"روحُ الربّ عليَّ، مسحني وأرسلني" (لو4: 18)

عظة البطريرك الراعي في الاحد التاسع من زمن العنصرة – يسوع في مجمع الناصرة

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بكركي، الاثنين 23 يوليو 2012 (ZENIT.org). – . تحقّقت نبوءةُ أشعيا في يسوع المسيح، عندما حلّ الروحُ القدس على بشريّته، ساعة معموديّته في نهر الأردنّ على يد يوحنّا، كما روى الانجيليّون(متى3: 16-17؛ مر1: 10-11؛ لو3: 21-22)، فكرَّسه الروحُ نبيًّا وكاهنًا وملكًا بامتياز. هذه تُسمّى مسحةُ الروح القدس التي ينالُها المسيحيون بالمعموديّة والميرون، وينالُها الأساقفة والكهنة بالرسامة المقدّسة. ولذا تُطبّق عليهم نبوءةُ أشعيا: “روح الربّ عليَّ، مسحني وأرسلني”.

2. يسوع الإله الكامل والانسان الكامل تقبّل هذه المسحة فصار النبيّ بامتياز، لأنّه يُعلّم كلمة الله، وهو نفسُه الكلمة التي صارت بشراً(يو1: 14). إنّه مُرسَلٌ “ليبشّر المساكين”، كما كتب أشعيا. المساكين هم كلّ الناس المحتاجين إلى نور كلمة الله تهديهم وتُغذّي عقولهم بالحقيقة، وتحرّرهم وتجمعهم. وصار الكاهن بامتياز، لأنّه يقدِّم ذبيحةَ جسدِه الذي يُبذَل لفداء العالم، وذبيحةَ دمِه الذي يُهرق لغفران الخطايا(لو22: 19). إنّه المرسَل “ليُطلِق الأسرى ويُنيرَ العميان ويُحرّرَ المستعبدين”. كلماتُ أشعيا النبيّ هذه تعني أنّ يسوعَ الكاهن يشفي بنعمته النفوسَ من كلّ عبوديّةٍ للخطيئة، والبصائرَ والقلوبَ من العمى والحقد، والإراداتِ من المَيل إلى الشر. وصار الملكَ بامتياز، لأنه يملك وهو الملكوت أي الشركة والمحبّة والاتحاد بين الله والناس. إنّه المرسَل “ليبدأ زمنًا جديدًا مرضيًّا للرب”. فنشر ملكوت الحقيقةِ والنعمة، المحبّةِ والحريّة، العدالةِ والسلام.

3. لكنَّ مسحةَ الروح هذه انسكبت أيضاً على الكنيسة، جسدِ المسيح الجديد الذي هو رأسه. فأشركها في حالة النبوءة والكهنوت والملوكية، وفي خدمتها ورسالتها. إنها مسحةُ المعمودية والميرون لجميع المعمَّدين، وقد أصبحوا أعضاءً في جسد المسيح، فكان ما يُسمّى بالكهنوت العام. وهي مسحة الدرجة المقدّسة التي ينال بها الأساقفةُ والكهنة سلطانًا إلهيًّا لخدمة التعليم والتقديس والتدبير. فكان كهنوت الخدمة.

4. في الإرشاد الرسولي “رجاءٌ جديد للبنان”، عندما يتكلّم الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني عن الالتزام السياسي، يُذكّر المسيحيين الذين يتعاطَون العمل السياسي، بأنّهم يخدمون الإنسان والمجتمعَ الوطني بفضل معموديتهم التي تُشركُهم في وظيفة المسيح المثلّثة: الكهنوتيّة والنبويّة والملكويّة.

بمشاركتهم في الوظيفة الكهنوتية يجعلون من عملهم تسبيحاً للخالق بتكميل عمل الخلق؛ ويقدّمون لله قرابين أعمالهم وجهودهم، من أجل الخير العام والترقّي والسلام. وهي مجالات لتقديسهم.

وبمشاركتهم في الوظيفة النبوية، يجسِّدون جِدّةَ الإنجيل وفعاليتَه تجسيداً يتألّقُ في حياتهم اليومية: الروحيةِ والعائلية والاجتماعية والوطنية، ويُعبّرون بحلمٍ وجرأةٍ وشجاعة، في وسط مشقات الزمن الحاضر، عن رجائهم في المجد، حتى من خلال بنيات الحياة الزمنية؛ ويعملون، لدى المواطنين وبالأخصّ الشباب، على إحياء الرجاء بأنَّ المستقبل ممكنٌ؛ ويساهمون بفاعليةٍ في إجراء التحوّلات الضرورية للبلوغ الى حياة مشتركة أفضل.

وبمشاركتهم في الوظيفة الملوكية يلتزمون سبيل الزهد الروحي، للتغلّب على الخطيئة والظلم، ويُقدِّمون أنفسهم لخدمة المسيح، في المحبّةِ والعدالة. ومن وجهة النظر هذه، ينبغي أن يعرف مجملُ شعب الله تعليم الكنيسة الإجتماعي، الذي يوّفر مبادئَ للتفكير، ومعاييرَ للحكم والقرارِ في العمل، من شأنها أن توجّهَ الإنسان ليتصرّف باستقامة ونزاهة في مختلف ميادين الحياة الفردية والاجتماعية.

