“إن الصدقة، بحسب الإنجيل، ليست مجرّد إحسان تجاه البشر”
الفاتيكان، الجمعة 29 فبراير 2008 (ZENIT.org). – بناء على طلب بعض القراء الأعزاء، ننشر من جديد رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر لمناسبة زمن الصوم المجيد المؤرخة في 30 أكتوبر والتي أصدرها الفاتيكان بتاريخ 29 من يناير.
* * *
رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر لمناسبة زمن الصوم 2008
“المسيح افتقر لأجلكم” (2قور 8، 9)
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
1. في كل عام، يقدّم الصوم المجيد لنا فرصةً من صنع العناية الإلهية لنتعمّق بمعنى حياتنا المسيحية وقيمتها وحافزاً نكتشف من خلاله مرةً جديدة رحمة الله، فنصير بدورنا أكثر رحمةً تجاه إخوتنا وأخواتنا. وفي زمن الصوم، تأخذ الكنيسة على نفسها مهمة اقتراح بعض الواجبات المحددة الملموسة التي يُفترَض أن ترافق المؤمن في مسيرته نحو التجدد الداخلي وهي: الصلاة والصوم والصدقة. وفي رسالة الصوم لهذا العام، أودّ أن أخصّص بعض الوقت للتأمل في فعل تقديم الصدقة الذي يشكل طريقةً لمساعدة المحتاجين، وفي الوقت ذاته، تمرّساً في الزهد بذاتنا كيما نتحرّر من التعلّق بالخيور الزمنية. كم هي قوية تجربة انجذابنا إلى الثروات المادية وكم من المهمّ أن تكون قراراتنا حازمة لكي لا تتحول أصناماً! هذا ما يؤكده يسوع بلهجة حاسمة حين يقول: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (لو 16، 13). إن الصدقة تساعدنا على تجاوز هذه التجربة المستمرة إذ تعلّمنا أن نلبّي حاجات القريب ونتقاسم مع الآخرين ما وهبتنا الطيبة الإلهية. هذا ما تهدف إليه حملات جمع التبرعات الخاصة بالفقراء التي تُنظَّم خلال زمن الصوم في مناطق عديدة من العالم. فبذلك، تترافق عملية التطهر الداخلي مع فعل شراكة كنسية، على مثال ما حصل في الكنيسة الأولى. ويتطرق القديس بولس إلى هذه المسألة في رسائله في حديثه عن حملات جمع الهبات المنظمَة من أجل جماعة أورشليم (راجع 2قور 8-9؛ روم 15، 25-27).
2. بحسب تعليم الإنجيل، لسنا بملاّك للخيور التي بحوزتنا بل نحن وكلاء عليها: وهي بالتالي يجب ألا تُعتبَر ملكاً “خاصاً” بنا، وإنّما وسيلةً يدعو الربّ من خلالها كل واحد منّا ليكون خادماً لعنايته المقدسة بالنسبة إلى قريبه. وكما يذكّرنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فإن الخيور المادية تكتسب قيمةً إجتماعيةً، وفقاً لمبدأ غايتها الكونية (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2404). وتحذير يسوع واضح في الإنجيل إلى من يملكون خيرات دنيوية يسخّرونها لخدمتهم الخاصة. فإزاء الكثيرين الذين لا حول لهم ولا قوة ويعانون الجوع، تدوّي كلمات القديس يوحنا توبيخاً قاسياً حين يقول: “من كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه فكيف تقيم محبة الله فيه؟” (1يو 3، 17). والنداء إلى المشاركة يتخذ بعداً أكثر إلحاحاً في الدول ذات الأغلبية المسيحية لأن مسؤوليتها أكبر تجاه الكثيرين ممن يعيشون في الفقر والتهميش. إن مساعدة هؤلاء هو واجب تفرضه العدالة قبل أن يكون فعل محبة.
3. إن الإنجيل يلقي الضوء على ما يميز الصدقة المسيحية: عليها أن تؤدّى في الخفية. يقول يسوع: “لا تدع شمالك تعلم ما تفعل يمينك ، لتكون صدقتك في الخفية” (متى 6، 3-4). وقد سبق ذلك مباشرةً قوله أنه ينبغي ألا نعمل الصالحات بمرأى من الناس فلا يكون لنا أجرٌ في السماوات (راجع متى 6، 1-2). بل الأجدى بالتلميذ أن يقوم بكل ما أوتي ليتمجّد إسم الله. وهنا يحذّر يسوع قائلاً: “فليُضئ نوركم هكذا للناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 5، 16). إذاً كلّ أعمالنا يجب أن تكون موجهةً لتمجيد إسم الله وليس لمجدنا نحن. فلتعوا ذلك، أيها الإخوة والأخوات، في كل فعل تقومون به لمساعدة القريب، ولتحذروا استخدام عملكم وسيلة لاستقطاب الإهتمام من حولكم. فإن كنا في الأعمال الصالحة التي نؤدي لا نتوخى مجد الله وخير إخوتنا وأخواتنا الحقيقي، بل نسعى في المقابل وراء المصالح الشخصية أو استحسان الآخرين، فنحن إذ ذاك خارج روح الإنجيل. وفي مجتمعنا اليوم القائم على الصورة والمظاهر، ينبغي أن نبقى حذرين لأن هذه التجربة كبيرة. فالصدقة الإنجيلية ليست مجرّد إحسان تجاه البشر بل تعبير حسي عن المحبة، وفضيلة إلهية تتطلب ارتداداً داخلياً إلى محبة الله والإخوة، أسوةً بيسوع المسيح الذي بموته على الصليب بذل كل ذاته لأجلنا. فكيف لا نشكر الله على كل الذين، في الخفية وبعيداً عن أضواء عالم الإعلام، يؤدّون بهذه الروحية أعمالاً سخية لدعم أشخاص في العوز؟ ولا نفع من إعطاء ما نملك للآخرين إن كان القلب سيمتلئ مجداً باطلاً: ولهذا السبب، فإن الذي يدرك أن الله الذي “يرى في الخفية” وفي السرّ سيجازيه لا يتوخى استحسان الآخرين وتقديرهم لقاء أعمال الرحمة التي يقوم بها.
4. والكتاب المقدس، من خلال دعوتنا إلى اعتبار الصدقة بنظرة أعمق تتجاوز البعد المادي الصرف، إنما يعلّمنا أن السعادة الكبرى في العطاء لا في الأخذ (راجع أعمال الرسل 20، 35). فعندما تحرّك المحبة أعمالنا، نعبّر عن حقيقة كياننا: فنحن لم نُخلق من أجل ذواتنا بل خُلقنا في سبيل الله والإخوة (راجع 2قور 5، 15). وفي كل مرة نتقاسم فيها خيراتنا مع قريب لنا في العوز، محبةً بالله، نكتشف أن الحياة تكتمل في المحبة وأن كل ما أعطينا يعود علينا بركة سلام ورضى داخلي وفرح. وأبونا الذي في السماوات يجازينا على أعمال الصدقة التي نؤديها بمنحنا فرحه. بل وأكثر: فم
ن بين ثمار الصدقة الروحية، يذكر القديس بطرس ثمرة غفران الخطايا فيكتب: “المحبة تستر كثيراً من الخطايا” (1 بط 4، 8). وكما تردد ليتورجية الصوم باستمرار، فإن الله يعطينا نحن الخطأة إمكانية أن تُغفر لنا خطايانا. فمقاسمة ما لنا من خيرات مع الفقراء يخوّلنا الحصول على هذه النعمة. ويذهب فكري في هذه اللحظات إلى كل الذين يثقل كاهلهم عبء الشر الذي صَدَرَ عنهم وبسببه بالتحديد أصبحوا يشعرون ببعدهم عن الله، وبالخوف وبعدم القدرة على اللجوء إليه. والصدقة، إذ تقرّبنا من الآخرين، تقرّبنا من الله، حتى إنها تصبح وسيلة ارتداد حقيقي ومصالحة معه ومع الإخوة.
5. الصدقة تعلّمنا ثقافة المحبة السخية. لقد كان القديس يوسف-بندكتس كوتّولنغو يقول موصياً: “إحذروا عدّ النقود التي تعطونها، لأني أقول وأكرر: إن كان عليك ألا تدع شمالك تعلم ما تفعل يمينك إذا تصدّقتَ، فيمينك أيضاً يجب ألا تعلم بما تفعله هي بدورها” (Detti e pensieri، إديليبري، 201). وكم من معانٍ في هذا الصدد تحملها رواية الأرملة في الإنجيل، التي رغم فقرها وعوزها ألقَت في خزانة الهيكل “من حاجتها كل ما تملك، كل رزقها” (مر 12، 44). فيصبح فلسها البخس الذي لا قيمة له رمزاً ولا أبلغ: لأن هذه الأرملة أعطت الله لا من الفاضل عن حاجاتها ولا ما تملك، بل ما هي عليه، قُل ذاتها بكاملها. ويأتي هذا المقطع المؤثر من الإنجيل في وصف الأيام التي تسبق مباشرةً آلام المسيح وموته الذي، وكما يكتب القديس بولس، افتقر لأجلنا وهو الغنيّ لنغتني بفقره (راجع 2قور 8، 9)؛ لقد وهبنا ذاته بكليّتها. وزمن الصوم يحثنا من خلال فعل الصدقة أيضاً على السير على خطاه. ففي مدرسته نتعلّم كيف نجعل حياتنا عطاء كاملاً. فبالإقتداء به نصبح مستعدّين لا لإعطاء جزء مما نملك وحسب، وإنما لبذل ذاتنا بكاملها أيضاً. أوَلا يجوز بحقّ اختصار الإنجيل برمّته في وصية المحبة وحدها؟ إن فعل الصدقة في زمن الصوم يصبح بالتالي وسيلةً للتعمق في رسالتنا المسيحية. فعندما يبذل المسيحي ذاته مجاناً يشهد على أن المحبة ذاتها وليس الخيور المادية ما يحدد قوانين وجوده. فالمحبة إذاً هي ما يعطي الصدقة قيمتها وهي ما يشكل مصدر إلهام لأشكال مختلفة من العطاء، وفق إمكانيات كل واحد منا وظروفه.
6. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن زمن الصوم يدعونا إلى أن “نتمرّس” في الأعمال الروحية، من خلال فعل الصدقة أيضاً، كيما ننمو في المحبة ونرى المسيح في وجوه الفقراء. نقرأ في أعمال الرسل أن الرسول بطرس توجه إلى المقعد منذ مولده المضجع على باب الهيكل يلتمس الصدقة فقال له: “لا فضة عندي ولا ذهب، ولكنّي أعطيكَ ما عندي: بإسم يسوع المسيح الناصريّ امشِ” (رسل 3، 6). فبفعل الصدقة نقدّم شيئاً مادياً كعربون للعطية الأكبر التي يمكننا تقديمها للآخرين من خلال التبشير بالمسيح والشهادة له، هو من بإسمه تكون الحياة الحقيقية. فليحملنا هذا الزمن على بذل مجهود شخصي وجماعي لإتمام مشيئة المسيح لكي نكون شهوداً لمحبته. ونسأل مريم أم الرب وخادمته الأمينة أن تساعد المؤمنين على خوض “معركتهم الروحية” في هذا الصوم المبارك متسلّحين بالصلاة والصوم وفعل الصدقة، كيما يبلغوا احتفالات الفصح المجيد بروح جديدة. وإنّي بهذه الأمنيات، أمنحكم جميعاً بركتي الرسولية.
أُعطي في الفاتيكان، في 30 أكتوبر 2007
بندكتس السادس عشر
(ترجمة ميرنا تابت)