شباب اليوم في حالة بحث دائم عن كيف يكونون أحراراً، يريدون الحرية، ومستعدون أن يفعلوا كل شيء من أجل الحريّة.
بداية، الحرية الحقيقية، هي التي تعطي الحياة وتجعل الإنسان يتقدم خطوة تلو الأخرى إلى الأمام، مثلاً من عبد إلى حر، من خادم إلى سيد. أما الحرية المزيفة فهي تعطي الموت، وتجعل الإنسان أن يعود إلى الوراء، تجعله عبد لشيء ما أو ملذّة ما أو حتى لإنسان ما.
فإذاً، لنغوص معاً في الكتاب المقدس، في مثل الإبن الشاطر(لوقا 15\ 11 – 32)، لنكتشف ما هي الحرية؟ وكيف تكون حرية حقيقية؟
ذلك الإبن الشاطر، هو شاب غني جداً، يعيش في قصر يخدمه كثير من الحاشية ويتمتع بحياة رفاهية بمستوى عال جداً، بيده سلطة الأب، لأن الإبن مثل الأب يأمر هذا وذاك. بالرغم من كل هذا، كان يشعر هذا الإبن بأنه ليس حرّ، فقرر أن يكون حراً مهما يكن الثمن.
- بالنسبة له، الحرية هي أن يقتل سلطة أبيه في حياته اليومية، “يا أبي أعطني حقي من الميراث”(لوقا 15\12). الحق في الميراث يحصل عليه الأبناء بعد موت والدهم، فقرر قتله معنوياً لكي يحصل على حريته. نعم، سلطة الآب بنظره، تمثّل العبودية وهو يريد أن يكون حرّ.
- بالنسبة له، الحرية هي أن يرحل عن بيت أبيه، أن يرحل عن كل ما يذكره بماضيه، بطفولته، كل ما له علاقة بأبيه وأخاه، وإلخ. “فجمع كل ما لديه وسافر إلى بلد بعيد”(لوقا 15\13). نعم، سلطة “البيت الوالدي، والطفولة” تمثّل العبوديىة بنظره، وهو يريد أن يكون حرّ.
- بالنسبة له، الحرية هي أن يعيش البذخ والفلتان والسهر والكَيْف دون حساب أو رقيب، “فبدَّدَ أمواله…” (لوقا 15\13). نعم، العيش بدون رقيب وحسيب هو قمّة الحريّة بنظره.
وما كانت نتيجة هذه الحرية التي أراد أن يعيشها؟
جعلته فقيراً جداً من بعد ما كان غنياً، جعلته جائعاً جداً من بعد ما كان يموت من كثرة التخمة، جعلته خادماً من بعد ما كان السيد الآمر والناهي (لوقا 15\14). والأغرب بهذه الحرية، جعلته يتمنى لو يشارك الخنازير طعامهملا(لوقا 15\15)، جعلته يفقد صورة الإنسان التي فيه، شوّهته جداً. هذه الحرية التي حلم بها سنوات وسنوات، كانت حرية مزيفة.
منذ أكثر من ألفين سنة حتى يومنا هذا، والإنسان يعيش في الدوامة عينها، لم يتعلم أبداً أن يميّز بين الحرية الحقيقية والحرية المزيفة. وما زال يحقّق حريته على مثال الإبن الضالّ:
عندما يبلغ الإنسان سن الرابعة عشر وما فوق، يصبح شعار الحرية هو قضيته وهمّه الأول والأخير.
- لا بد أن يقتل سلطة الأهل، فيقف في وجه من سهروا الليالي وضحوا بحياتهم لأجله، يقف بكل جرأة ويقول: “أنا قد كبرت، أنا حر، أنا أعرف، أنا أقرر، لا أحد يحقّ له أن يتدخل في أموري”، وكم يتمنى قتل تلك السلطة! والقصة لا تنتهي هنا، بل يريد قتل سلطة الله عليه، فيقول له، “لا تتدخل بعد اليوم في حياتي، لا أريدك ولا أريد أي شيء من تعاليمك، تعاليم الله تقليد قديم جداً، لا بدّ التخلي عنها، تعاليم الله تحدّني، تقتل حريتي، وكم أتمنى أن يتحقق قول الفيلسوف نيتشه في حياتي عندما صرخ قائلاً : “الله مات” فياليته يموت في حياتي أيضاً”.
- لا بد أن يرحل عن بيت الأب، يا ليته يستطيع السفر! يا ليته يشبه الغرب بحياته اليومية! عند سن الثامن عشر يرحل الشاب ليعيش وحده، عند ذلك يكون حرّ بكل ما معنى الكلمة. أحلام جميلة جداً، مهما كان ثمنها غالٍ سيدفعها، المهمّ أن يكون حراً. والقصة لا تنتهي هنا، بل يجب أن يرحل عن بيت أبيه السماوي، الكنيسة. فتصبح بنظره “أمّ عجوزة، أمّ طعنت بالسن جداً”. لا يريد أن يكون مثل تلك الناس التي تذهب إليها وتتقيّد بتعاليمها، وتحبس ذاتها في تقاليد عمرها مئات السنين. بالنسبة له، متى ستتعلم الناس أن تتحرّر من الكنيسة، وتكون أحراراً.
- وأخيراً، أصبح في سن الثامن عشر، الآن أصبح بإمكانه دخول الملاهي الليلية؛ يستطيع السهر ولو لساعة متأخرة. يريد أن يعيش، أن يسهر، أن يشرب، إلخ. رغبته الآن، أن يعيش الحرية المطلقة من الجنس والشهوات والملذات، من مخدرات، وقمار، وإلخ، يريد أن يكون “حرّ”.
وما النتيجة؟ الدمار والموت.
تحت إسم الحرية المزيفة هذه، يقتل شباب اليوم مفهوم العائلة، القيم والمبادئ، وبعضهم البعض…
تحت إسم الحرية المزيفة هذه، سيموت هو وتموت عائلته ورائه. يفقد رشده، يفقد هويته، يفقد قيمته في المجتمع. يتألم وتتألم عائلته معه.
تحت إسم الحرية المزيفة هذه، يهين كرامته بالسرقة لكي يستطيع العيش، يبيع كل ما يملك، حتى جسده، المهم أن يحصل على المال، لكي يعيش. يصبح عبد لهذا ولذلك. يأأبحث في القمامة ليجد الطعام. الحبس يصبح رفيقه الدائم يزوره من فترة إلى أخرى. من الخارج هو أسعد إنسان، أما من الداخل، حزن كبير يلف قلبه، لا يجد معنى لأي شيء يعيشه. ويصرخ في النهاية لأقول: “كم كنت مغشوش، لقد خَدَعَتْني العبودية المتشحّة بلباس الحرية”.
ويبقى السؤال الكبير أيا ترى هناك أمل للعودة؟
الجواب، هو الدعوة إلى التأمل بعودة الإبن الضالّ، ومدى روعة “رحمة وحنان” الأب، الذي لم يتعب أبداً من إنتظار “عودة الإنسان”.