5. وجود المسيحيين في لبنان وبلدانِ الشرق الأوسط مرتبطٌ بمسحة الروح والإرسال الإلهي. مسحة الروح هي هويتهم، والمهام الثلاثة رسالتهم. فإذا أدَّوها بإخلاصٍ ومسؤوليّة ساهموا في إعداد ربيعٍ مسيحي وعربي منشود.

بالبعد النبويّ يتقبّل المسيحيون كلام الله من الكتب المقدسة والتقليدِ الرسولي الحي وتعليمِ الكنيسة، ليصبح كلامُ الله عندهم ثقافةً وحضارةَ حياة، يطبعون بها حياتهم العائلية والاجتماعية وشؤونَهم الزمنية: العملَ والفنون والمهن والاقتصاد والتجارة والاعلامَ والسياسة. إن للكنيسة تعليمًا واسعًا خاصًّا بكل هذه الحقول، استمدَّته من الكتب المقدسة والتقليد الحي.

وبالبعد الكهنوتي ينفتح المسيحيون على أسرار الخلاص والأفعال الليتورجية، لينالوا نعمة التقديس، التي تنقلهم من حالة الخطيئة والشر والضعف إلى حالة النعمة والصلاح والقوّة. ويعملون على تقديس العائلة والعملِ والمجتمع. وكون الكهنوت قائماً على تقديم ذبيحة المسيح قربانًا مرضيًّا عند الله، يتفجَّر منه الغفرانُ والمصالحة بين الله والناس، فإن المسيحيين يضمّون إلى ذبيحة المسيح قرابينهم الروحية، أعني أعمالَهم الصالحة وجهودَهم وتضحياتهم في سبيل الحقيقة والخير والجمال.

وبالبعد الملوكي ينخرط المسيحيون، عبر الكنيسة، في مملكة المسيح، المعروفة بملكوت الله. فيعملون على نشر المحبة والعدالة والسلام، ويدافعون عن الحريات العامة وحقوقِ الانسان، ويحاربون الظلم والاستبدادَ والاستضعاف، ويُعزِّزون الممارسة الديمقراطية للحكم التي تحترم رأيَ الشعوب وتطلعاتهم وآمالهم.

< p>6بحكم هذه الهوية والرسالة، ينبغي على المسيحيين أن يقوموا بدورٍ إيجابي من أجل حلّ الأزمة الدائرة في لبنان، على مستوى السياسة والاقتصاد والسلام الداخلي. ان اللبنانيين بحاجةٍ الى طمأنينة والخروجِ من حالة القلق على هذه المستويات الثلاثة. لقد عبّر استطلاعٌ نشرته أمس إحدى الصحفِ اللبنانية المعروفة، كم أن اللبنانيين قلقون من عودة الحرب الأهلية بسبب الإنفلات الأمني والانقسام الطائفي على ما يحدث. فإذا بالأكثرية من نِسب الاستطلاع، يتجنّبون الذهاب الى بعض المناطق، يليهم الذين يخشَون الخروج من بيوتهم في المساء، فيما غيرهم تنتابهم حالة القلق والخوف. إنها مسؤولية جميع اللبنانيين، وعلى الأخص رجالِ السياسة ورؤساء الطوائف أن يعملوا على إنهاء هذه الحالة.

إننا نأسف كلّ الأسف لهذه الحالة من التوتّر والنزاعات والمظاهرات والاعتصامات والتعدّيات ومحاولات الاغتيال وقطع الطرقات وتفشّي السلاح غير الشرعي والرجوع الى نوع من شريعة الغاب. وما يؤسَف له بالأكثر هو التغطية السياسية من هذا وذاك من النافذين لكل هذه الشواذات المضرّة بلبنان الدولة والكيان والرسالة. هؤلاء يتحمّلون مسؤولية الخسارة التي مُنيَ بها لبنان لتسبّبهم بتعطيل السياحة والاصطياف وحركةِ الحياة الاقتصادية.

7لكننا نجدّد رجاءنا بالمسيح الذي دشّن زمنًا مرضيًّا لله، تحمل الكنيسة مسؤوليةَ تحقيقه ومتابعته، بمساهمة كلِّ أبنائها وبناتها ومؤسساتها، كما يحمل مسؤوليتَه جميعُ ذوي الإرادة الحسنة. ونحن على يقين من أن الكلمة الأخيرة هي للمسيح، سيّدِ التاريخ وحده.

أمّا مسؤوليتنا فهي الإلتزام والعمل المثابر من أجل إحلال هذا الزمن المرضي لله، وهو القادر على إبلاغ عملنا الى غايته.

فللثالوث المجيد، الآب والابن والروح القدس، كلُّ مجد واكرام، الآن والى الابد، آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير