رسالة قلبت حياة مريم ويوسف رأسًا على عقب، لحمل الرسالة التي غيّرت وجه التاريخ البشري وهي ولادة “إبن الله”. من خلال قبول والديّ يسوع، رسالة الرَّب بحوار ملاكه، مع مريم وترائيه بالحلم مع يوسف إكتشفنا أن الرّب لا زال يرغب في مرافقتنا ليس فقط من خلال ملائكته الحُراسّ وحاملين رسالته بل في إبنه “يسوع” الذي صار هو رسالة الحب الإلهي المتجسدة لأجلنا. والغريب أن رسالة الأنبياء والمبشرين قد إنتهت منذ تجسد يسوع إلا أن رسالة الملائكة إستمرت مع يسوع ذاته منذ بدء رسالته العلنية (راج مر 1) وحتى قيامته المجيدة (راج مت 28؛ مر 16؛ لو 24؛ يو 20). وقد أعلن يسوع لأتباعه بالإستعداد عند مجئيه الثاني سيتم مع ملائكته: «متى جاءَ في مَجدِه ومَجدِ الآبِ والمَلائِكَةِ الأَطهار» (لو 9: 25- 26). يسوع بعد أن تذوقنا في قيامته التحليق إلى المجد السماوي يدعونا اليوم للإستمرار في تبعيته ملتجأين لحماية الملائكة المرافقين له في مجئيه الثاني. مما يدعونا في الحديث عن “الملائكة” يعني الإقتناع بأن عالمنا الأرضي مليء في كل مكان بحضور الله الحي وأن هذا الحضور موجه لكل فرد منا كقوة تدعونا وتحمينا.

       في يومنا هذا يستمر حضور العمانوئيل أي الله معنا إلى منتهى الأيام ومرافقة ملائكته كــ “حُراس” لقلوبنا لئلا تنحرف عن طريق الخير وتسلك في طرق مُضادة. تجسد المسيح لم يُوقف دور الملائكة بحياتنا بل يقوي هذا الإنفتاح على العالم الإلهي الغير مرئي بحضور عذب يُنشط نقل الحياة الأرضية ويهدئ من مهابة الإنسان منها. فيصير حضور الأرواح السمائية نسمات ترافق البقاء المستمر للعمانوئيل. بحشب ما أعلنه البابا بنديكتوس السادس عشر بنظرة لاهوتية جديدة موضحًا إنه: “يُصور المسيح القائم من الأموات مُحاطًا بالملائكة التي تُحلق حوله. إعتقدت أن هؤلاء الملائكة يمكنهم التحليق للعُلا لأنهم غير موجودين في جاذبية الأشياء المادية للأرض، ولكن في جاذبية حب القائم من بين الأموات؛ وأننا [كبشريين] نستطيع التحليق لأعلى إذا خرجنا قليلاً من جاذبية المادة ودخلنا الجاذبية الجديدة وهي حب القائم من الأموات”.

الخلاّصة

أختتم مقالي عن الأرواح السمائية مشيرة إلى قول كاتب سفر المزامير الذي كثيراً ما تخطأ بعض الترجمات في إستبدال كلمة ملائكة بالآلهه: «ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟ دونَ الملائكة حَطَطتَه قَليلاً بِالمَجدِ والكَرامةِ كلَّلتَه» (مز 8: 5- 6). فالإنسان عظيم في نظر الله خالقه، لذا لم يكتفي بالمخلوقات التي أعدها له في الخمس أيام الأولى قبل خلقه باليوم السادس بل منحه الملائكة كأرواح سمائية تُمجد وتسبح الله في مجده وتحمل رسائله إلى عالمنا البشري فتصير لنا وسيلة للتواصل مع العالم الإلهي وكشف أسراره. قرر الله أن يخلق الإنسان وجعل الملائكة الخاضغة للرب (اتيم 3: 16) لتكشف إهتمام الرّب بالإنسان. هذا يدعونا اليوم أن ننفتح للتعمق في قبول رسائل الرّب من ملائكته التي تحيط بنا أو تتواصل بداخلنا فتُجمل قلوبنا بنسمات إلهية وتسمح لنا بالدخول في العالم الإلهي بينما لازلنا بعد نحيا في العالم الأرضي. الملائكة هي الأرواح السمائية التي تقودنا نحو ما هو لله وما هو خيرّ ويعده الرب بيده في محططه. إذن فلنسبح الرب مع الأرواح السمائية بقلب بنوي يحمل مشاعر بشرية.

د. سميرة يوسف سيداروس (باحثة في لاهوت الكتاب المقدس)

Print Friendly, PDF & Email

29/09/2021-14:35

الخوري سامر الياس

الوصيّة الثانية من الوصايا السبع لعائلة سعيدة

لكل بيت “حشمته”، لكل بيت “قدسيّته”، لكل بيت أسراره. مشكلة العصر، بأنه لم يعد هناك ما يعرف “بخصوصية البيت”، الكل يتدخل بأمور البيت، من أقارب وأصدقاء، الكل يدخل ويعطي آراءه أو “يبخّ سمومه” ويرحل. الكلّ يدخل ويعطي من خبرته، وتحاليله لأمورنا الخاصة. وأتى اليوم “عالم الفايسبوك” وكسر “قدسيّة أسرار البيت” من نشر الصور والأخبار والتعليقات وإلخ. كل هذه الأمور، حولتنا إلى “أشخاص متعرّين من الداخل، فارغين، لا نملك شيئً خاص بنا”. لا أحد يحق له الدخول إلى مملكة “أهل البيت”، لا يحق لأحد أن “يضع الأحكام في هذه المملكة” إلا أصحاب البيت. “لا ترموا جواهركم للخنازير، فإنها تدوس عليها وترتدّ عليكم”، وتذّكروا دائمًا ليس الكل يتمنّى لكم السعادة والسلام، وليس الكل فرحين “بنجاحكم”، البعض ينتظر الفرصة للدخول وتحطيمها، فإجعلوا من عتبة بيتكم “خط أحمر” لكل كلام الناس.
كما هناك أمر لا بدّ لفت النظر إليه، وهو من الأخطاء الكبيرة التي يقع بها بعض الأهل. هذا الخطأ هو عدم فصل هموم خارج البيت عن أهل البيت، أي عدم فصل “العمل” عن البيت. فيأتي الرجل من العمل جالبًا معه كل “الغضب، والتشاؤم وإلخ” فيدخل بهم إلى بيته بدل تركهم على عتبة البيت، فينتقم من أولاده ومن زوجته، وهم “البريئين” من هذا الغضب. لا تدخلوا مشاكل “العمل” إلى البيت، ولا تجلبوا “العمل” إلى البيت، العمل “لا ينتهي” ولكن الأشخاص الذين يحيطونني بالبيت “سينتهون يومًا ما” وعندئذٍ لن ينفع “البكاء وصريف الأسنان”.
(يتبع)
لقراءة الجزء الأوّل: https://ar.zenit.org/2021/09/28/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b5%d8%a7%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%b9-%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%a6%d9%84%d8%a9-%d8%b3%d8%b9%d9%8a%d8%af%d8%a9-2/
Print Friendly, PDF & Email

29/09/2021-14:41

ZENIT Staff

البابا: المسيح، بقوّة نعمته، يُبرّرنا

9. الحياة في الإيمان

الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!

في مسيرتنا لفهم تعليم القدّيس بولس بشكلٍ أفضل، نلتقي اليوم بموضوع صعب ولكنّه مهم، ألّا وهو التبرير. ما هو التبرير؟ نحن، من خطأة، صرنا أبرار. من جعلنا أبرارًا؟ إنّ مسيرة التغيّير هذه هي التبرير. نحن أبرار أمام الله. هذا صحيح، لدينا خطايانا الشخصية، لكنّنا في جوهرنا نحن أبرار. هذا هو التبرير. كان نقاش كثير في هذا الموضوع، للتوصل إلى التفسير المتَّسق مع فكر الرّسول. وكما يحدث غالبًا، فقد تناقضت المواقف. ألحّ بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، وكذلك في الرسالة إلى أهل رومة، على أنّ التبرير يأتي من الإيمان بالمسيح. ”ولكنّني بار لأني أتمّم جميع الوصايا!“. نعم، لكن التبرير لا يأتي من هذا، إنّه يأتي أولاً: مِن شخص ما برّرك، مِن شخص ما جعلك بارًا أمام الله. ”نعم، لكنّني خاطئ!“. أنت بار، لكنّك خاطئ، وبار في جوهرك. من جعلك بارًا؟ يسوع المسيح. هذا هو التبرير.

