* * *
1. الكنيسة في حالة ارسال دائم من المسيح الربّ الى كلّ الشعوب، لتبني ملكوته في المجتمعات البشريّة. وستلاقي مثله الرفض والاضطهاد والنعوت المُسيئة وعدم الاكتراث. فيدعو رعاتها وشعبها للتحلّي بفضائل ثلاث: حكمة الحيّات، ووداعة الحمام، والصبر بالرجاء. ويؤكِّد تأييده لهم بنعمته وبأنوار روحه القدّوس. ولذا يُوجّه اليهم قوله الصريح: “ها انا أرسلكم كالخراف بين الذئاب”.
2. يُسعدنا أن تُحيي قداس هذا الاحد جامعة بني ضو في لبنان بمناسبة يوبيلها الماسي، لمرور خمس وسبعين سنة على تأسيسها (1937- 2012)، بفروعها الستّة وعائلاتها المُتحدِّرة منها. فالفروع الاساسية تحمل أسماء أولاد ضو الكبير الستّة: سعد وعلم ومسعد وثابت ونعمه وضو الصغير حامل اسم والده. ينتمي الى هذه الفروع خمسون عائلة متحدّرة منها. وقد شاءت عمدة الجامعة مشكورة أن تُتوِّج قداديسها السنوية الجامعة بقداس في كنيسة الكرسي البطريركي، احتفاءً باليوبيل.
إننا نُهنّئ جامعة بني ضو رئيساً وعمدة وأعضاء بنعمة اليوبيل، ونقدِّم معهم ذبيحة الشكر لله على كل الخير الذي أفاضه على أبناء العائلة وبناتها، وعلى كل الوجوه التي اعلت شأنها في الكنيسة والمجتمع والوطن. نسأله أن يُبارك أعضاء هذه الجامعة لتظلّ ملتزمة بإيمانها ووحدتها وعطاءاتها المتنوِّعة.
3. إنَّ اليوبيل دعوة وقفة وجدانية والتزام: دعوة للفرح بسبب الاستمرارية في حياة الجامعة وتواصل نشاطها وعطائها ووقفة محاسبة مع الذات حول الامانة لهدفها الأساسي وهو وحدة اعضائها دونما تمييز لأي اعتبارٍ آخر. والتزام متجدِّد بالاهداف الأربعة التي من أجلها أُنشئت، وهي: رفع شأن العائلة على مختلف الأصعدة، جمع شملها ونشر تراثها، شدّ روابط التعاون والتضامن بين أبنائها شرقاً وغرباً، الاحتفال بقداس سنوي جامع للعائلة بأسرها. انّنا نُثني على ما تقوم به الجامعة من نشاطات لبلوغ هذه الأهداف، أكانت دينية ام اجتماعية ام ترفيهيّة. ونرى فيها مساهمة كبيرة في المحافظة على النسيج اللبناني والوطني، القائم على العيش معاً باحترام متبادل ومحبة وتعاون. ما أحوجنا الى أمثالها من الجامعات والجمعيّات والرابطات والتجمّعات، الثقافية والاجتماعية، التي تُشكّل خلايا أساسية لوحدة المجتمع ونموّه وتوحيد كلمته وضمّ جهوده، بعيداً عن التقوقع والانغلاق على الذات، ومنعاً للخلافات والنزاعات، ورفضاً لاعتماد العنف والتقاتل، وشجباً لحمل السلاح واللجوء اليه. ومما تُثنَى عليه الجامعة هو أنها تترك لكل عضو فيها حرية خياراته الشخصيّة، السياسية والحزبية. بالمطلوب أن يصبّ الكل في الوحدة والمحبة والتضامن والتعاون.
نسأل الله أن يُبارك هذه الجامعة، رئيساً وعمدةً وأعضاء، مع الرؤساء والعمدات السابقين، بفيض من نعمه وبركاته، لتظلّ تجمعكم على كل ما هو حقّ وخير وجمال. ونسأله أن يفتح أمام أجيالهم الطالعة مستقبلاً مُطَمئناً في الوطن اللبناني، وأن يُثبّت كباركم في الخير والنموّ الانساني والاجتماعي الشامل، وأن يعضد مرضاكم بنعمة الشفاء والاحتمال والتقديس، ونلتمس من رحمته تعالى الراحة الدائمة في ملكوته السعيد لموتاكم الذين سلّموكم الوديعة الثمينة.
