Wikimedia Commons

دخول يسوع المسياني إلى أورشليم

” تخرُج الحقيقة من فم الذين ليسوا في أعين العالم بشيء”

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

كيف ستستقبلُ أورشليمُ ماسيّها ؟ في حين كان يسوع يتهرّب دائمًا من المحاولات الشعبيّة لإعلانه ملكـــًا ، فهو يختار الزمان ويُهيّئُ تفاصيل دخوله المسيّاني إلى مدينة ” داود أبيه ” (لو 1 : 32) . فيُهتَف به ابن داود ، الذي يحملُ الخلاص (هوشعنا ) تعني ” إذَن خلِّص ! ” ” إمنح الخلاص ! ” . فملكُ المجد يدخُل مدينته ” راكبــــًا على جحش ” (زك 9 : 9 ) : إنه لا يستولي على ابنة صهيون ، رمز كنيسته ، بالحيلة أو بالعنف ، بل بالتواضع الذي يشهدُ للحقّ . ولهذا فأبناء مملكته ، في ذلك اليوم ، همُ الأحداث و ” مساكين الله ” ، الذين يهتفون له كما كان الملائكة يبشّرون به الرعاة . وهتافهم ” مباركٌ الآتي باسم الربّ ” (مز 118 : 26) تردّده الكنيسة في ” قدّوس ” الليترجيّا الإفخارستيّة لافتتاح ذكرى فصح الربّ .
إنّ دخول يسوع الناصريّ إلى أورشليم ، يُظهر مجيء الملكوت الذي سيُتمّه الملك الماسيّا بفصح موته وقيامته . وبالإحتفال به في أحد الشعانين تفتتح ليترجيّا الاسبوع العظيم المقدّس .
دخولُ يسوع الناصريّ إلى مدينة أورشليم ، هو دخول ملوكيٌّ ظافر . يعمل يسوع ، في ذات الوقت ، أمرين : يأتي بالسلام ، ليس سلامـــًا سياسيّا (وهذا ما ظنّوه الكثيرين في زمن يسوع ! ) ، بل سلامــــًا مع الله ومصالحة ؛ والأمر الآخر : دخوله هو لتوبيخ المدينة على قتلها للأنبياء والمُرسَلين ! إنه يقرّ بأنّ لا حجرَ على حجر سيبقى مستمرّا على ما هو عليه ، بل سيُنقضْ ويُهدَم . ويُقدّم لائحة بالويلات العنيفة للفريسّيين المرائين ! (ويجبُ أن نهابها نحنُ أيضا في زماننا )
كتبَ بوسّويه يقول ، إنّ دخول يسوع أورشليم كان ” الدخول الأبهى “، والأشدّ تألّقـــا ، حيث نرى إنسانــا كان يبدو آخر البشر تقديرًا وسلطانـــا ، يتلقّى ، فجأة ، من الشعب كلّه ، في المدينة الملكيّة ، وفي الهيكل ، أعظمَ من كلّ ما تلقّاه أعظمُ الملوك ” . لكنّ إنتصار المخلّص ظلّ متواضعا (يحملُ سمات الله ذاته) ، مثلما كانت حياته كلّها . فهو ، مع إتاحته للشعب بإطلاق العنان لإيمانهم وحبّهم ، ورغم تعاطفه مع إندفاعهم ، كان حريصً على أن يبدو مسيحـــًا مملكته ليست من هذا العالم . فليست مملكته مملكة ً ” سياسيّة ” ، بل هي ، من ” الله ” (ملكوت الحب والرحمة).
يقول اللاهوتيّ رومانو غواردينيّ (الإسبوع العظيم في آلام المسيح وموته ) : ” تضعُ الأناجيل الإزائيّة الثلاثة حادث تطهير الهيكل من رجاسة باعة الحيوانات ، فيما يضعُ إنجيل يوحنا الحادث هذا في رحلة يسوع الآولى إلى أورشليم (يو 2 : 14 ) .. وربّما كان حادث اليوم هو الثاني من نوعه ؛ وليس من المستغرب ، والحالة هذه لم تتغيّر ، أن يأتي مثل هذا الحادث مرارًا . وشفى يسوع هناك مرضى كثيرين ، فيما كان التلاميذ والشعب والأولاد يطوفون الأروقة والباحات صارخين بأصوات ٍ لا تني :هوشعنا لابن داود ” . ولمّأ جاءَت سلطات الهيكل تسأله : ” هلّا سمعت هذه الأصوات وقبلتَ بها ؟ وهل نرضى بجسامة ما يعلنون من أنك المسيح ” ؟ وعلى هذا يُجيب يسوع ” تخرجُ الحقيقة من فم الذين ليسوا في أعين العالم بشيء ” . (لو سكتَ هؤلاء ، لنطقت الحجارة ! ) : لذابَ الجلمود الأًصمّ لهذه الأحداث العجيبة الرهيبة ، فأدّى لها الشهادة .
إنّ روح النبوءة تقومُ في الشعب ذاته ، فلقد خمدَ صوتُ الأنبياء منذ أمد طويل . فمضت على ملاخي آخرهم قرون عديدة ، خمدَ بعدها صوتهم حتى يوحنّا … الذي جاء صوتـــــًا صارخا في البريّة ، فانتعش صوته للحظة ٍ ثمّ إنطفأ . وماتَ يوحنا هو أيضا ، وإذا بروح النبوءة يقوم للمرّة الأخيرة ، لكن في الشعب نفسه ، إذ يستولي عليه الروح فيتنبّأ (في الروح) بنظراته ، بتأويلاته ، بأعماله . “وإذا بالخبرة النبويّة تــُزيل الحدود التي ، في داخلها ، حُبِس تاريخ كيان البشر ” ( رومانو غوارديني ) .
نحنُ الذين نعيش تاريخيّا ، إننا نقفُ بين الناس الذين يرون منّا الخارج ولا يرون الباطن ، كما أننا لا نرى منهم الباطن ، وليس من سبيل ٍ إلى رؤية الباطن وسماعه ، وإدراكه ، إلا إذا انفتحَ وأعربَ عن نفسه . وذلك حسن : إذ هذا هو أساس الإحتشام والإحترام ، كما وإمكانيّة أعمالنا ، ومخاطراتنا ، ومصائرنا . فلو كان الباطن مكشوفـــا ، لكان التاريخ مستحيلا ، إذ لا يمكن أن يكون للتاريخ سياق إلا بين البواطن المحتجبة . أما في الأبديّة ، حيث النفوس شفافة ، فليسي للتاريخ من وجود ؛ هكذا النبيّ ، فالعكس معه هو الصحيح : إذ يلِجُ ، منذ الآن ، باطن الآخرين ، فيرى في الآخر ، بل يكون هو ، بنعمة من الروح ، في الآخَر ، فيراه من الباطن . إن القدرة التي تمنح المعرفة هنا ليست قدرة بشريّة ، بل روح الله نفسه يعمل بواسطة البشر . لذا فــ ” الصغار ” هؤلاء هم أكثر من غيرهم قبولا لهذا الروح ، لأن نجاحهم الخاصّ ليس حريّا بأن يقطع عليهم الطريق : فإنّما هم أولئك الصغار الذين تكلّم عنهم يسوع ، ” الذين لهم ملكوت الله ” (متى 11 : 15) ؛ (مر 10 : 14) . وها هي قدرة الخالق تعمل عملها : إن أحجَم الناسُ وسكتوا ، أدّت حجارة الطريق شهادتها .
يمكننا أن نرى ، مع البابا بنديكتوس السادس عشر ، في صعود يسوع للحجّ وحيدًا من الجليل إلى أورشليم ، تقديم ذاته على الصليب ، بديلا عن الذبائح القديمة . تصفه الرسالة إلى العبرانيّين بأنه يشبه الصعود إلى الخيمة ، الموجودة في السماء نفسها أمام وجه الله ، لا الخيمة التي يصنعها الإنسان . هذا الصعود أمام وجه الله يمرّ عبر الصليب – إنه الصعود نحو ” الحبّ إلى أقصاه “( يوحنا 13 ) ، الذي هو جبل الله الحقيقيّ .
نرى في المشهد الملوكيّ أيضا ، أمرًا لربّما لم نعطه إلى الإدراك القليل وعدم المبالاة ، وصل يسوع ، آتيًا من بيت عنيا وبيت فاجي (بيت الطاعة وبيت الفك أو عظام الفكّ حسب شروحات آباء الكنيسة ) ، إلى جبل الزيتون ، حيث كانوا ينتظرونَ دخول الماسيّا ، أرسلَ تلميذين ، وقال لهما: ستجدان حمارًا مربوطــــًا ، أو جحشا ، لم يمتطه أحد من قبل ، حُلاّ زمامه وأتياني به . وإن سُئلتما ، قولا : الرب يحتاج إليه ” (مر 11 : 3 ؛ لو 19 : 31 ) . ربّما بدا هذا الأمر تافهـــًا بالنسبة لنا اليوم ! لكنه كان مليئا بالمعاني الخفيّة لمعاصري المسيح من اليهود . فموضوع الملك ماثلٌ هنا بكلّ وعوده . ولقد طالب يسوع بحقّه في المُلك ، بإستقدامه وسيلة النقل تلك ، وهذا حق معروف في كلّ العهد القديم . وكون المسألة تتعلّق بحيوان لم يركبه إنسان يقود إلى التفكير في حقّ ملكيّ.
نرى أيضا توازيا عجيبًأ بين دخول يسوع أورشليم ، ودخوله العالم من البتول مريم ! . فحينذاك أيضا ، لم يكن أحد ، في مدينة أورشليم ، يعلمُ شيئا عن المولود الجديد ملك اليهود . في دخوله أورشليم ، يقول الإنجيل ” إرتجّت المدينة كلّها … ” ، وفي متى 2 : 3 ، نجدُ أن خبر ولادة يسوع جعلت أورشليم ” ترتجّ ” . الآن ، هي مذعورة . يستعملُ الإنجيليّ متى كلمة ” اضطربتْ ” ، التي تعبّر عن ارتجاج ناتج عن هزّة أرضيّة . الطفل : يقول يسوع ، دعوا الأطفال يأتونَ إليّ لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله . فالأولاد ، بالنسبة ليسوع ، همْ المثل الذي ينبغي أن نقتديَ به ، كي نتمكّن من العبور من ثقب الإبرة ( أي أن نكون صغارًا بالروح ، بالطاعة ، وبالبراءة ، بالحبّ ) كي نقدرُ أن نرى وجه الله . فيسوع يتماهى في الطفل نفسه ، ويجعلُ من ذاته صغيرًا ، ولانه ابن ، فهو لا يفعلُ شيئا من تلقاء ذاته ، بل يسلك بوجه كامل إنطلاقا من الآب ومن أجله . وهذا ما يرمزُ إليه ” وكان آتيًا من بيت عنيا وفاجي ( بيت الطاعة – بيت عظام الفكّ) / أي الابن المطيع ، والذي يُضربُ على وجهه ولا ينطقُ ببنت شفه ! لاجل خلاص العالم .
المراجع
التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة
رومانو غوارديني ، الأسبوع العظيم في آلام المسيح وموته
يسوع الناصريّ الجزء الثاني ، البابا بنديكتوس السادس عشر
أديب مصلح ، يسوع في حياته الجزء الثاني

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير