ظاهرة خروج الفتيان والشباب من الجنسين؛ ووقوفهم في حوش الكنيسة، أو عُزوف البعض عن الحضور؛ أصبح ظاهرة ملفتة، إذا ما قِيست بإحصائيات العضوية الكنسية الكاملة لكل كنيسة محلية. وهذا الأمر يرجع إلى عدم فهمهم وتذوقهم للعبادة؛ أو عدم درايتهم لجمالها وعمقها.
لذلك يقع على عاتق البيت المسيحي وخدمة التربية الكنسية توعيتهم وتربيتهم ليتورجيًا؛ حتى لا تترسب لديهم خبرات سلبية؛ ومن ثَمَّ يتمكنوا من المواظبة بفهم وتذوق… إذن لنشرح لهم مفهوم وأهمية الذهاب للكنيسة وبركاتها الروحية، -(لماذا وكيف ومتى وأين ؟؟)- حتى يتفهموا ما هم مدعوون للمشاركة فيه؛ لا كمتفرجين أو مستمعين؛ بل كمشاركين برغبتهم واشتياقهم العقلي والقلبي.
إن كنا الآن نجرّهم أو ندفعهم إلى الحضور؛ دون أن يروا الغرض، فحينما يشبّون قليلاً سيفتعلون الأعذار والأسباب بعدم المواظبة، بل قد يصبح وجودهم القهرﻱ خبرة سلبية ومؤلمة الملل… لذلك من الضرورﻱ أن يؤمنوا بأنه لا خلاص لأحد خارج الكنيسة.. وأن الكنيسة هي بيتنا وأمنا ومستشفانا وحظيرتنا وفُلكنا ومركب إنقاذنا ومدرستنا ومستودع حياتنا كلها، إذ أن حياتنا مع الله لا تمارَس فرادﻱ أو في عزلة أو حسب الأهواء المزاجية؛ لأننا أعضاء وُلدنا فيها؛ ونتغذى على عُصارتها للنمو، وحضورنا معًا هو الذﻱ يكوِّن الكنيسة؛ ويهيئنا للباس العُرس في الوليمة السمائية.. ومن الضرورﻱ أن يَعُوا أننا جميعًا ننتمي للمسيح الرأس؛ ولبعضنا كجسد وعائلة واحدة؛ فيها نحن أعضاء.
إن هذه المسئولية التي تقع على الأسرة والتربية الكنسية معًا؛ لا بُد أن تتم بتعاون متبادل مشترك ومتزامن؛ لأنها معادلة لا تقوم على طرف دون الآخر؛ لكنها تتم في شركة عمل بينهما في هارموني وإلتزام.. ليكون يوم الرب يومًا مقدسًا مميزًا؛ لكنه لن يكون؛ إلا إذا توفرت القدوة في الكلام والتصرف.
تبدأ مهمة التربية الكنسية منذ معمودية الطفل ودخوله في رعويه المسيح، سواء من جهه السلوك أو من جهه المقومات؛ إذ ليس في طقس الكنيسة ثغرات زمنية : معمودية وميرون وتناول متواتر؛ حيث تساهم خدمة مدارس الأحد مع الوالدين في التكوين الروحي للناشئين؛ وسقيهم النعمة والحكمة والقامة بالاصطحاب والحضور والتشجيع؛ حتى تكون الأولوية للعبادة في حياتهم؛ ويعرفوا كم هي ثمينة وجليلة الاعتبار، حريصين على جلوس الصغار بجانب والديهم أو مع الخدام أثناء العبادة؛ لا مع أصدقائهم؛ كي تتسنَى لهم الاستفادة والمشاركة، مع توفير مساحات وقتية للشرح والإجابة على الأسئلة؛ وتسليمهم مراسيم العبادة وحفظ المحفوظات.
التربية الليتورجية تبدأ عندما يشترك الصغار في التسبيح والتذكارات والتماجيد؛ بفهم متدرج يتناسب مع كل مرحلة سِنية، وبالمواظبة التي هي مدرسة لتلقين المفاهيم وتعميقها ثم تثبيتها؛ لكن هذه المواظبة لا بُد أن تكون بمتابعة هذا الكنز المفعم بالحلاوة والخبرة؛ عبر الإصغاء والحفظ والممارسة؛ مع التحفيز على التدريب؛ لتقوية البعد التسبيحي والليتورجي؛ لأننا بذلك نطلّ بأرواحنا وأجسادنا وكل حواسنا على خبرة ومتعة العبادة؛ لكي وبهذا يتم تكميل وتجديد حياة الشباب وبنائهم؛ مشاركين في أحداث حياة المسيح الخلاصية وفهمها خلال رحلة القداس، ورحلة السنة الطقسية الليتورجية؛ حتى تكون سبق تذوق لملكوت السموات ينفذ إلى وجدانهم وعواطفهم وعقولهم.
هناك خبرات عظيمة اختصت بعمل قداسات مشروحة للنشأ؛ تم فيها شرح عملي مفصل للقداس بطقوسه ومفاهيمه اللاهوتية، استقبلها الشباب بفرح غامر؛ لسبب لذة الفهم واقتناع العقل؛ مكَّنتهم من مشاركة حية، أبعدت الطياشة والسرحان والتشتت وطردت الملل، وأثمرت كثيرًا في مجال الواقع لتأهيل شمامسة وشباب خوارس الكنيسة، إذ أن المسيح ربنا يدعونا في الكنيسة ”إكليسيا“ Eκκλησία لنكون مدعوين جميعًا للاجتماع معًا؛ لأن صغار السن لهم كل الحق في التحادث معه، إذ أنه طلب من تلاميذه أن يتركوا الأطفال الصغار يأتون إليه؛ لأن ”لمثل هؤلاء ملكوت السموات“ (لو ١٨ : ١٦)؛ وقد هيأ من أفواههم سبحًا وتسبيحًا له؛ وساروا في موكب دخوله إلى الهيكل في أورشليم.
علينا أن نعي أن الصغار في كثير من الأحيان؛ هم أيضًا يربطون والديهم بالكنيسة وليس العكس فقط.. لذلك نحن مدعوون أن نتعلم منهم ”إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد“ (مت ١٨ : ٣)، فالأولاد الذين يتعلمون ويواظبون ويشاركون، لا بُد وأنهم سيألَفون العبادة ولا يستغربونها أو يملّونها متضجِّرين؛ لأن كنيسة بلا أطفال مائتة، وكنيسة بلا شباب هي بلا مستقبل!!
مؤكدين على أهمية الشرح والتبسيط وتوضيح المفاهيم والمدلولات والمعاني؛ الذﻱ يجعل الأحداث يشعرون بأن الكنيسة بيتهم؛ والعبادة لغتهم، وأن لهم مكانًا فيها؛ يحبون أسرارها.. ولهم حواس ليتورجية، أُنُوفهم تحب البخور، وعيونهم تلقط بفهم إشارات الحركات الطقسية وتستمتع بالأيقونات، وألسنتهم وحناجرهم تتلذذ بالتمجيد، وعقولهم تقترب من الإدراك الذهني للنصوص الليتورجية، وقلوبهم تشبع بعاطفة الشركة المقدسة، وأفواههم تمتلئ بلهيب التناول من الأسرار غير المائتة.
هؤلاء تصبح عندهم العبادة خبرة فرح ومشاركة ، فيأتون بشغف وعن طيب خاطر، ويصبح لهم يوم العبادة يوم عيد لا يوم سأم ونفور وتوتر وأعذار… يدخلون إ
لى أعماق المقدسات؛ متخطِّين انحصارهم في وجودهم البيولوجي؛ حيث يكون كل شيء ملكًا لهم مع جماعة المؤمنين، ولا يكونوا منعزلين أو متقوقعين؛ لكن في عِشرة مع جموع القديسين، بشركة التسبيح والسجود والقبلة الطاهرة الرسولية والتقدم للأسرار؛ تاركين عالمهم الخاص عندما تتعانق السماء مع الأرض، ويرون صليب المسيح ومنجليته عندما يكلمهم، ومذبحه عندما يتناولونه، ويتلامسون مع أيقونات الشفعاء الحاضرين معنا، منضمين لربوات غفيرة، تدعمهم وتثبت إيمانهم اختباريًا، وتتجمع حواسهم في بيئة ليتورجية، مع صفحات الكتب الطقسية وأقمشة الملابس الكهنوتية وستور الهيكل، وألوان الأيقونات وتقدمات القرابين والأواني والموسيقى والأصوات، فيخرجون من ذاتيتهم ويتحدون بالكيان الإلهي ”البانطوكراطور“ Παντοκρατορ ويَسبَحون في بهاء العبادة المفرحة التي تنفضُ عنهم الاكتئاب؛ وتخبُّط سيكولوجية مراحلهم السنية، وتصير الكنيسة كلها أمًا تربي.
ولا بُد أن تنتبه الكنيسة إلى إعطاء نصيب للشباب في العبادة، أﻱ يكون لهم دور- إن جاز أن نقول ذلك -، حتى لا يتهمشوا بفعل فاعل، فيتحولوا إلى مشاهدين ومتفرجين سلبيين، ولا نعتبرهم دون المستوى المهارﻱ أو معكِّرين لصفو الخدمة؛ وكأن العبادة حكرًا على المحترفين. وهذا يعني أن يكون هناك سلطة قبول لحضورهم ودمجهم، لا كواجب أخلاقي فقط؛ لكن كضرورة لاهوتية ورعوية تحكُم حضورنا في الكنيسة على صورة العلاقة بين الأقانيم الثلاثة داخل الثالوث القدوس؛ مشاركين في تنوع وتناسق متوافق.
إن الإعداد الجيد وتوافر المناخ للتربية الليتورجية يصنع أجيالاً سليمة العقيدة؛ لها حياة كنسية منذ وجودها في الرحِم في بطون أمهاتهم؛ إذ قد اعتادوا سماع أصوات العبادة وملامسات طقوسها الملهمة، فتتكون عندهم الحواس الليتورجية، عندما نلقي فيهم البذار لتنمو في أعماقهم بالنعمة والفهم والشرح وتكرار الممارسة، متقدمة بالتوازﻱ مع نموهم في الصوم والاعتراف والتسبحة والقراءات والألحان وفهم الطقوس بإنتباه؛ للوصول إلى غنى السر الذﻱ لا ينضبُ