من البدء كان إنجيل لوقا يُعتبر سردا تاريخيّا يشدّد على مواضيع عُرفت ، حتى يومنا هذا ، بأنها من خصائص لوقا . فإنّ معجزات يسوع وتعليمه الخلقيّ أمثلة بارزة على تفصيل ِ لوقا التاريخيّ . يُفرغ لوقا إنجيله من قالب ٍ ذي مواضيع كهنوتيّة ، يبدأ بتقدمة زكريّا اللاويّة في الهيكل وينتهي بالذبيحة الكهنوتيّة ، فيسوع هو العجل المقدّم كذبيحة على الصليب . العجل رمزٌ في إنجيل لوقا من رؤيا نبويّة ، يضعُ التكفيرَ في مركز الإنجيل (كما يقول أمبروسيوس) . لوقا الأنطاكيّ طبيبٌ ملمّ بشفاء الأجساد ، يُقدم لنا يسوع المعطي إيّانا دمه دواء الخلود ، ويعلن بولس ، لكون لوقا رفيقه في سفره . إنّ إنجيل لوقا هو كإنجيله في شفائه للأنفس .
اتبع لوقا ترتيبًا تاريخيّا معيّنا ، وكشف لنا كثيرًا من معجزات الربّ ، بحيثُ يعانق تاريخ إنجيله فضيلة الحكمة كلّها . فهل ثمّة ما يفوق الحكمة الطبيعيّة عظمة أكثر من القول إنّ الروح القدس كان علّة التجسّد الإلهيّ ؟! .. لقد علّم أن قوات السماوات ستهتزّ ، وأنّ الربّ وحده هو ابن الله الأوحدُ ، وفي أثناء آلامه ستُظلم الأرض كليل ، والشمسُ تتلاشى .. وإذا ما قارناه بالأناجيل الأخرى ، نراه أكثرَ حماسة في وصف الوقائع منه في التعبير عن قواعد السلوك . والإنجيليّ ، في تدوينه الإنجيل بطريقة تاريخيّة ، يبدأ سرده بشكل قصصيّ فيقول : ” كان في أيّام هيرودس ملك اليهوديّة كاهنٌ اسمه زكريّا ” . ويتابعُ القصّة بوصف منظّم وكامل .
لوقا الإنجيليّ كان أنطاكيّ العرق والهويّة ، امتهنَ الطبّ ، ورافقَ بولس ردحا من الزمن ، ولم يُزامل بقيّة الرسل . تركَ لنا ، في سِفرَين مُلهَمين أمثلة ً على شفاء النفوس ، وهذان السفران هما الإنجيل وأعمال الرسل ، اللذان لم يجمعهما بالسماع ، بل سجّلهما كشاهد عيان . يقال إنّ بولسَ كان يستشهد بالإنجيل كما دوّنه لوقا.
قال القديس مار أوغسطينوس ، ” إني لم أكن أؤمن بالإنجيل لو لم تسلّمني إيّاه الكنيسة المقدّسة . كذا قلْ في باقي الأسفار المقدّسة ” . إنّ الأراطقة الذين يُنكرونَ سلطة الكنيسة وعصمتها (كذا يفعل اليوم بعض مسيحيّينا ! ) لا يمكنهم أن يثبتوا أنّ الأسفار المقدسة قانونيّة ومُلهمة من الله . إذ لا سبيلَ إلى إثبات ذلك إلاّ ، إمّا من الكتاب المقدّس ، وهو لا يذكر الأسفار القانونيّة والمُلهَمة على الأقل بالتفصيل . وإما من التقليد والبيّنات القديمة ، وهم يُنكرون التقليد ، والبيّنات القديمة فيها اختلاف باهظ . وإما من الذوق والروح الخاصّ ، كما يقولون ، وهذا خداع وفرديّ والعمل بيّن بطلانه ، فلا يبقى إلا حكم الكنيسة الكاثوليكيّة ، وهم يُنكرون صحّته . لذا ، تراهم في خلاف دائم على عدد الأسفار المقدّسة وقد أنكرَ بعضهم بعضا تدريجيّا .
كُتب إنجيل لوقا لــ ” محبّي الله ” ، فثاوفيلوس يسمّى ” مكرّما ” ، و ” قويّا جدّا ” . لفظة Theophilos لفظة يونانيّة تعني ” محبّ الله ” . ما من محبّ لله ضعيفٌ . يقول الكتاب عن شعب اسرائيل ، عندما كانوا يخرجونَ من مصر ، ” لم يكن ضعيف في أسباطهم ” . كلّ محبّ لله هو قويٌّ ، له قدرة وعزم من لدن الله وكلمته . فنحنُ ، بسبب أنّنا أقوياءُ بقوّة المحبّة الإلهيّة ، لنا عملٌ كبيرٌ جدّا ، ألا وهو ” خدمة التبشير بالكلمة ” . يقول القديس أمبروسيوس : إنّ خدمة الكلمة هي أهمّ من الإستماع إليها ” . فهو لا يقصدُ الكلمة المنطوق بها ، بل الكلمة ” اللوغوس ” الجوهريّ ، الذي صار جسدًا ونصبَ خيمته بيننا . ونرى القديس يوحنا أيضا ، في بداية إنجيله ، يقول : ” ذاك الذي رأيناه وسمعناه ولمسته أيدينا …. ” . وعلينا هنا ، كما يقول لنا القديس لوقا ، أن نذعن للكلمة وللشهادة وللقول الصادق الذي كان لدى التلاميذ الأوّلون الذين كانوا شهودَ عيان وخدّاما للكلمة . فالكنيسة الرسوليّة حفظت لنا وديعة الإيمان صافية نقيّة لا يمسّها التحريف ولا الظلال .