كسوف الله

إله المسيحيين (2)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم روبير شعيب

روما، الثلاثاء 3 يوليو 2012 (ZENIT.org). – إن نظرة سريعة إلى الظاهرة الدينية في المجتمعات المتحضرة في العصر الحديث تبين لنا أن حضور الله لم يعد واسعًا ومستديمًا كما كان في العصور الماضية. لقد عشنا في العقود الأخيرة، بحسب تحليل بعض الدارسين، علمنةً لم تطاول المجتمع وحسب بل الوعي والوجدان البشري بحد ذاته. فماذا وراء هذه العلمنة؟ ماذا وراء “كسوف الله” هذا، بحسب ما يسميه الفيلسوف مارتن بوبر؟

الأسباب هي عديدة ومترابطة وسيكون من الخطأ أن نبسط الأمر ونراه من وجهة نظر أحادية، ولكن، مع ذلك، فإن هناك بعض العوامل والأسباب التي أدت إلى غياب تدريجي لله من أفق الإنسان المعاصر وسنعدد بعضها:

أولاً، نهاية “الإنسان الليتورجي”: نتحدث عن نهاية الإنسان الليتورجي ليس فقط بإشارة إلى الإنسان الذي يزاول الكنيسة والتزياحات والصلوات العامة، بل نتحدث عن إنسان فَقَدَ وقع الإطار الديني لمختلف خبراته الحياتية. فمن يعيش في الغرب الآن يرى أن أعياد القديسين الشفعاء وحتى الأعياد الكنسية الكبيرة لا تعني شيئًا للمواطن العادي وقد تم تغيير أسماء العديد من الأعياد وإعطاؤها طابعًا علمانيًا (أو حتى وثنيًا). إن مثلاً على ذلك هو عيد “هالويين” الذي يحل مكان عيد جميع القديسين. وعيد الفصول (سيزونز غريتينغز) الذي اقترحه البعض بديلاً عن اسم عيد الميلاد (كريسماس) في انكلترا منذ سنتين. هذه الخبرة، خبرة تهميش البعد الديني تلقي بظلها على مختلف خبرات الإنسان الذي لم يعد يلتقي الله في المنعطفات الاعتيادية لوجوده اليومي.

ثانيًا، الإلحاد الذي أضحى حالة اجتماعية وثقافية: يلتقي العديد من علماء الاجتماع واللاهوتيين على هذه النقطة، وهي أن الإلحاد الذي بات حالة اجتماعية معممة وموقفًا ثقافيًا إنما هو سابقة في التاريخ. بالطبع، الملحدون موجودون منذ أزمنة مختلفة وهناك أنواع عديدة من الملحدين. فملحدو الإغريق يختلفون عن ملحدي العصر الحديث في أوروبا. ولكن الظاهرة اللافتة هي أنه في أيامنا هذه لم يعد الإلحاد أمرًا يتعلق بأقلية من المفكرين بل أضحى ظاهرة شعبية. ويعلق يوسف راتزنغر على هذه الظاهرة فيقول: “لقد بات الإلحاد متفشيًا لدرجة أنه لا يُعنى بتحدي الإيمان بل يتجاهله بالكامل”.

ثالثاً، مآسي البشرية: لطالما كانت مسألة الشر من المساءل التي طرحت الشكوك في قلب الإنسان. وقد اعتبرها القديس توما الأكويني في خلاصته اللاهوتية من بين الاعتراضات ضد وجود الله. إن الحربين العالميتين، السجون النازية، عمليات الإبادة الجماعية، وتعميم أخبار الشر عبر وسائل الإعلام… كل هذه عوامل ضاعفت في ذهن الإنسان المعاصر حدس الشر في العالم، وبشكل غير مباشر أدت إلى تعميم الشكوك حول حضور الله، وجوده وطيبته. فكيف لنا أن نتحدث عن الله بعد إبادة ملايين الأشخاص؟ كيف لنا أن نتحدث عنه بعد أن نرى طفلاً يموت بداء السرطان؟ كيف يمكننا أن نتحدث عن الله بعد فيضان يقتل عشرات الآلاف؟

رابعًا، الثورة الجنسية: شكلت ثورة عام 1968 تعبيرًا عن تحول شمل عدة أبعاد من نظرة المرء إلى نفسه، إلى علاقاته وإلى جسده. لم تكن الثورة فقط إطلاقًا للعنان للحرية الجنسية، بل تضمنت أبعادًا أعمق. حملت سنوات “الثورة” تلك إلى تقويض مفاهيم وقيم مثل الطاعة كنقيض للحرية، مثل العفة كنقيض للتعبير عن الذات، ومثل الإذعان لـ “أنا” إلهي كنقيض وتهديد للـ “أنا” الفردي.

خامسًا: الديانات الشرقية: إن الأديان أو الفلسفات الدينية الشرقية جلبت إلى ذهنية الإنسان المعاصر إمكانية عيش بعد روحي للوجود بمعزل عن إيمان ديني فردي أو جماعي. يمكننا أن نرى الكثير من الكتاب “الروحيين” الذين ليسوا مؤمنين بالضرورة. نرى في كتابات الفيلسوف الفرنسي الملحد أندريه كومت-سبونفيل نموذجًا لهذا الشكل من الروحانية الملحدة (مثلاً في كتابه: “روح الإلحاد”). الروحانية لم تعد تعبيرًا حتميًا لحياة في الروح القدس الذي يُنال في الكنيسة وفي حياة روحية مشبعة بالعقيدة، بحسب المفهوم الذي يقدمه القديس إيريناوس، أب الكنيسة. الروحانية الآن هي عيش الحياة بفلسفة، عيش الحياة بانتباه للبعد الباطني لإنسان لا يرى بالضرورة في هذا البعد صدى لإله في السماء.

هذه الأبعاد التي تحدثنا عنها بإيجاز كبير هي بعض من عوامل كثيرة لعبت دورًا في تقويض أو أقله في تحويل صورة الله في وجدان الإنسان المعاصر وتهميشها. ولكننا نشهد في أيامنا هذه ومنذ بضعة عقود ظاهرة معاكسة لم يكن ليتوقعا أنبياء “موت الله”، سننظر فيها في القسم التالي من المقالة.

* * *

من الممكن مراجعة القسم الأول من المقالة على هذا الرابط

(يتبع)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير