عُقِدَ سينودوس الأساقفة في روما في العام 2014 (5-19 تشرين الأوّل) حول العائلة تحت عنوان “التحديات الراعويّة للعائلة في إطار الأنجلة” (التبشير)، ويتابع السينودوس أعماله من 1-25 تشرين الأوّل 2015 تحت عنوان : “رسالة ودعوة العائلة في الكنيسة في عالم اليوم”.
خلال انعقاد السينودوس في العام 2014 واستمرار التفكير والبحث خلال عام لبعض قضايا العائلة وصعوباتها واستمراريتها كأحد أعمدة المجتمع الإنسانيّ كان لا بدّ من التوقف مليًّا وبعمق حول الأفكار والنقاشات التي سادت. من هنا وجب التذكير ببعض المبادئ والطروحات التي تصب في خانة قداسة العائلة وأهميّتها ودورها ورسالتها في عالمنا اليوم. فمجتمع المعرفة والتِكنولوجيا وعصر العولمة يواجه تحديّات جمّة في إعادة ترتيب الأولويات في مسيرة حياة الأفراد كما في إدراك وفهم عميق لحيثيّة العائلة في فكر الخالق.
يذكّرنا آباء السينودوس “بأنَّ هدف السينودوس ليس فحسب إعلان عقيدة أو فرضها على المجتمعات ولكن المشاركة مع المجتمعات البشرية من خلال تفكير منوَّر (مضاء) بالإيمان حول خبرات عديدة بإمكانها أن تكون أرضية مميزة للتبشير”.
إنَّ هذا التفكير المنوّر والعميق لا بدّ أن يتخذ من الوحي الإلهيّ وعمل الروح القدس والإيمان بشخص يسوع المسيح وتعاليمه وحياته دعمًا لتثمين الخبرات المشتركة لعائلات كثيرة في العالم.
فتعليم الكنيسة في العالم حول العائلة مبنيّ على الوحي الالهيّ كما على خبرات معاشة من قبل العائلات فهذا يعطي برهانًا بأنَّ تعليمها ليس نظريًّا فقط وإنّما مستقى من أفراح ونجاحات العائلات كما من فشلها وجروحاتها.
تُطرح أسئلة كثيرة على السينودوس ولربما لن تكون الأجوبة عملية ومقنعة لبعض أفراد المجتمع. هل يكفي بأن تسلّط الكنيسة الضوء على معنى الزواج المسيحيّ والعائلة حتى تحلّ بعض التعقيدات والصعوبات؟ هل يكفي بأن تعالج الكنيسة فقط المعضلات بالإصغاء والتفهّم والمرافقة والاستقبال؟ هل التنشئة على الرحمة مع الحقيقة والعدالة تسهّل بإعطاء مخارج راعويّة ولاهوتيّة لأوضاع المطلّقين والمتزوّجين ثانية؟ هل أخذ المبادرة بجعل حالات بطلان الزواج أكثر سهولة ومرونة كما تسريع معاملات الدعاوى الزوجيّة يخفّفان من جروحات وآلام أفراد العائلات المتعثّرة؟ هل تملك الكنيسة الشجاعة والقدرة والآليّة المناسبة لتداوي جروحات العائلات وإعطائهم العلاجات والسبل العمليّة والحلول المناسبة؟ أم تكتفي بتزويدهم بكلمات التعزية والتشجيع؟ هل سيجد آباء السينودوس خيارات راعويّة شجاعة تكون ملموسة وحسيّة ومنظورة في ما خصّ صعوبات العائلات ومشاكلهم المتراكمة. أم ستكتفي بتوجيه الارشادات والنصائح؟
نعم تنتظر أعمال السينودوس ومقرراته تحديات جمّة. فهل تريد الكنيسة “تسطيح أو تسهيل” بعض الأمور الشائكة والعالقة بتجسيد الرحمة والغفران؟ أو فتح “الأبواب” من جديد للذين ابتعدوا عن الكنيسة بسبب “الطلاق” أو زيجات ثانية؟ أم تتمسك بالعدالة والحقيقة؟. بالتأكيد إنَّ الرحمة بحاجة للعدالة والعكس صحيح.
لا يغيب عن ذهن آباء السينودوس بأنَّ الزواج مؤسّسة قانونيّة ولكن أيضًا “جماعة (وشركة) حبّ وحياة”، وهذا يجب أن يدركه الرجل والمرأة عندما يقتنعان بأنّ الصيغة القانونيّة للزواج تتمسّك بها الكنيسة من أجل حماية حبّ الزوجين ضمن سرّ الزواج المقدّس. “فالشرائع والموانع” تُستخدم للحياة وللرحمة.
من هنا تريد الكنيسة أن تُظهر للعالم قيمة العائلة وأهميّتها بالنسبة للمؤمنين ولغير المؤمنين. فإنّها تبرهن بأنَّ الزواج والعائلة هما المكان المميّز لعيش القداسة من خلال الحضور الالهيّ المتجسّد بعمل الروح القدس الذي يهب النعمة من أجل نجاح مسيرة الزواج والعائلات.
