مرت أيام بل وسنين، وبطرس يسير خلفه، يتبعه، يحبه ويفضله عن أهله، عن زوجته وعن بيته، عن مهنته، عن شباكه التي اعتادها للصيد، للحياة، أصبح له هو البيت والأهل، المعلم والصديق، مصدر الحياة ورفيق الطريق.
مرت الأيام وها هو بطرس يراه، يتعجب منه وينبهر به، يدافع ويتكلم عنه أمام الجميع، في بعض الأوقات لم يتفق معه في أقواله وبالأخص عندما كان يتحدث عن الألم والموت، عن ما يدعى “صليب”. هناك بطرس كان لديه تحفظات، لديه رأي أخر. وكان هو يوبخه بأشد الكلمات ولكن كان الأمر يمر هكذا: أقوال من بطرس غير مفهومه وتوبيخ من الصديق.
مرت الأيام وفي ليلة منها، صمت الكلام، غابت الشمس مبكرا على غير اعتياد، ولم يناوبها القمر في الظهور، فغاب قبل الحضور، تفرق الأحباء، تشتت الأصحاب، وها هو بطرس يجد نفسه وحده أمام أشخاص عديدة ومختلفة مرة واثنين وثلاث، يطلبوا منه كلمه، شهادة عن هذا الصديق وبطرس ينكر معرفته به أو حتى مقابلته في يوم. أصبح الصديق غريب له، مجهول، بل ومصدر خطر.
نعم بطرس ينكره، خائف أن يكون مصيره مثله الم وصليب، وحدة وموت، عزلة واشاره الجمع عليه. كم من مرة وبخه الصديق على خوفه هذا، ولكن توبيخ الصديق لم يجدي، كلماته لم تجد صدي أثناء التجربة. في وقت المحنة يخرج من الإنسان ما في القلب وليس ما في العقل، يقودنا من نرغب فيه ونهواه وليس ما نفهمه وقت الراحة والاستقرار .
يصيح الديك، إعلان عن يوم جديد ونهاية ليلة، فتذكر بطرس ما قاله الصديق وبكى. نعم يبكي. فالبكاء هو رد فعل الإنسان عندما يجد نفسه عاجز عن فعل أى شيء أو التعبير عن ما يشعر به. يبكي الإنسان أمام الموت والألم والصعوبات لأنه عاجز أن يغير شيء. يبكي الإنسان عند حدوث مفاجأة تبهره، عند شعوره بفرحة تغمره، لأنه عاجز عن التعبير عن مشاعره في هذه اللحظة. فالبكاء هو تعبير وقول بأنني عاجز عن عمل شي أو حتي التعبير عنه. وهنا يبكي بطرس لأنه وجد عجز كبير، عجزه عن أن يكون آمين ومخلص للصديق، عجزه أن يغير من نفسه، عجزه أن يغير من فكره، من اعتيادته، من أخطائه وخطاياه، عاجز أن يكون كما كان يتمني أن يكون أمام الصديق، عاجز أن يكون هذا الأفضل بين الصحبه، عاجز أن يكون تلك الصخرة، عاجز، نعم عاجز….
وهنا ينظر له الصديق، نظره حب ، فيفهم بطرس ما لم يفهمه خلال السنين، يفهم بطرس ما لم يفهمه من الاقوال، من تصرفات الصديق معه. في هذه الليلة يفهم بطرس ما عجز أن يفهمه في سنين عديدة: أن الصديق هو الحبيب، هو من يحبه كما هو، كان يعرفه بأخطائه وخطاياه واختاره، كان يعرفه بتسرعه وعنده واختاره، كان يعرفه بخيانته ونكرانه واختاره، نعم هذا الصديق له أصبح حبيب، وبنظره حب يبدأ بطرس من جديد أن يتبعه، بنظره حب يبدأ بطرس أن لا ينظر لنفسه بل لمن ينظر له، بنظره حب يبدأ من جديد.
بطرس هو انا وانت ، هو كل من تاه في ليلة طويلة بين نكران وخيانه، خطايا وإهدار لكرامة، من أسلم نفسه لمن يدفع له لحظات حياة بدون ألم أو صعوبات أو وحدة أو ما يدعى صليب. هذه الليلة لبطرس كانت ليلة وقد تكون لنا أيضا ليلة أو يوم أو سنة أو عشرة أو اقتربت على الخمسين، غير هام، المهم أن الآن هو وقت صياح الديك، هو وقت نظرة الحبيب التي تدعوا من جديد، نعم من جديد. تغيرت حياة بطرس بنظره حب، استفاد منها. والآن هو دوري ودورك لا ننظر إلى تلك الليلة التى فيها ضللنا الطريق، بل لتلك النظرة، نظرة الحبيب، شخص المسيح.