4. لقد عدنا امس، والشكر للرب، من زيارتنا التقويّة الى انطاكية، حيث جذور كنيستنا البطريركية المارونية الانطاكيّة السريانية، وقد احتفلنا فيها بعيد القدّيسين الرسولين بطرس وبولس عمودي كنيسة انطاكية، مدينة الله وأمّ الرسالة الى الشعوب. حقّقنا الزيارة التي دامت أربعة أيّام، بصحبة عدد من أساقفتنا والرئيس العام للرهبانيّة الانطونية، وكهنة ورهبان ومؤمنين ومؤمنات، ذهبوا من لبنان بطائرتين خاصّتين، نقلتا حوالي مئتين وخمسين شخصاً، وانضمّ الينا ما يُقارب مئة وخمسين شخصاً من الموارنة والمسيحيّين من انطاكية والمدن المتواجدين فيها، ولا سيّما من مرسين واسكندرون وأضنه وطرسوس، مسقط رأس بولس الرسول. وهي مدن زرنا جماعاتنا فيها والمسؤولين المدنيّين قبل الوصول الى انطاكية.
5. نشكر الله على هذه الزيارة، وعلى ما أعطت من ثمار. ونودّ الاعراب عن شكرنا وامتناننا للسيّدين شارل الحاج من المؤسّسة المارونيّة للانتشار وسركيس سركيس على تأمين طائرتين وتغطية تكاليف الرحلة. ونجدّد من هذا الكرسي البطريركي الشكر لسعادة سفير تركيا في لبنان، وللدولة التركيّة التي أمّنت السيارات لوفدنا الرسمي ومواكبة سيارتي البوليس ورجال الامن، طيلة الايّام الاربعة، ولوزارة الخارجية التي تمثّلت بموفد رافقنا في كل المحطات. ونُعرب عن امتناننا لحاكم ولاية انطاكية ورئيس مجلس بلديّة المدينة، لكلّ التسهيلات التي أمّنوها من اجل نجاح الزيارة والاحتفال، ولحضورهم القدّاس الذي احتفلنا به صباح العيد في كنيسة القدّيس بطرس المبنيّة تحت الصخور الشامخة، مثل قنّوبين، والمعروفة بمغارة القدّيس بطرس. ونُعرب عن محبتنا وشكرنا لسيادة السفير البابوي المطران Antonio Lucibello الذي حضر من أنقرة للمناسبة، وسيادة رئيس الأساقفة المطران Ruggero Franceschini الذي أتى من ازمير، وسيادة متروبوليت حلب واسكندرون للروم الأرثوذكس، المطران بولس يازجي الذي جاء من حلب. لقد شاركنا كنيسة الروم الارثوذكس، في ليلة العيد، بحضور القدّاس الذي احتفل به سيادته في كنيستهم، وبعد ظهر يوم العيد، في القدّاس الذي احتفل به المطران Franceschini والسفير البابوي في كنيسة اللات
ين. ونعرب عن شكرنا لقناة تيلي لوميار ونور سات التي رافقتنا في جميع محطات الزيارة ونقلت وقائعها. كما نشكر جميع الوسائل الاعلامية والاعلاميين والاعلاميات الذين نقلوا وقائع الاحتفال بقداس العيد.
6. رفعنا الصلاة الى الله، في انطاكيا، مُستشفعين القدّيسَين الرسولين بطرس وبولس، والتمسنا منه حماية الايمان المسيحي في هذا الشرق، وغيرة الرسولين في نشر انجيل يسوع المسيح لخلاص الشعوب، والالتزام في العمل من أجل وحدة الكنائس الانطاكيّة وحفظ تراثها المشترك، وادراجه في ثقافات مجتمعاتنا المشرقيّة. وصلّينا من أجل السلام في بلدان الشرق الأوسط، ووضع حدّ للعنف والاقتتال. وتطلّعنا الىالالتزام بربيع عربي، مسيحي- اسلامي، أطلقناه من كنيسة القدّيس بطرس، ويقوم على القيم المسيحيّة والاسلاميّة، الروحيّة والانسانيّة والاخلاقيّة، وعلى احترام كرامة الشخص البشري، وحقوقه الاساسيّة، وعلى تعزيز الحريّات العامّة، وفي طليعتها حريّة العبادة والمعتقد والتعبير والرأي، وعلى الحكم الديموقراطي الذي يحترم ارادة الشعب وتطلّعاته وانتظاراته، وحقّه قي مُحاسبة الحكّام ومُساءلتهم، وعلى الفصل بين الدّين والدولة، مع احترام جميع الأديان وشريعة الله الموحاة، وعلى التعدديّة والتنوّع في الوَحدة الوطنيّة، وعلى اعتماد لغة الحوار والتشاور والتفاهم، بعيداً عن لغة العنف والحرب وفرض الارادات الشخصية والفئوية.