ما الذي يختفي وراء كلمة “تبرير”، حتى تكون حاسمة جدًا للإيمان؟ ليس من السّهل الوصول إلى تعريف شامل لها، ولكن في مجمل فكر القديس بولس، يمكن أن نقول ببساطة إنّ التبرير هو نتيجة “رحمة الله التي تقدّم المغفرة” (التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1990). هذا هو إلهنا، هو صالح جدًا ورحيم وصبور ومليء بالرّحمة، ويمنح المغفرة باستمرار. إنّه يغفر، والتبرير هو الله الذي يغفر لكلّ واحد منذ البدء في المسيح. رحمة الله تمنح المغفرة. في الواقع، بموت يسوع -وهذا يجب أن نعطيه أهمية: بموت يسوع- انتصر الله على الخطيئة ومنحنا المغفرة والخلاص بطريقة نهائية. وإذ أصبحنا مبرّرين، استقبل الله الخطأة وصالحهم. وهذا يشبه العودة إلى العلاقة الأصليّة بين الخالق والخليقة، قبل تمرّد الخطيئة. وبالتالي، فالتبرير الذي يصنعه الله، يتيح لنا باستعادة البراءة المفقودة بسبب الخطيئة. كيف يحدث التبرير؟ الجواب على هذا السؤال يدعونا إلى أن نكتشف شيئًا جديدًا آخر في تعاليم القديس بولس وهو: أنّ التبرير يحدث بالنعمة. فقط بالنعمة: لقد أصبحنا مبرّرين بالنعمة النقية. ”لكنّني لا أستطيع، كما يفعل أحد ما، أن أذهب إلى القاضي وأدفع مقابل أن أحصل على البرّارة؟“. لا، في هذا لا يمكنك أن تدفع، فقد دفع واحد عنا جميعًا وهو: المسيح. ومن المسيح الذي مات من أجلنا تأتي تلك النعمة التي أعطاها الآب للجميع وهي: التبرير يحدث بالنعمة.

يفكر الرّسول دائمًا في الخبرة التي غيّرت حياته: اللقاء مع يسوع القائم من بين الأموات على طريق دمشق. كان بولس رجلاً فخورًا بنفسه ومتديِّنًا وغيورًا، ومقتنعًا بأنّ البرّارة هي في التقيّد الصّارم بالوصايا. والآن، أصبح خاضعًا للمسيح، والإيمان بالمسيح غيّره في أعمق أعماقه، فسمح له أن يكتشف حقيقة كانت خافية عليه حتى الآن وهي أنّنا: لا نصير أبرارًا بجهودنا، لا: لا نصير، ولكن المسيح هو الذي يجعلنا أبرارًا بنعمته. إذّاك، من أجل الحصول على معرفة كاملة لسرّ يسوع، استعد بولس أن يتخلى عن كلّ ما كان غنيًّا به من قبل (راجع فيلبي 3، 7)، لأنّه اكتشف أنّ نعمة الله فقط هي التي خلصته. لقد أصبحنا مبرّرين، ونلنا الخلاص بالنعمة النقية، وليس باستحقاقاتنا. وهذا يعطينا ثقة كبيرة. نحن خطأة، نعم، لكنّنا نسير في طريق الحياة بنعمة الله هذه التي تبرّرنا في كلّ مرة نطلب فيها المغفرة. لكنّ الله لا يبرّر في تلك اللحظة: نحن مبرّرون من قبل، لكن الله يأتي ليغفر لنا مرة أخرى.

الإيمان في نظر الرسول له قيمة شاملةٌ كلَّ شيء. إنّه يشمل كلّ لحظة وكلّ جانب من جوانب حياة المؤمن: من لحظة المعموديّة إلى لحظة مغادرة هذا العالم، كلّ شيء مَلِيءٌ بالإيمان بموت يسوع وقيامته من بين الأموات والذي يعطي الخلاص. التبرير بالإيمان يشير إلى أولويّة النعمة التي يمنحها الله للذين يؤمنون بابنه دون أي تمييز.

ومع ذلك، يجب ألّا نستنتج أنّ شريعة موسى لم يعد لها قيمةً بحسب بولس، بل إنّها تبقى عطية من الله لا يمكن إلغاؤها، وهي “مُقَدَّسة” (رومة 7، 12) كما كتب الرسول. كذلك بالنسبة لحياتنا الرّوحية، يجب المحافظة على الوصايا، ولكن حتى في هذا لا يمكننا أن نعتمد على قوتنا: نعمة الله التي ننالها في المسيح هي أساسيّة، تلك النعمة التي تأتي إلينا من التبرير الذي منحنا إياه السّيّد المسيح، والذي دفعه من قبل من أجلنا. منه ننال الحبّ المجاني الذي يسمح لنا، بالمقابل، أن نحبّ بطريقة عمليّة.

في هذا السياق، من الجيّد أيضًا أن نتذكّر التّعليم الذي يأتي من الرّسول يعقوب، الذي كتب: “تَرَونَ أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بِالأَعمالِ لا بِالإِيمانِ وَحدَه -يبدو عكس ذلك، ولكنّه ليس العكس-. […] فكَما أَنَّ الجَسَدَ بِلا رُوحٍ مَيت فكذلِكَ الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيت” (يعقوب 2، 24. 26). إذا لم يظهر التبرير مع أعمالنا، فسيكون هناك، تحت الأرض، كما لو كان ميتًا. التبرير موجود، ولكن يجب أن نحققه من خلال عملنا. وهكذا تُكَمِّل كلمات يعقوب تعليم بولس. لذلك، فإنّ جواب الإيمان لكليهما يتطلب أن نكون فعّالين في محبّة الله ومحبّة القريب. لماذا ”فعّالين في تلك المحبّة“؟ لأن تلك المحبّة خلصتنا جميعًا، وبرّرتنا بمجانيّة!

التبرير يدخلنا في تاريخ الخلاص الطويل، والذي يبيّن عدالة الله: أمام سقوطنا المستمر في الخطيئة ونواقصنا، الله لم يستسلم، بل أراد أن يجعلنا أبرارًا وقد فعل ذلك بالنعمة، بإعطائنا يسوع المسيح، وبموته وقيامته من بين الأموات. قلت أحيانًا ما هي طريقة الله في العمل، وما هو أسلوبه، وقلت ذلك في ثلاث كلمات: أسلوب الله هو القرب والرّحمة والحنان. إنّه قريب منا دائمًا، وهو عطوف وحنون. والتبرير بالتحديد هو القرب الأكبر والرّحمة الأكبر والحنان الأكبر من الله إلينا، نحن الرجال والنساء. التبرير هو نعمة المسيح، وبموت المسيح وقيامته جعلنا أحرارًا. ”لكن، يا أبتِ، أنا خاطئ، لقد سرقت…“. نعم، ولكن في جوهرك أنت بار. دع المسيح يحقّق هذا التبرير. نحن لسنا مدانين في جوهرنا، لا: نحن أبرار. اسمحوا لي بالكلمة: نحن قديسون في جوهرنا. وبأفعالنا نصير خطأة. لكن في جوهرنا نحن قديسون: دعوا نعمة المسيح تأتي إلينا وتلك البرّارة، وهذا التبرير يعطينا القوّة للاستمرار. وهكذا، فإنّ نور الإيمان يسمح لنا أن ندرك كم هي لامتناهية رحمة الله، النعمة التي تعمل لخيرنا. لكنّ النور نفسه يجعلنا أيضًا نرى المسؤولية الموكولة إلينا للتعاون مع الله في عمله الخلاصي. قوّة النعمة تحتاج إلى أن تتحّد مع أعمال الرّحمة التي نقوم بها، والتي نحن مدعوون إلى أن نعيشها لنشهد كم هي عظيمة محبّة الله. لنمضِ قُدُّماً بهذه الثقة: لقد بُرّرنا جميعًا، نحن أبرار في المسيح. يجب أن نحقّق هذا التبرير من خلال عملنا.

*******

 

قِراءةٌ مِن رِسالَةِ القِدّيسِ بولس الرَّسول إلى أهلِ غلاطية (2، 19-20)

[أَيُّها الإخِوَة]، قَدْ صُلِبتُ مَعَ المَسيح. فَما أَنا أَحْيا بَعْدَ ذَلِك، بَلِ المَسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنْتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وَجادَ بِنَفْسِهِ مِن أَجْلي.

كلامُ الرَّبّ

*******

Speaker:

تَكَلَّمَ قَداسَةُ البابا علَى التَّبْريرِ في إطارِ تَعْلِيمِهِ في الرِّسالَةِ إلى أَهْلِ غَلاطية. قال: أَشارَ بولسُ إلى أنَّ التَّبْريرَ يأتي مِنَ الإيْمانِ بالمَسيح. التَّبْريرُ هُوَ نَتِيَجَةُ رَحْمَةِ اللهِ التي تُقَدِّمُ المَغْفِرَة. بِمَوْتِ يَسوع، انْتَصَرَ اللهُ علَى الخَطيئَةِ وَمَنَحَنا المَغْفِرَةَ والخَلاص. وإذْ أَصْبَحْنا مُبَرَّرِين، اسْتَقْبَلَنا اللهُ وَصالَحَنا. وَهذا ما حَدَثَ مَعَ بُولس نَفْسِهِ عِنْدَما التَقَى مَعَ المَسيح وَآمَنَ بِهِ، إذَّاكَ اكْتَشَفَ أَنَّنا لا نُبَرَّرُ بِجُهُودِنا، بَلْ بِنِعْمَةِ المَسيح. الإيْمانُ بِمَوتِ يَسوعَ وَقِيامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأمْواتِ هُوَ الذي يُبَرِّرُنا وَيُخَلِّصُنا. وَأَضافَ قَداسَتُهُ: مَعَ ذَلِك، يَجِبُ أَلَّا نَسْتَنْتِجَ أنَّ شَريعَةَ مُوسَى لَمْ يَعُدْ لَها قِيمَةٌ، بَلْ هِيَ عَطِيَةٌ باقِيَةٌ مِنَ اللهِ لا يُمْكِنُ إلغاؤُها، وَهِيَ مُقَدَّسَة، كَما قالَ القِدِّيسُ بُولس. كَذَلِكَ بالنِسْبَةِ لنا، يَجِبُ أنْ نُحافِظَ علَى الوَصايا، وَلَكِنْ تَبْقَى نِعْمَةُ اللهِ التي نَنالُها في المَسِيحِ هِيَ الأَساسِيَّة. وَمِنَ الضَّرُوريّ أَيْضًا أَنْ نَتَذَكَّرَ كَلامَ الرَّسولِ يعقوب الذي قال: الإِيْمانُ بِلا أَعْمالٍ مَيِّت. فالإيْمانُ يَتَطَلَّبُ مَحَبَّةَ اللهِ والقَريب. واخْتَتَمَ قَداسَةُ البابا تَعْليمَهَ وَقال: أَمامَ سُقُوطِنا المُسْتَمِرِ في الخَطيئَةِ وَنَواقِصِنا، الله لَمْ يَسْتَسْلِمْ، بَلْ أَرادَ أَنْ يَجْعَلَنا أَبْرارًا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بالنِعْمَة، بإِعْطائِنا يَسوعَ المَسيح، وَبِمَوْتِهِ وَقِيامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوات.

*******

 

Speaker:

أُحيِّي المُؤْمِنِينَ الناطِقِينَ باللُغَةِ العَرَبِيَّة. نُورُ الإيْمانِ يَسْمَحُ لَنا أَنْ نُدْرِكَ كَمْ هِيَ لامُتَناهِيَة رَحْمَةُ الله، النِعْمَةُ التي تَعْمَلُ لِخَيْرِنا. لَكِنَّ النُورَ نَفْسَهُ يَجْعَلُنا أَيْضًا نَرَى المَسْؤُولِيَةَ المَوْكُولَةَ إليْنا لِلْتَعاوُنِ مَعَ اللهِ في عَمَلِهِ الخَلاصِي. بارَكَكُم الرَّبُّ جَميعًا وَحَماكُم دائِمًا مِنْ كُلِّ شَرّ!

*******

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Print Friendly, PDF & Email

29/09/2021-14:23

ندى بطرس

البابا للفوكولاري: الوحدة ليست إجماعاً

“الوحدة التي أعطانا إيّاها يسوع ويُعطينا إياها ليست إجماعاً، ولا تعني أن نكون متّفقين مهما كان الثمن”: هذا ما أكّده البابا فرنسيس خلال لقائه مع الأساقفة أصدقاء حركة الفوكولاري يوم السبت 25 أيلول 2021، في قاعة البابوات في القصر الرسولي في الفاتيكان. وهي حركة تتمتّع بروحانيّة عُرِفَت بتعزيز الوحدة، كما كتبت الزميلة إيلين جينابا من القسم الفرنسي في زينيت.

وقد أشار البابا في الكلمة التي ألقاها على مسامع زوّاره إلى أنّ “الوحدة تخضع لمعيار أساسيّ، ألا وهو احترام الشخص، احترام وجه الآخر، خاصّة الفقير والصغير ومَن هو مُستَبعَد. ليست وحدة خارجيّة، بل اتّحاداً. الوحدة تتطلّب شجاعة وجرأة”.

ثمّ مُذكِّراً بأنّ روحانيّة كيارا لوبيك، مُؤسِّسة الفوكولاري، كانت “معنى وخدمة الوحدة”. وأشار البابا إلى الصلة الواضحة بين هذه الروحانية وكهنوت الأساقفة الذين هم “في خدمة شعب الله كي ينهض في وحدة الإيمان والرجاء والمحبّة”.

Print Friendly, PDF & Email

29/09/2021-14:10

فيكتوريا كيروز عطيه

الثّالثيّ هو جنديّ، سلاحه الصّليب، وهو راهب دون أن يترك العالم

ما أراده هو إصلاح المجتمع المسيحيّ بواسطة العلمانيين..

أمضى العمر يسعى ليخطّ المجتمع، والوطن بالإصلاح ، والمحبّة… أفنى أيّامه ساعيًا ليوقّع على جبهة الإنسان، برسم الصّليب، وباسم المسيح…

هذا ما أراده أبونا يعقوب…

أراد إنسانًا ذا فضائل تقوده إلى طريق القداسة…أراد إنسانًا حيًّا يتنشّق حياةً من نفَس الإنجيل الحيّ…

إنطلاقًا من مدارسه، سعى أبونا يعقوب إلى جمع أهالي المتعلّمين، ليختار منهم نخبةً تشكّل الرّهبنة الفرنسيسكانيّة الثّالثة للعلمانيين. هذه الرّهبنة أسّسها القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، والتّي من خلالها، أراد أن يشجّع الإنسان على عيش الفضائل، والأعمال الصّالحة، والمحبّة الأخويّة، والاغتناء بالكتاب المقدّس، وعيش العدالة، والسّلام، والتّوبة، والابتعاد عن الفساد…

آمن أبونا يعقوب أنّ الثّالثيّ هو جنديّ سلاحه الصّليب، لمحاربة العالم، لا بالهرب إلى الأديرة، بل في الميدان… يمكنني أن أعيش كراهب بدون أن أترك العالم… الثّالثيّ في العالم كالنّفس في الجسد ، ليمنعه من الفساد.

نعم.. إنّ إصلاحَ المجتع متوقّفٌ على كلّ منّا…

نعم ..كلّنا قادرون لأنّ الله معنا كما كان مع ” أبونا يعقوب”، وغيره وغيره من القديسين…

نعم … الكتاب المقدّس هو خير دليلٍ، ومرشدٍ، ومربٍّ…

بكلمة الرّبّ، نمحو الفساد، سلاحنا الصليب، ودرعنا  الحبّ…

بكلمة الرّبّ نحيا نذور رهبنة الفرح، والإيمان، والسّلام…

لنصغِ إلى صوت الرّبّ، لم يملَّ يومًا من الوقوف على أبواب قلوبنا لمناداتنا…

لنكن مع الرّبّ، كما هو معنا…

لنحيَ فرح كلمته، عندها نبني السّلام، والإيمان… عندها نبني الإنسان…

Print Friendly, PDF & Email