الإنسان يفقد ” باطنيّته ” الحقيقيّة، لأن الله هو في عمق أعماقه، وها إنه انفصل عنه، فانفصل عن ذاته. فإن التناغم والإنسجام الانطولوجيّين قد انكسرا فأصبحت علاقة الإنسان بذاته خارجيّة لا داخليّة، منقسمة لا موحّدة :
” إذا لا أقيم فيكَ، لا يُمكنني أن أقيم في ذاتي ” (القديس اوغسطينوس – الإعترافات)
ويضربُ أوغسطينس مثل الابن الضالّ الذي انفصل عن أبيه ليكون ذاته، ما أدّى اختبار العبوديّة، إذ استبدلَ الحياة مع أبيه بالحياة الخارجيّة مع ذاته فقط. ولكنه ” عاد إلى نفسه” : إنّ تلك الحركة حركة ” باطنيّة “، غير أنها تفتقرُ إلى البعد ” ألمتعالي” الذي يمنحه الله وحده. لذا، فقد عاد إلى أبيه أيضا. وفي عظة من عظاته وصف ما اختبره الابن الضالّ بنبرات روحيّة وأدبيّة رائعة :
“عندما يحبَ الإنسان ذاته، هل يقيم في ذاته؟
إنّ النفس التي تنفصلُ عن الله تشرع في حبّ ذاتها
غير أنها تندفعُ بعيدًا عن ذاتها في حب الأمور الخارجيّة.
فهكذا فإنّ الرسول، إذ قال :
هناك مَن يُحبّون أنفسهم، أضافَ فورًا: ويُحبّون المال”.
شرعتَ في حبّ ذاتك. فامكثْ في ذاتك
إن رأيت إلى ذلك سبيلا.
لماذا تنسكب خارجًا عن ذاتك؟ (….)
شرعتَ في حبّ ما هو خارج عنك
فاختبرتَ فقدان ذاتك.
فعندما يخرجُ حبُّ الإنسان من ذاته
لينسكب في الأمور الخارجيّة
إنه يتشّتت في غمر تلك الأباطيل
ويستنفد قواه في إسراف أحمق.
إنه يفنى ويضطرّ إلى العوز
ويجد ذاته مُرغمًا إلى رعاية الخنازير.(….) أجل، كان قد وقع من تلقاء ذاته، وخرج من ذاته.
قد انفصل عن أبيه، فانسكب في خارج ذاته.
الحركةُ التي يُظهرها القديس أوغسطينس هي الآتية: من الإنفصال عن الله إلى حب الذات، فإلى الضياع في الأمور الخارجيّة، وأخيرًا فقدان الذات. وأما حركة الإهتداء فهي العكس تماما: من فقدان الذات إلى الإستبطان الذي يعيد الى الذات، فإلى حبّ الله.
في النهاية، تضعُ الخطيئة ” تناقـــض” الرغبة في قلب الإنسان، إذ تدفعه إلى الخارج، ذلك الخارج المرموز في ثمر شجرة معرفة الخير والشرّ، في حين أنه يمتلك كلّ شيء في باطنه الذي بإمكانه الذي بإمكانه أن يُحقق ذاته، ذلك لأنه على صورة الله. هكذا، فإنّ الصورة الإلهيّة عنصر الحياة الباطنيّة في الإنسان، وأما الخطيئة فعُنصر الحياة الخارجيّة السطحيّ فيه. وقد عبّر أوغسطينس عن التناقض بين الحياة مع الله والحياة بدون الله على النحو الآتي:
” حبّ الله حتى إحتقار الذات (وهي مدينةُ الله) “
” حبّ الذات حتى إحتقار الله (وهي المدينة الأرضيّة)”
وذلك هو تفضيل ” الآبار المشقّقة ” على ” الآبار العميقة ” الذي وصفه إرميا النبيّ (2 : 13)
المرجع: الانثروبولوجيا المسيحيّة (2) الإنسان بين زلّته وخلاصه/ الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