The Latin Patriarch of Jerusalem

ANSA - FADI AROURI/POOL

عظة غبطة البطريرك فؤاد الطوال لعيد الميلاد 2015

من هنا- بيت لحم السلام والعيد والأمل. نتذكر ونصلي لأجل كل ضحايا العنف والارهاب في فلسطين العزيزة والدول المجاورة

Share this Entry

فخامةُ الرئيس محمود عبّاس، رئيسُ دولةِ فلسطين،

دولةُ رئيسِ الوزراء، السيد رامي الحمد الله والوفد المُرافق له،

أصحاب المعالي الوزراء والسفراءُ والقناصلُ وسائرُ ممثلي الدولِ والكنائس،

الحُجَّاجُ الكِرام، ضيوفُ الطفلِ الإلهي،

أيها المؤمنون من كل صوب وحدب. أيها المكرسون والمكرسات العاملون في هذه الأرض الغالية على قلوب كل الشعوب، أبناءنا الأعزاء في المهجر!

في هذا العام أيضاً جئنا بيت لحم نُحيي بفرحٍ ورجاء، ذكرى ميلاد كلمة الله الذي صار إنساناً. ذلك الذي لا يسعه العالم لقدرته وعظمته، وسِعَتهُ مغارة وحملت به بتول. جاء ليريَنا وجه الله الرحيم، وأوصانا مرارا في الانجيل الطاهر: “كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم” (لوقا 6: 36). في الماضي القريب جرت حوادث مؤلمة في شرقنا العزيز وفي أنحاء المعمورة. نستطيع ان نَجزِم بأننا فقدنا انسانيتنا وقِيَمَنا الروحية، إذ أصبح التديّن سبباً للقتل باسم الله، بدلاً من كونه حافزًا على الرحمة والأُخوّة. وما نعاني منه في هذه الأيام هو غياب الرحمة من القلوب. وكأن مجيء السيد المسيح ورسالة الميلاد قد ذهبا سُداً.

       لقد كرّس البابا فرنسيس سنة 2016 للتأمل في الرحمة الالهية بكافة أبعادها. بدأت سنة الرحمة المذكورة بفعل رمزي قام على فتح أبواب مقدسة في المزارات الدينية والكنائس الرئيسية تُسمى “أبواب الرحمة”، بحيث أن كل من يطرقها تائبا ونادما ويدخل منها الى الكنيسة معرجا إلى كرسي الاعتراف، انما يدق باب الرحمة الالهية، ليغرف من ينابيعها ما يكفي لمحو خطاياه وترسباتها، ولبدء حياة جديدة متصالحة مع الله والقريب. وهذا ما فعلناه هذا المساء في بداية الاحتفال، عندما أعلنّا أن باب كنيسة المهد، هو من أبواب الرحمة ونأمل أن يعبر منه الكثير من المؤمنين والحجاج خلال هذه السنة.

       في الانجيل المقدس مثلان يُظهِران العلاقة بين رحمة الله لنا ورحمتنا للآخرين، وهما مثل “الابن الضال” الذي ينتظره والده بكل شوق ولهفة كي يعود إلى صوابه وإلى بيته الأبوي (لوقا 15: 11-32) ومثل “السامري الرحيم” (لوقا 10: 25-37). الذي يكشف عن رحمة الانسان تجاه أخيه الإنسان. فالسامري لم يكتف بالشفقة على أخيه المجروح، بل عمل لمساعدته وشفائه. رحمة الله لنا ورحمتنا للقريب أمران مرتبطان. فبدون اختبار رحمة الله في حياتنا، يصعب أن نكون رحماء تجاه غيرنا. ولهذا أوصانا المعلم: “كونوا رحماء، كما أن اباكم السماوي رحيم” (لوقا 6: 36).

       يجب أن تشمل الرحمة الجميع، الأقارب والأباعد، مَنْ نحبّ ومَنْ نَكرَه. مِن السهل أن نرحم مَن تربِطُنا بهم صلةُ الرحم والقرابة والدين والعرق. ولكن من الصعب توسيع دائرتها لتشمل فئات الفقراء، والمـُهمَّشين، والمـُهجَّرين، واللاجئين، والمظلومين، والسجناء.

        ومن هنا- بيت لحم السلام والعيد والأمل. نتذكر ونصلي لأجل كل ضحايا العنف والارهاب في فلسطين العزيزة والدول المجاورة. نفكر بملايين اللاجئين الساكنين في المخيمات أو البركسات، يعانون من البرد القاتل. نفكر بالفارّين من مناطق الصراعات، يعبرون البحرَ في قوارب هشة طلباً للحياة والحرية فيتحول البحر إلى مقبرة جماعية.

        نذكر بصلاتنا أصحاب البيوت المهدومة في القدس وفلسطين وأصحاب الأراضي المصادرة، وفيمن وقع عليهم العقاب الجماعي. نفكر بضحايا الارهاب في كل مكان ومن أي شعب كانوا. اولئك كلهم إخوتُنا في الانسانية. لتُصبِحْ صرخَتُهُم صرخَتَنا، ولنهدِم معًا حاجزَ الكراهية واللامبالاة.

       ومن هنا نحيّي الدول التي فتحت أبوابها للمهجرين: الاردن ولبنان وتركيا ودول اوروبية كثيرة. ونحث الدول المترددة الى تجاوز الخوف من هؤلاء اللاجئين، كي تأويَهُم ريثما تصلُح الأحوال ويعودوا الى بيوتهم.

       أيها الإخوة والأخوات،

ليست الرحمة نهج تعامل فردي، من شخص لشخص وحسب، هي أيضًا نهجٌ للحياة العامة في مرافقها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وعلى كل المستويات: العالمية والإقليمية والمحلية، وفي جميع الاتجاهات: بين الدول والشعوب والديانات. وعندما تصبح الرحمة مكوّنًا من مكوّنات العمل العام، فإنها كفيلة بأن تنقل العالم من مستنقع الأنانية إلى دائرة القيم السامية، ممّا يُسهِم في بناء عالم أفضل. “إنّ الرحمة عمل سياسيّ بامتياز، إذا أخذنا العمل السياسي بمعناه الكبير والنبيل، اي إدارة الأسرة البشرية على اسس أخلاقية، تكون الرحمة إحدى مكوناتها، بعيدا عن العنف والظلم والتسلّط والهيمنة”. (البابا فرنسيس).

       في عالم يتوجه أكثر فأكثر نحو القسوة والعنف، تكمن دعوة المؤمن في الشهادة للرحمة الإلهية، بالتعاون مع ذوي الإرادة الصالحة. إن بذور الرحمة مزروعة في كافة الديانات. إنها تربطنا مع اليهودية والإسلام الذين يعتبرها من أبرز صفات الله. فقبل أن يكون الله هو المهيمن الجبار، والخالق والقهار، انما هو الرحمن الرحيم.

       وما علينا إلا أن نفعّل هذه البذور لتنمو في حياتنا الخاصة والعامة. وهكذا نعملُ معا لعالم جديد، يسوده العدل والسلام والمودة والاحترام المتبادل. إننا ندعو جميع المؤمنين بالله، أن ينَمُّوا في قلوبِهِم معاني الرحمة، كي تتحوَّل إلى ثقافة مشتركة في حياتهم العامة والعائلية.

       والدعوة الى الرحمة موجهة ليس فقط للصالحين
، أصحاب الخُلق الكريم، ولكن أيضا لمسببي الشر والظالمين كي يتوبوا ويعودوا عن ضلالهم – انه نداء واضح وصريح إلى الذين يتحكّمون بمقدِّرات الشعوب

– هو نداء إلى صانعي سياسات الموت، كي يعوا ويعودوا إلى ضميرهم ويغلِّبوا كرامة الإنسان، على مصالحهم المادية.

– انه نداء الى صانعي ومروجي وباعة الأسلحة الفتاكة، الذين يبنون ثروتهم على حساب دم الاخرين. خافوا الله يا جماعة، وانظروا إلى أين أوصلتنا مثل هذه السياسة العمياء.

       يجب أن يصل نداء الرحمة هذا الى الأشخاص المتواطئين مع الفساد. إن هذه الآفة العفنة في المجتمع، هي خطيئة كبيرة تصرخ نحو السماء، لأنها تهدّد أُسس المجتمع. فالفاسد، باستبداده وجشعه، يظلم الضعفاء ويسحق أكثرهم فقرًا. وما مِن أحد يستطيع الادعاء بأنه محصَّن من هذه التجربة. ولاستئصالها من الحياة الفردية والاجتماعية، لا بدّ من اليقظة، والنزاهة، والشفافية، والرجوع لله في سنة الرحمة هذه. لمثل هؤلاء الفاسدين نصلي اليوم. لعل ضميرهم يصحو فيسمعوا النداء قبل فوات الأوان.

أيها الإخوة والأخوات،

  ليست الرحمة ضعفًا، بل تعبيرٌ عن قدرة الله التي تتجلّى أسمى تجلٍّ، عندما يرحم ويغفر. كما لا يوجد تنافر بين رحمة  الله وعدله، فهو عادل ورحيم بنفس الدرجة. ومن يرفض اللجوء الى رحمته فانه سيقع تحت قبضة عدله الشديد. وهذا ما يمنح أملا ورجاء للشعوب والأفراد الذين وقع عليهم ضيمٌ وإجحاف. ولذا قال السيد المسيح محذّرا: “بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم”.

       في هذا المساء الذي نحتفل فيه بميلاد رئيس السلام، الذي جاء مبشراً بالرحمة: “طوبى للرحماء فانهم يرحمون”، نصلي من أجل كل النيات التي ذكرت. نصلي كي يتغير وجه الأرض فيصبح عالمنا مكانا امنا للعيش، يسوده العدل بدل الخصام، والرحمة بدل الثأر، والمحبة بدل الحقد.

       لكم جميعاً أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، المشاركون في الصلاة والمشاهدون، ولكم سيادة الأخ الرئيس، وأنتم أبناء مدينة بيت لحم المباركة، ولكم جميعاً أبناء هذه الأرض المقدسة مسيحيين ومسلمين ويهوداً وسامريين، نتمنى سنةً جديدةً ملؤها الخير والبركة والصحة الجيدة.

 “اللهم اذكر، حنانك ومراحمك، فإنها قائمة منذ الأزل.” آمين.

                                            البطريرك فؤاد طوال                                                           بطريرك القدس للاتين

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير