* * *
أربعاء الرماد مدخل الصوم
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
نبدأ هذا اليوم، يوم أربعاء الرماد، كما في كل عام، مسيرة الصوم مدفوعين بروح صلاة وتأمل، وتوبة وصوم أعمق. ندخل في هذا الزمن الليتورجي “القوي”، الذي إذ يحضرنا للاحتفال بالفصح – قلب ومحور السنة الليتورجية وكامل وجودنا – يدعونا، لا بل يمكننا القول، يدفعنا إلى وسم وجودنا المسيحي بزخم ثابت.
تسقطنا الالتزامات والمتاعب والهموم في أشراك العادة، وتعرضنا لخطر تناسي روعة المغامرة التي يشركنا فيها يسوع، ولذا علينا كل يوم أن نبدأ من جديد مسيرة حياتنا الإنجيلية المتطلبة، من خلال الرجوع إلى نفوسنا عبر وقفات تنعش الروح.
من خلال طقس رش الرماد القديم، تدخلنا الكنيسة في زمن الصوم عبر ما يشبه رياضة روحية تدوم 40 يومًا.
فلندخل إذَا في مناخ الصوم الذي يساعدنا على إعادة اكتشاف هبة الإيمان التي تلقيناها بالمعمودية، والتي تدفعنا إلى التقرب من سر المصالحة، واضعين التزامنا بالتوبة تحت علامة الرحمة الإلهية. في البدء، كان زمن الصوم في الكنيسة القديمة الزمن المميز لتحضير الموعوظين لأسرار المعمودية والافخارستيا التي كان يتم الاحتفال بها عشية الفصح.
كان زمن الصوم يعتبر الزمن الذي يصير فيه المرء مسيحيًا. وهذه الصيرورة لم تكن تتحقق في هنيهة واحدة، بل كانت تتطلب مسيرة طويلة من التوبة والتجدد.
وكان المعمدون أيضًا ينضمون إلى هذه التحضيرات ليتذكروا السر الذي تلقوه، ويستعدوا لشركة متجددة مع المسيح في الاحتفال الفرح بالفصح. وهكذا كان زمن الصوم وما زال يحتفظ بطابع المسيرة إلى المعمودية، بمعنى أنه يساعد على الحفاظ على الوعي بأن الكيان المسيحي يتحقق دومًا من خلال صيرورة مسيحية متجددة: ليست أبدًا تاريخًا ماضيًا نرميه وراء ظهورنا، بل هي مسيرة تتطلب دومًا ممارسة جديدة.
يقول المحتفل عندما يضع الرماد على الجباه: “اذكر أنك تراب وأن إلى التراب تعود” (راجع تك 3، 19)، أو يكرر تحريض يسوع: “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (راجع مر 1، 15).
يشكل كلا التعبيرين نداءً إلى حقيقة الوجود الإنساني: نحن خلائق محدودة، وخاطئة، ونحتاج دومًا إلى التكفير والتوبة. ما أهم الإصغاء لهذا النداء والإذعان له في أيامنا هذه! كم هو مهم أن نصغي وأن نتقبل هذا النداء في زمننا هذا! عندما يعلن الإنسان المعاصر استقلاليته المطلقة عن الله، يصبح عبدًا لذاته، وغالبًا ما يجد نفسه في عزلة بائسة. الدعوة إلى التوبة إذًا هي حثٌّ للرجوع إلى ذراعي الله، الآب الحنون والرحيم، إلى الثقة به، والاتكال عليه كأبناء بالتبني ولدوا من جديد بفضل حبه.
بروح تربوي حكيم تردد الكنيسة بأن التوبة هي قبل كل شيء نعمة، وهبة تفتح القلب إلى طيبة الله اللامتناهية. فهو نفسه يسبق برحمته توقنا إلى التوبة ويرافق جهودنا نحو مطابقة كاملة لإرادته الخلاصية. التوبة تعني إذًا السماح ليسوع أن يجذبنا (راجع فيل 3، 12) و “الرجوع” معه نحو الآب.
التوبة تعني إذا أن يضع المرء نفسه بتواضع في مدرسة يسوع والسير بطواعية في إثره. في هذا الإطار، تتضمن نورًا باهرًا كلمات يسوع نفسه عندما يشير هو نفسه إلى الشروط لكي يكون المرء تلميذًا حقيقيًا. بعد أن صرح بأن “من أراد أن يخلص حياته سيخسرها؛ ومن خسر حياته من أجلي ومن أجي الإنجيل، سيخلصها”، يضيف: “ما ينفع الإنسان أن يربح العالم بأسره إذا خسر نفسه” (مر 8، 35 – 36).
