3- “فرح الحبّ” يؤكّد ويُرشد
إنّ الفرح في الحبّ يحصل عليه الثنائيّ عندما يُدرك تمامًا ماهيّة الحبّ الزوجيّ والحياة المشتركة. ولإدراك تلك العمليّة الواقعيّة، أي الحبّ والحياة الزوجيّة، لا بدّ للثنائي من أن يعرف “بعض” المبادئ ويدركها وأن يعمل بجهد على تحقيق تلك المبادئ والمفاهيم بكلّ واقعيّة متسلّحًا بالوعيّ والنضج والعمل على الانسجام مع شريكه كما التحلّي بالعطاء والسخاء والمجّانيّة ونكران الذات، كما الثقة والإيمان بالآخر من أجل تفعيل المشاركة الحقيقيّة المبنيّة على التواصل والاتّصال والحوار المستمرّ. “فالحبّ بحاجة إلى الزُهد المتّسم بالإمّحاء ونكران الذات من أجل الحبيب وفكرة الحبّ الساميّة والمقدّسة. فالزهد المعبّر عنه بالحضور للحبيب، يعطي القوّة للمواجهة وتحقيق الانتصارات والوصول إلى الذات وذات الحبيب” [1] ويقول أيضًا البابا بهذا الخصوص “إنّنا عندما نحبّ شخصًا نهبه مجانًا شيئًا ما” (عدد 127)؛ “إنّ الحبّ يفتح العينين ويسمح بأن ندرك فوق كلّ شيء كم هي كبيرة قيمة الإنسان” (عدد 128). ويتابع الإرشاد قوله “إنّ الأفراح الأكثر قوّة في الحياة تولد حين نتمكّن من تقديم السعادة للآخرين، إستباقًا للسماء” (عدد 129).
إنّ الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” بفقراته المتعدّدة يشدّد على فكرة الحبّ التي تطاول مباشرة الحبّ الزوجيّ وأهميته وضرورة الزواج المبنيّ على الحبّ الذي يؤدّي إلى النجاح والاستقرار والبهجة والفرح. من هنا ركّز الإرشاد بأعداده من: 131 إلى 157 على “زواج عن حبّ” متحدّثًا عن جدّية القرار والخيار كما على الحبّ الذي يظهر وينمو “فالحبّ الذي لا ينمو يتعرّض للمخاطر، ويمكننا النموّ فقط بتوافقنا مع النعمة الإلهيّة عبر المزيد من أعمال المحبّة، ومن أعمال الحنان، مع المزيد من التكرار والقوّة والسناء والعاطفة والفرح” (عدد 134). ولكي ينمو هذا الحبّ لا بدّ من المحافظة عليه بشتّى الطرائق والوسائل والإمكانات ومنها الحوار التي يركّز عليه الإرشاد “الحوار هو أسلوب مميّز وضروريّ للعيش، وللتعبير عن الحبّ وإنضاجه في الحياة الزوجيّة والعائليّة، إنّما هذا يتطلّب تدريبًا طويلاً وشاقًا” (عدد 136). ويشرح بإسهاب الإرشاد كيفيّة عمليّة الحوار وضرورة تفعيله من خلال طرائق حديثة بهدف إنجاح الحياة الزوجيّة واستمرارها بشكل يؤدّي إلى نموّ الثنائيّ على جميع الصُعد. ويتابع الإرشاد إرشاداته حول الحبّ وعيشه وتطبيقه من خلال “الحبّ المتّقد” “إنّ الحبّ بدون متعة أو شغف ليس كافٍ يرمز إلى إتّحاد قلب الإنسان مع الله…” (عدد 142) ويتطرّق الإرشاد إلى عالم المشاعر والرغبات والعواطف والشغف؛ ويشرح مطوّلاً عن تلك القوّة التي وهبها الله للثنائي من أجل إحياء الحبّ بشكل جميل ورائع؛ فيعطي البهجة والسعادة والانشراح؛ ممّا يؤدّي إلى تفعيل الحياة العاطفيّة والجنسيّة نحو النموّ والنضوج، “الحبّ الزوجيّ يدفعنا لجعل الحياة العاطفيّة بأسرها تصبح خيرًا للعائلة وتكون في خدمة الحياة المشتركة. تتوصّل العائلة إلى النضوج حين تتحوّل حياة كافة أعضائها العاطفيّة إلى حساسيّة، لا تسيطر على الخيارات الكبرى والقيم ولا تُظلمها، إنّما تعزّز حرّيتها، وتنتج عنها، وتغنيها، وتجمّلها، وتجعلها أكثر إنسجامًا، لما فيه خير الجميع” (عدد 146).
وينهي الإرشاد الفصل الرابع بالتشديد على أهميّة البُعد الجنسيّ للحبّ، مركّزًا على تصحيح النظرة إلى الجسد واستعماله في هدف نموّ الثنائيّ “فجسد الآخر غالبًا ما يتمّ التلاعب به كشيءٍ نبقي عليه طالما أنّه يُشبع الرغبات ومن ثمّ الازدراء به حين تنحسر جاذبيته”. ويتابع الإرشاد توضيح النظرة المسيحيّة للجسد وللعلاقة العاطفيّة الجنسيّة التي تصبّ في خانة نجاح الاتّحاد الزوجيّ والتي تجعل من الزواج حالة من الاستقرار والتجدّد والفرح. بالتأكيد إنّ الحبّ المعبّر عنه بالحياة العاطفيّة الجنسيّة ما هو إلاّ عطاء للآخر وقبوله (أخذ وعطاء). فالانجذاب الجسديّ المتبادل هو علامة للانسجام والرضى الزوجيّ. لذا لا بدّ للثنائيّ معايشة تلك الحالة بتناغم ووعي وفرح. وهنا يتطرّق الإرشاد إلى إمكانيّة “تحوّل الحبّ” أي تبدّل مظاهر أو بعض “علامات” الحبّ: الرغبة والعلاقة الجنسيّة-الحميميّة والانجذاب الجسديّ وإلى آخره، ولكن على الزوجة والزوج أن يجدّدا اختيارهما وقناعاتهما وثقتهما بفضل الحنان والعاطفة وعمل الروح القدس.
4- الحبّ الزوجيّ في مهبّ الريح ولكن نعم للحبّ
بعد عرضنا لبعض أفكار الإرشاد “فرح الحبّ” التي تتناول “قضية” الحبّ من عدّة جوانب، تبقى الأسئلة كثيرة حول حقيقة “وجود” الحبّ وطريقة نجاح تجسيده في حياة الثنائي من قبل بعض المشكّكين أو الذين عاشوا خبرات سلبيّة وإلى آخره. بالتأكيد نراقب ونسمع ونحلّل وهذا يُعطينا القدرة على الاستنتاج الواقعيّ والعمليّ والعلميّ حول مبادئ الحبّ ووقعه على حياة الإنسان. كما يساعدنا على ألاّ نقع في الوهم والمثالية والطوباوية.
نريد أن نقول ونؤكّد بأنّه بالرغم من كلّ شيء، يبقى الحبّ الرابط الأساسيّ والأخير بين الناس؛ فهو يعطي الحياة ويعزّز رونقها وجمالها ومعناها. ينطلق المعنى الوجوديّ للإنسان من الحبّ ويتمّ من خلاله. نعم، نسمع كثيرًا في مجتمع عصرنا عن حالات سلبيّة وخبرات فاشلة تطاول الحبّ والزواج والعائلة، ولكن هناك أيضًا خبرات كثيرة تتّصف بالإيجابيّة. ولكي لا يذهب الحبّ الزوجيّ في مهبّ الريح أو يطغى عليه فقط طوفان “الحضارة” والتِكنولوجيّا والتفلّت من المبادئ والقيم والمسلّمات؛ ونبذ الشرائع الإلهيّة والتحرّر من القواعد الإنسانيّة والأخلاقيّة والتلطّي بالصعوبات والمشاكل والخيبات وتمادي العنف الأسريّ والقتل باسم الحبّ والشرف وتكاثر حالات الطلاق والبطلان (الفسخ) والهجر وإلى آخره من أخبار تشوب حالة الحبّ ومظاهره. لذا يجب أن نعرف إبراز “قضيّة” الحبّ بمبادئه وقيمه وقدسيته. يبقى الحبّ جامع القلوب والعقول من أجل خير الإنسان. إنّه القوّة الفاعلة والأساسيّة في استمرار الحياة على الأرض وبين الناس. نعم، يبقى الحبّ غير المشروط أي المجّاني يُحدث تغييرًا جذريًّا في حياة الثنائيّ، لأنّه ينطلق من السخاء والثقة والإيمان بالآخر فيسود السلام ويعمّ بالفرح. نعم، يبقى الحبّ قرار والتزام، وإذا أدرك الرجل والمرأة المتطلّبات الواجبة، يدخلان في “قفص الفرح”. نعم، يبقى الحبّ أقوى من الشعور والرغبة والميل والنشوة بل هو أيضًا الحنان والعطف. فالحبّ في الأساس وفي عمقه موقف إيجابيّ من الشريك (الرجل والمرأة) من أجل الاهتمام براحته وطمأنينته ونموّه وسعادته وإلى آخره. نعم، إنّ العاطفة والشعور والإحساس والرغبة والانجذاب يؤجّجون الغرام وبذلك يُصبح حبًّا وينمو يومًا بعد يوم. بالتالي لا يمكن أن يتحوّل الحبّ إلى مجرّد شعور وإحساس ورغبة ولكن ما من علاقة حبّ وزواج تُكتَب لها الحياة والاستمرار إذا ما خلت من مشاعر حبّ وعاطفة وحنان والتي تدعم قرار وخيار الرجل والمرأة على نجاح حبّهما مكلّلاً بالفرح. يبقى الحبّ عطاءً قبل أن يكون أخذًا، فكما يعطي الإنسان بمجّانيّة وسخاء يحصل أيضًا دون أن ينتظر. فالعطاء والأخذ هما مفتاح الحبّ. الحبّ يُدخل الشريك إلى جوهر حقيقة الشريكة والعكس صحيح، وإلى حياته الحقيقيّة فيتعرّف الشريك على ذاته وعلى الآخر. ويعيشا بطريقة مختلفة وجديدة كما لم يعيشا قطّ من قبل. وأن يكونا أنفسهما كما سبق ولم يكونا قطّ. وأن يصبحا ما هما عليه وأن يقوما بكلّ شيء معًا وأن يحيلا كلّ شيء إلى “نحن” التي يجب أن تحتلّ بقدرٍ كبير مكان ال”أنا”. وأن يستمرّ ذلك ويتكرّر بدون توقّف بعد العديد من المعاناة والحسرة والأغلاط والحزن والافتراق.
نعم، بالرغم من كلّ شيء فالحبّ لا ينتهي ولا يذوب ولا ينحلّ، بل يتجدّد دائمًا في قلوب الأحبّاء لأنّه رهان الحياة. فبالرغم من التبدّلات والتحوّلات التي تطرأ على حياة الشركاء (الرجل والمرأة) يبقى الحبّ أقوى من الفشل ومن الموت.
نعم، الحبّ يدعّم احترام الذات والآخر، ويقوّي الشريك ولا يمتلكه بل يحرّره من ال”أنا” ويجعله منفتحًا على الآخر والمجتمع. “إنّ لقاء الحبّ يولد من الحريّة، ومن الحريّة يولد لقاء الحبّ. إنّ الحبّ والزواج يجب أن يتحرّرا من أي ضغط خارجيّ”[2]. فخبرة الحبّ الإيجابيّة بين الرجل والمرأة من شأنها أن تكون طريقًا إلى التحرّر والنضج والاكتمال الذاتيّ أي تحقيق الذات من خلال قبول الذات وقبول “ذات” الآخر. “ومن الضروريّ أيضًا محبّة الآخر، لا محبّة الذات في الآخر. محبّة لذاته لا لأجل ما يحمل إلينا من ذاته “.[3]
دعوتنا إلى الشباب والمتزوّجين، الإصغاء إلى صوت الحبّ الذي يخاطبهم بشتّى الوسائل والطرق، وهذا يتطلّب منهم الكثير من الإصغاء والحوار والتواصل والشراكة والتبصّر والتمييز والمعرفة والشجاعة والسخاء والإقدام. فالمجازفة تستحق أن يخوضها أصحاب العشق والغرام لتتحوّل حبّا عميقًا صادقًا صامدًا في وجه الأعاصير والطوفان والرياح التي تعصف. نعم، يبقى الحبّ أقوى من كلّ شيء لأنّه الحبّ. ولأنّه فعل إيمان وحضور ورجاء. نعم للحبّ، لأنّ عندما يريد الإنسان أن يحبّ حقًّا وبكلّ ما يطلبه الحبّ؛ فلا بدّ له أن يعبّر على الحبّ وأن يحافظ عليه بالرغم من كلّ شيء. وللحصول على الفرح والسعادة لا بدّ أيضًا للرجل والمرأة أن يسيرا ويترافقا معًا في مسيرة قد تطول من خلال مرورها بمخاطر جمّة وصعوبات كبيرة. وإذا عرفا أن يحتضنا حبّهما بوعي وشفافيّة وثقة لا بدّ أن يصلا معًا إلى الفرح وقبول الذات وملء الحياة. فالحبّ هو العيد الذي لا ينتهي. فهو يستمرّ على قدر ما يعمل الرجل والمرأة في سبيل إنجاحه. فالوحدة بينهما تؤكّد على نجاحه واستمراره بأشكال مختلفة وتعابيرٍ شتّى. “إنّ الحبّ هو الذي يخلق لقاءً قويًّا وعميقًا بين الرجل والمرأة، خصوصًا إذا كان هذا الحبّ متمتّعًا بالاستمراريّة. والإخلاص شرط أساسيّ من أجل أن يعيش الحبّ وينمو … ]…[ … يسير الحبّ في المقدمة ليقدّم خدمة، ويقترح صداقة، ويوفّر دعمًا. إنّه يتقدّم نحو الآخر، لا ليمتلكه، بل ليعطيه ويقبل الأخذ منه”.[4]
نعم للحبّ، ولكن على الرجل والمرأة أن يحضّرا الطريق الصحيح والقويم، من خلال الإعداد البعيد والقريب والمباشر، والذي يجب أن يأخذ منحىً مهمًّا في تحضير الزواج المقدّس.
الأب نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
[1] كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، كي نبقى معًا، الزواج واقع وآفاق، الجامعة الأنطونيّة،لبنان، 2005، ص 73
[2] نجيب بعقليني، الطريق إلى الزواج، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2007، ص 50
[3] المرجع السابق، ص 50
[4] المرجع السابق، ص 50