1 – إنقلاب أم تجدّد وتطوير؟!
تعتبر “الثقافة المستحدثة” أو التطوّر “الثقافيّ المتجدّد” في عالم اليوم، أنّ التكوين الطبيعي للإنسان وللبشرية، بحاجة إلى إعادة النظر، والبحث مجدّدًا، عن حقيقة ضاعت في مهبّ التعاليم الدينيّة أو الخضوع الأعمى للتعاليم والشرائع الإلهيّة. وتذهب “الحضارة المفبركة” بتغيير المفاهيم والمبادئ والأسس والمقوّمات، التي بُنيت عليها البشرية منذ خلقها؛ وعلى رفض القانون الطبيعيّ والاعتراض عليه. وهذا “الانقلاب” على الواقع الطبيعيّ، لمسيرة الإنسان على الأرض، يطاول مفهوم الحبّ والزواج والعائلة.
نتطرّق من خلال هذه الأسطر، إلى مفهوم الزواج، من منظار الإرشاد الرسوليّ حول العائلة، بعنوان “فرح الحب”. فهدفنا، هو توضيح مبادئ الزواج، القائم بين الرجل والمرأة، من خلال التركيبة البشرية، المبنية على القانون الطبيعيّ، كما رسمه الله، ووضعه من أجل خير الإنسان “ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم إمرأته فيصيران جسدًا واحدًا” (تك 2: 24)؛ كما التأكيد على أنّ الزواج بين الرجل والمرأة هو دعوة ونعمة من الله. فالزواج المبنيّ على الحبّ يُسهم في نجاح العائلة.
استُهلك موضوع الزواج، على مرّ العصور، ولكنّه يبقى حديث الساعة، لا سيّما في هذه الأيّام، مع تواجد تيارات فكريّة واجتماعيّة ضاغطة مخالفة لشريعة الطبيعة، من أجل إبراز وتطبيق مفاهيمها ومعتقداتها وأساليبها ونظرتها، لقضية الزواج. تلك التيارات تؤثّر سلبًا، على فكرة الزواج، زِد على ذلك “بعض” النتائج السلبيّة، التي تشوّه حالة الزواج والشركاء معًا، أبرزها: الفشل في استمرار العلاقة والعنف والقتل وإلى آخره. ندرك جيّدًا تلك الحالات وسواها والتي تطاول بنيويّة الزواج، ولكن لن نتوقّف عندها كثيرًا، وإنّما نريد أن نؤكّد، بأنّ الزواج هو سرّ من أسرار الكنيسة، كما هو حالة طبيعيّة بين الرجل والمرأة، كما أرادها الخالق لإسعادهما، إذا أحسنا الخيار وعملا على التربية والتنشئة ومعرفة إدارة حياتهما.
“فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: “إنموا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها…” (تك 1: 27-28). ويتابع الكتاب المقدّس تعليمه حول الزواج فيقول:”وقال الربّ الإله:”لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فلأصنعنّ له عونًا يناسبه… ]…[ وأمّا الإنسان فلم يجد لنفسه عونًا يناسبه … ]…[ وبنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من الإنسان امرأةً، فأتى بها الإنسان” (تك 2: 18-22). ويذكر الكتاب المقدّس، هذا الترابط والتعاون والتفاعل، بين الرجل والمرأة، عندما يعيشان الحبّ معًا. وهنا نستشهد بنشيد الأناشيد “حبيبي لي وأنا له ]…[ أنا لحبيبي وحبيبي لي” (الأناشيد 2: 6؛6: 3)
يعتبر البعض، أنّه حان الوقت، لتطوير فكرة وهيكليّة الزواج والعائلة. نعم، نحن مع التجدّد والتطوّر في الأداء والتصرّف، وليس بتغيير التركيبة والأسس والمبادئ، التي نشأ على أساسها الزواج والعائلة. من هنا، نطرح هذا الموضوع، مستعينين برؤية ونظرة ومفهوم الكنيسة، لسرّ الزواج، من خلال الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، الذي صدر عن البابا فرنسيس حول العائلة ( 8 نيسان 2016)
2- الزواج “شركة حبّ وحياة”
تعترف وتعتبر الكنيسة، مثل سائر الديانات والحضارات، بأنّ الزواج مؤسّسة طبيعيّة. وتؤكّد الكنيسة، من خلال تعليمها، بأنّه هو أيضًا في نظام الخلق “إنّ الشركة العميقة، شركة الحياة والحبّ، التي يقيمها الزوجان، قد أسّسها الخالق وجهّزها بقوانينها الخاصة. فالله هو نفسه الذي وضع الزواج. الدعوة إلى الزواج منقوشة في طبيعة الرجل والمرأة كما خرجا من يد الخالق.”[1] وتعلّمنا الكنيسة، بأنّ الزواج، هو عهد وحبّ وحياة، أي أنّ الله، الذي خلق الإنسان عن حبّ، يدعوه إلى هذا الحبّ بالذات. وهي دعوة فطريّة أساسيّة وجوهريّة في كلّ إنسان. وهذا يخلق عهد الحبّ والحياة شركة بين الزوجين (الرجل والمرأة)، لمدى الحياة، تتصف بالوحدة والديمومة والحبّ والأمانة.
إنّ الحبّ يتجه إلى ذات الشخص الآخر؛ “أوكَلَ الله إلى الرجل والمرأة شرارة حبٍّ حقيقيّة، وهما يدركان الفرح الناتج عن حبّهما، ولكنّه ليس فرحًا أنانيًّا متّصلاً بالاحساس وحده. إنّه فرح حبّ الذات من خلال الآخر.”[2] ويؤكّد هذا الحبّ الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” ويقول في العدد 27 “لقد أدخل المسيح قبل كلّ شيء كعلامة مميزة لتلاميذه شريعة الحبّ وهبة الذات للآخرين، وقد قام بهذا من خلال مبدأ الأب والأم من خلال حياتهما الشخصيّة “ليس لأحد حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه” (يو 15: 13). فالرحمة والمغفرة هما من ثمار المحبّة أيضًا”. ويتابع الإرشاد “في منظور الحبّ، هناك فضيلة أخرى أيضًا، وهي أساسيّة في الاختبار المسيحيّ للزواج وللعائلة، وهي فضيلة مجهولة بعض الشيء في زمن العلاقات المسعورة والسطحيّة هذا: ألا وهي الحنان”.
الزواج مجبول بالحبّ، من هنا، يجب على أصحاب الغرام، أن يدركوا مفهوم الحبّ ومبادئه ونتائجه. فالحبّ، لا يكون مع أوّل خطوة وفي البداية فقط، وإنّما في آخر الطريق وحتّى النهاية:” إنّ شرارة الحبّ هذه تفرض مسؤوليّة تقدّس القلوب، وتتوق إلى أن يُعطي الواحد ذاته للآخر بالأبوّة والأمومة. إنّ الزواج هو “مكان” اتّحاد الله بما يعطيه الشريك لشريكه.”[3]
إنّ سرّ الزواج يُدخل الثنائي في سرّ الخلاص، مع كامل واقعهما كرجل وامرأة. إنّه علامة العهد، بين الله والبشر وبين المسيح وكنيسته. “إنّ الرجل والمرأة، إذ يُعطي أحدهما ذاته للآخر في حبّ يستمرّ مدى الحياة، فهما يعنيان العهد ويعيشانه، وهو عهد بين المسيح وكنيسته. إنّه “الموقع المنظور من سرّ الزواج. ففي هذا السرّ قدوة تغيير. يستقبل المسيح حبّ الزوجين ويجعله خاصًا به. ويُنجز هذه المبادرة بواسطة الكنيسة، فبها يتقبّل حبّ الزوجين.”[4] نعم، إنّ نعمة سرّ الزواج، تُعطي القدرة للعلاقة، بين الزوجين، بعيش الزواج بالمسيح. فهي تساعدهما، على البقاء أوفياء لحبّهما ودعوتهما؛ وتساعدهما على تحمّل مسوؤليتهما، “هذه النعمة التي يختصّ بها سرّ الزواج تهدف إلى رفع الحبّ بين الزوجين إلى درجة الكمال، وتمتين وحدتهما غير المنفصمة. بهذه النعمة “يتعاون الزوجان في تقديس ذاتهما في الحياة الزوجيّة، وفي إنجاب البنين وتربيتهم.”[5]
[1]التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1609.
[2]نجيب بعقليني، الطريق إلى الزواج، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2007، ص 66
[3]المرجع السابق، ص 66
[4]المرجع السابق، ص 63
[5]التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1641.
* * *
الأب نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)