هل يؤدي النجاح والطمع بالشهرة والسعي وراء الرفاهية حقًا إلى السعادة عندما يمتصون الحياة وصولاً إلى حذف الله من الأفق الشخصي؟ هل من الممكن تواجد سعادة حقة بمعزل عن الله؟ تشير الخبرة إلى أن المرء لا يبلغ إلى السعادة عبر إشباع التوقعات والحاجات المادية. في الواقع، الفرح الوحيد الذي يملأ القلب البشري هو ذلك الفرح الآتي من الله: فنحن بحاجة إلى فرح لا متناهي. لا الاهتمامات اليومية ولا مصاعب الحياة تستطيع أن تطفئ الفرح الذي يولد من الصداقة مع الله. تبدو دعوة يسوع إلى حمل الصليب وإلى اتباعه في أول الأمر قاسية ومناقضة لما نريده، ومميتة لشوقنا إلى تحقيق الذات. ولكن النظر عن كثب يساعدنا على أن نكتشف بأن الأمر ليس كذلك: تبرهن شهادة القديسين على أنه في صليب المسيح، في الحب الذي يهب نفسه، متخليًا عن ملكية الذات، يكمن السلام العميق الذي هو منبع التزام نحو الإخوة، وخصوصًا الفقراء والمعوزين. وهذا الأمر يمنح الفرح إلينا أيضًا. تضحي مسيرة التوبة في زمن الصوم الذي نبدأه اليوم مع كل الكنيسة مناسبة مؤاتية، “زمنًا مرضيًا” (راجع 2 كور 6، 2) لتجديد استسلامنا البنوي في أيدي الله ولعيش ما يردده يسوع علينا: “إذا أراد أحد أن يتبعني فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني” (مر 8، 34)، وبهذا الشكل ينطلق في سبيل الحب والفرح الحقيقي.
تعرض الكنيسة في زمن الصوم، مرددةً صدى الإنجيل، بعض أبعاد الالتزام التي ترافق المؤمنين في مسيرة التجدد الداخلي هذه: الصلاة، والصوم والصدقة. في الرسالة بمناسبة زمن الصوم لهذه السنة، والتي صدرت منذ بعض الأيام، أردت أن أتوقف على ممارسة الصدقة، التي تشكل سبيلاً عمليًا لمساعدة المحتاجين، وفي الوقت عينه هي ممارسة تقشفية للتحرر من التعلق بالخيرات الأرضية” (عدد 1).
نعرف للأسف تأثير الغنى المادي الذي اجتاح أعماق المجتمع الحديث. كتلاميذ يسوع المسيح، نحن مدعوون إلى عدم تأليه الخيرات الأرضية، بل إلى استخدامها كوسائل للعيش ولمساعدة الآخرين الذين يعانون الحاجة.
من خلال نصحها بأعمال الصدقة، تع
لمنا الكنيسة بأن نهتم بحاجات القريب اقتداءً بيسوع الذي كما يشير القديس بولس، صار فقيرًا ليغنينا بفقره (راجع 2 كور 8، 9). “في مدرسة يسوع – كتبتُ أيضًا في الرسالة – يمكننا أن نتعلم أن نجعل من حياتنا هبة كاملة؛ من خلال الاقتداء به نستطيع أن نصير جاهزين، لا أن نعطي فقط شيئًا نملكه، بل أن نهب ذواتنا”. وأضفت: “أفليس الإنجيل بكامله يختصر بوصية المحبة الوحيدة؟ إن ممارسة الصدقة تصبح وسيلة للتعمق في دعوتنا المسيحية. المسيحي عندما يقدم ذاته مجانا يشهد أن المحبة، وليس الغنى المادي، تملي شرائع الوجود” (عدد 5).
أيها الإخوة والاخوات الاعزاء، نطلب إلى العذراء، أم الله وأم الكنيسة، أن ترافقنا في مسيرة الصوم، لكي يكون مسيرة توبة نصوح. فلنسمح له أن تقودنا فنصل، وقد تجددنا داخليًا إلى الاحتفال بسر فصح المسيح العظيم، الذي هو الإعلان الأسمى عن حب الله الرحيم.
صوم مبارك للجميع!
(ترجمة روبير شعيب)