7.“انّي أرسلكم كالخراف بين الذئاب”. يستعمل الربّ يسوع هذه التعابير، للدلالة على ما ستُواجه الكنيسة، في رسالة بناء ملكوت الله، من صعوبات ومحن واضطهادات واساءات، وتأتي كلها من مجتمعاتنا العائشة تحت وطأة الخطيئة المتنوّعة في طبيعتها وأشكالها، والتي تُقاوم احلال ملكوت الله، ملكوت القداسة والنعمة، الحقيقة والمحبّة، الحريّة والعدالة.
8.فالخطيئة تكون روحيّة، عندما يخالف الإنسان وصايا الله وتعليم الإنجيل، ووصايا الكنيسة وتعليمها قولاً وفعلاً وإهمالاً؛ والخطيئة ثقافية عندما يتبنّى الإنسان تعليماً وتيارات وممارسات ومواقف مناهضة لتعليم الكنيسة الرسمي، ومضادّة للإيمان المسيحي والممارسة الدينية إيديولوجياً وتطبيقياً؛ والخطيئة إجتماعية عندما يعمل الإنسان على زرع بذور التفرقة والخلافات بين الناس، وينتهج النميمة وتشويه صيت الآخر، ويمارس الظلم والاستبداد، ويستغلّ الضعيف، وينمّي الحقد والبغض والكراهية، ويمسك يده عن مساعدة الفقير والمحتاج؛ والخطيئة إقتصادية عندما يسعى الإنسان إلى اكتساب المال بالطرق غير المشروعة كالسرقة والرشوة والفساد والغشّ والإحتيال، وعندما يكدّس الثروة على حساب المحرومين والمعوزين، وعندما لا يتقاسم معهم ما يتوفّر بين يديه من إمكانيات مالية وعينية، وبذلك يخالف وصايا الله وتدبيره، هو الذي وجّه خيرات الأرض لتكون لجميع الناس، وعندما يخالف العدالة الإجتماعية بحرمان الموظَّفين والعمّال حقوقهم الشخصية والعائلية، وعيشهم الكريم، ووقايتهم الصحية؛ والخطيئة سياسية عندما يهمل صاحب السلطة توفير الخير العام للمواطنين، ويستغلّ السلطة والوظيفة والحزب لمكاسب فئوية وشخصية على حساب الغير، ولممارسة الظلم والتعدّي، وعندما يمارس العنف والإرهاب ويدعو إلى الحرب ويذكي النزاعات.
9. يدعونا الربّ يسوع لمواجهة كلّ هذه الأمور بفضائل ثلاث: بالحكمة في القول والعمل والموقف والمسلك؛ وبالوداعة في التعاطي وعدم الإنزلاق الى الكبرياء، وردّات الفعل، ومبادلة الإساءة بالإساءة، بل التمثّل بالمسيح الربّ الذي كحمل، سيق إلى الذبح ولم يفتح فاه. فالنّصرة من عند الله الذي أقامه من الموت، وأعطاه مجداً وسيادة في الأرض والسماء؛ وبالصبر في الإحتمال بقوّة الرجاء المسيحي الذي لا يخيِّب، “فمن يصبر إلى المنتهى يخلص”. ويدعونا للاتكال على إيحاءات الروح القدس، ولاتّباعه في طريق الألم وقبول الإساءة من أجل الخير الأعظم، وإتمام إرادة الله الخلاصيّة، وبناء ملكوته على أرضنا: “فليس تلميذ أفضل من معلّمه، ولا عبدٌ من سيّده، بل حسبه أن يكون مثله”.
نصلّي لكي يعضدنا المسيح الربّ في نشر ملكوته وبنائه في مجتمعاتنا، لكي ترتفع من جميع الأفواه على وجه الارض أناشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.