الكنيسة رسوليّة بامتياز، فهي تحمل رسالة مقدسة، لذا عليها أن ترافق وتساعد الزوجين والعائلات على مواجهة كافة الصعوبات والمشاكل، كما عليها أن تجاوب على كلّ التحديات، منها: إعلان الانجيل أي البشرى السارة من خلال الأنجلة الجديدة أي التبشير الجديد بالإنجيل.
يمكننا القول بأنّ جديد السينودوس يبحث عن حلول لقضايا ملموسة وذلك عبر الاصغاء إلى الروح وضرورة الدخول في حوار مع العالم وأهمّية “التدرّج” أي التقرّب من المُثُلْ العليا للعائلة المسيحيّة والزواج، زِد على ذلك احترام كلّ الحالات بالاستماع إليهم لكي يسمعوا أقوال الكنيسة.
كما أراد السينودوس من خلال أعماله ونتائجه الأولية أن يُعيد الثقة للناس بأنّهم قادرون على أن يحظوا بزواج مثمر وناجح وعائلة مقدّسة ورائعة (فالسينودوس علامة نعمة للمسيح الحيّ) وأيضًا إعطاء تعاليم المسيح صدى جديد، الأمر ليس بالشرح بل بالاظهار (فالشخص يودّ “يريد” أن يلهم بجمال المحبّة والزواج والعائلة)كما بالمرافقة المتواصلة والمواكبة الفاعلة (فالشخص يتغيّر عندما يلمس إيمان الآخرين وأيضًا يتغيّر عندما يرى خبرة الآخر الايجابية والناجحة).
كل هذا يقودنا إلى التأكيد بأنَّ الكنيسة تشدّد على أنّ الزواج هو سرّ من أسرار الكنيسة والذي هو عمل المسيح في الكنيسة، لذا يجب الدفاع عنه والمحافظة عليه والاهتمام به ورفع شأنه بشتى الوسائل والطرائق الحديثة والآليات المتجدّدة لكي يدرك أفراد المجتمع ولا سيّما الأشخاص المعنيون أهميتة وضرورته وطبيعته المبنيّة على تعاليم الخالق وتدبيره.
المسيحي الملتزم بإيمانه
وبتعاليم الكنيسة لا ينتظر فقط رأي الكنيسة أو حلول لبعض المواضيع المهمة مثل المطلّقين الذين تزوّجوا ثانيةً (التقدّم من المناولة) أو الزيحات (الاتحّاد) المثلية أو المساكنة خارج الزواج أو الامهات العازبات أو الاختلاف الديني.
وأيضًا ليس تسريع معاملات الدعاوى الزوجيّة وحالات بطلان الزواج وإنّما يريد الأزواج والعائلات أيضًا وأيضًا التعلّم على الانفتاح على نور الانجيل وعيشه من خلال شهادات حيّة تساهم في تشجيع الروح (نقل البشارة) التبشيريّة ممّا يعطي دفعًا أقوى للرسالة الايجابيّة لإنجيل العائلة في عالم اليوم وفهم لاهوت الزواج والعائلة: بأنّ الزواج سرّ واتحاد غير قابل للإنحلال.
حاول آباء الكنيسة من خلال السينودوس أن يجاوبوا عل معظم التحديات والانتظارات من خلال وثيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: “الاصغاء إلى تحديات العائلة، وتمييز الدعوة العائليّة ورسالة العائلة اليوم”.
بالتأكيد حاول الآباء مع المشاركين من إخصائيين وعلمانيين أن يراقبوا ويدرسوا الوضع العائلي الحالي وتشخيصه ورؤية ما يمكن القيام به.
ينتظر المؤمنون من السينودوس حلول ملموسة أمام الصعوبات الكثيرة والتحديات التي تواجه العائلة كما إعطاء بعض الأجوبة على الخيبات والجروحات التي تلف العائلات. كما ينتظر المعمّدون الاعداد لتعليم جذري حول الزواج والعائلة من خلال بناء الثقة وبثّ الأمل في قلوبهم لا سيّما المعنيّون مباشرةً بسرّ الزواج والذين يسعون لأن يشهدوا بأمانة حيث الكنيسة ترافق خطواتهم وتلتقي بهم وتسير بهم ومعهم على ضوء المسيح. تنتظر العائلات من آباء السينودوس التحدّث مليًّا عن الحبّ بين المرأة والرجل والاعتراف بالآلام والجروحات ومحاولة مداواتها بالرحمة لا بالحكم على الآخرين. ينتظر المؤمنون من السينودوس الدعوة الملحّة على التشديد على الاعداد لسرّ الزواج والتربية على الحبّ من أجل بناء عائلات ناجحة. أخيرًا، ينتظر أبناء الكنيسة كلمةَ رجاء ومحبّة وإيمان وتسامح ومغفرة وفتح “أبواب الكنيسة” من جديد “للجميع”.