Father Najib Baaklini

راعويّة الزواج ل "فرح الحبّ" على المحك (1)

الاختصاصي في راعويات العائلة والزاوج الأب د. نجيب بعقليني

Share this Entry
  • إنتظارات “متوقّعة”!

قبل صدور الإرشاد الرسوليّ حول العائلة بعنوان “فرح الحب” من قبل البابا فرنسيس (8 نيسان 2016)، وخلال سينودوسَي 2014-2015، وما جرى من مناقشات واقتراحات من قبل أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة بمشاركة العلمانيين: عائلات، مراقبين، وأهل اختصاص؛ كانت هناك إنتظارات لنتائج وتوصيات لأعمال المجمعَين. ترقبٌ، متابعةٌ، مرافقةٌ لخلاصة تقارير وتعاليم الكنيسة، معبّرًا عنها الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” حول العائلة.

كانت الإنتظارات مرتقبة وبشكل حثيث، لأنّ موضوع العائلة يهمّ ويطاول معظم المجتمعات والحضارات. تابع قسم كبير من سكّان الكرة الأرضيّة أعمال المشاركين وبطريقة متواصلة وجديّة، متأملين “بحلول” لبعض الإشكاليات وطروحات للمشاكل والصعوبات، التي يواجهها الزواج والعائلة معًا. لقد أخذت مواضيع: الحبّ والزواج والعائلة وما ينتج عنها إهتمامًا وحيّزًا كبيرًا في الإعلام والمجتمع والجماعات المسيحيّة. هذه المواضيع جميعها تدلّ على أهمية وضرورة العائلة والزواج والحبّ، لما تتعرَض له هذه العائلات من ضغوطات جمّة وعلى مختلف الصُعد.

قبل صدور الإرشاد الرسوليّ، كانت التكهنات كثيرة ومتعدّدة. وطُرحت الأسئلة باتّجاه المواضيع الحسّاسة والدقيقة حتى ذهب كُثر بعيدًا في التفكير: أنّ البابا سيعدّل ربما بلاهوت سرّ الزواج. انتظر أبناء الكنيسة صدور الإرشاد الرسوليّ لا سيّما في ظلّ الأوضاع الصعبة والدقيقة التي يمرّ بها العالم أجمع. فتلك الأوضاع تؤثّر على الزواج والعائلة، بطريقة سلبيّة ومؤذية، ممّا يؤدي إلى انكماش في العلاقة بين الناس وأزمات حادّة وخطرة من خلال الحياة الاجتماعيّة والروحيّة والاقتصاديّة، وبما أنّ التحديّات التي تواجه الزواج والعائلة كثيرةً، في عصرٍ بات يفقد التوازن والاستقرار، كان لا بدّ للكنيسة، من متابعة مسيرتها التعليميّة والراعويّة، بمواجهة تلك التحديّات وإعطاء التوجيهات اللازمة والضروريّة، بهدف الدفاع عن الزواج “الحرّ” و”الالتزام” المقدّس بسرّ الزواج، والمحافظة على العائلة.

نعم، كان المؤمنون ينتظرون من أعمال السينودسَين، حلول ملموسة وعمليّة (راعويّة)، للتحديّات والصعوبات والعراقيل على جميع الصُعد، التي تواجه الثنائي (المرأة والرجل) والعائلة، كما إعطاء بعض الأجوبة المُقنعة ومثال على ذلك: تفهّم أوضاع العائلات المجروحة والمتألّمة ومنهم المطلّقين والمتزوّجين ثانيةً، والتي تعيش الخيبات و”الإقصاء” و”الحرمان” من تناول القربان المقدّس. كذلك أوضاع “المطلّقين” و”المساكنة” والزواج المدنيّ و”الارتباط الحرّ” وإلى آخره (تعليم الكنيسة الخُلُقي والحياة الجنسيّة). فهؤلاء لا ينتظرون فقط معالجة “أوضاعهم”، بالاستقبال والتفهّم والإصغاء والمرافقة؛ أو بكلمات التعزية والتشجيع، أو بالإرشادات والنصائح. بل ينتظرون من آباء السينودوس امتلاك الشجاعة والقدرة والآلية لمداواة جروحاتهم، وتقديم الحلول العمليّة، والسُبُل المناسبة، والعلاجات الشافية، بفتح ثغرات في تطبيق سرّ الزواج وعيشه.

نعم، خلال فترة أعمال السينودسَين وقبل صدور الإرشاد الرسوليّ، كان المؤمنون يأملون من آباء السينودوس، أخذ خيارات راعويّة شجاعة، تكون عمليّة، وحسيّة، ومنظورة، وملموسة في ما خصّ، الإشكاليات اللاهوتيّة والقانونّية والخلقيّة والراعويّة، للصعوبات وللعراقيل والمشاكل المتراكمة.

نعم، كان من الطبيعيّ لهؤلاء الأشخاص، وبسبب التزامهم بعقيدة الكنيسة ولاهوتها وروحانيتها، أن ينتظروا “مخارج راعويّة”، من أجل عيش الأسرار وتطبيقها. كما ترقّب الذين يواجهون التحديّات والصعوبات والمشاكل على جميع الصُعد، أن يستمدّوا “بعض” الحلول واكتساب معرفة المواجهة وتحقيق دعوتهم من خلال سرّ الزواج، بالعودة إلى تعاليم الإنجيل والكنيسة.

نعم، انتظر المعمّدون من تلك الأعمال المجمعيّة، بارقة رجاء وأمل فيما خصّ التأكيد على قدسيّة الحبّ والزواج والعائلة، وذلك بنشر تلك المبادئ والمفاهيم الصحيحة التي تنبع من مشروع الخالق للبشريّة والتي جسّدها وعلّمها يسوع المسيح.

نعم، انتظر المسيحيّون من آباء السينودوس، التشديد على الإعداد لسرّ الزواج، والتربية على الحبّ والإيمان، والمتابعة الحثيثة والمرافقة المستمرة، لأوضاع المتزوّجين، لا سيّما في ما خصّ حياتهم الروحيّة، وعلاقتهم الإيمانيّة مع الله وتعاليمه. كما انتظروا، مساندة الكنيسة، لخطواتهم وخياراتهم، والسير معهم، بالرغم من الأخطاء والهفوات؛ نحو الهدف المنشود أَلاَ وهو الفرح.

نعم، انتظر المؤمنون بسرّ الزواج، من “السلطة” في الكنيسة عدم الإدانة، بل الرحمة وبثّ الأمل والرجاء، والصبر في قلوب المتزوّجين، وأفراد العائلات المسيحيّة، التي هي بحاجة دائمة إلى أن ترى أبواب الكنيسة “مفتوحة”، فتستقبلهم وتداوي جروحاتهم، وتُرشدهم نحو المخلّص والخلاص، كي يتعلّموا الانفتاح على نور الإنجيل، وعيشه من خلال شهاداتهم الحيّة، التي تنقل البشارة، ممّا يُسهم في عيش سرّ الزواج، على ضوء المسيح المُحبّ للجميع، ولا سيّما للمتعثّرين والضعفاء منهم.

  • راعويّة الزواج والعائلة

إنّ السيّد المسيح هو راعي الرعاة “أنا هو الراعي الصالح” (يو 10: 1)، كما الله أيضًا يرعى شعبه “الربُّ راعيَّ” (مزمور 23). وبما أنّ يسوع المسيح هو راعي الرعاة الأعظم، لا بدّ للكنيسة أن تستمدّ هدفها من رأس الكنيسة، أَلاَ وهو الربّ يسوع المسيح المخلّص؛ “أمّا أنا فقد أتيت لكي تكون لهم حياة أفضل” (يو 10: 10). فالحياة التي يعطيها الربّ، هي الحياة الفضلى والمليئة، التي تتوق نحو الحياة الأبدية، “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”. نستنتج أنّ كنيسة يسوع هي الطريق إلى الحياة والخلاص، لأنّها تشكّل جسد المسيح السرّي؛ ومن خلالها، يُصبح المعمّدون والمؤمنون به، أعضاء في جسده الحيّ والمُحيي.

يستند مفهوم اللاهوت الراعويّ ومبادئه على شخص يسوع وأعماله ورسالته تجاه البشريّة جمعاء. فالذين آمنوا به بعدما التقى بهم، وتعرّفوا عليه، من خلال كلماته وعجائبه، تابع يسوع رسالته الخلاصيّة من خلال أعمال حسيّة ومنظورة وملموسة وذلك بفضل عمل الروح.

فالروح الذي وهبه للكنيسة، من أجل المشاركة في تحقيق مشروعه الخلاصيّ للعالم؛ “اللاهوت الراعويّ هو تأمل علميّ في الكنيسة التي تتكوّن كلّ يوم، بقوّة الروح، باعتبارها “سرّ الخلاص الشامل” ووسيلة حيّة للخلاص بيسوع المسيح”، بواسطة خدمة الكلمة والأسرار والمحبّة”.[1]

إنّ فكرة العمل الراعويّ تعود إلى يسوع المسيح، الراعي الأعظم، الذي يحافظ على الرعيّة ويحرسها. فالرعيّة هي جماعة المؤمنين المعمّدين، التي تكوّن جسد المسيح السرّي بقوّة الروح القدس، وتمثّل كنيسة المسيح على الأرض. فهي جماعة شركة، تقوم على المحبّة والتضامن والإيمان والرجاء. إنّها شاهدة لمحبّة الله من خلال عيش الأسرار ولا سيّما سرّ الإفخارستيّا.

تقوم رسالة الكنيسة على العمل دومًا على ثبات المؤمنين في الجسد السرّي، واستمرار الغذاء منه بالعبادة والأسرار، كما من خلال التعليم والشركة والخدمة والبشارة والشهادة. وبهذا الخصوص تذكّر قوانين الكنائس الشرقيّة عدد 289:”بمهام العمل الراعويّ الثلاث “التعليم والتقديس والتدبير. وقد تسلَّمها الأساقفة من الربّ، بوصفهم خلفاء الرسل، ليمارسوها خدمةً مقدّسةً مع الكهنة معاونيهم”.[2] وهذا دليل وتعبير واضح، أنّ يسوع المسيح هو راعي الرعاة، الحاضر دومًا من أجل حماية “قطيعه” وخلاصه. ويمكننا القول أنّ التنشئة والتعليم أو التربية على الإيمان تُسهم جميعها في حفظ الإيمان، وتعميقه، وتنميته، وتثبيته لدى المؤمنين. كلّ هذا يؤدّي إلى تقديس الناس بالنعمة الإلهيّة، للّذين وصلتهم البشارة السارّة من خلال التعليم والتنشئة والتبشير. وأمّا التدبير فهو تحقيق لنتائج النعمة والإيمان وممارسة الصلاة، محقّقين جماعة مسيحيّة تعيش إيمانها من خلال الشركة، والوحدة وبالأخص المصالحة والمحبّة.

بالمطلق، يتطلّب العمل الراعويّ: المحبّة، والحبّ، وعدم الإدانة، والرحمة، والاتّضاع، والحكمة (التمييز، والسهر، والتضحية، واحتمال العذاب، والفرح، والتعليم، والشهادة الحسنة)، وإلى آخره.

تنبع مبادئ ومفاهيم راعويّة الزواج والعائلة من تعاليم الكنيسة اللاهوتيّة؛ كما تطبَّق عمليًّا تلك الحقائق والصور المُستمدة من الكتاب المقدّس وشخص يسوع المسيح. “إنّ ميزة الإيمان المسيحيّ ليست في نظام لاهوتيّ، أو في استرداد أكثر أو أقل مهارة لمعطيات العلوم الإنسانيّة، كما لا نجده في عقيدة، ولكن في شخص تمّت مقابلته والاعتراف أمامه، وهو حكمة الله ونوره: يسوع المسيح”.[3] إنّ راعويّة الزواج والعائلة هي في خدمة وتصرّف المتزوّجين والعائلة؛ بما أوتيت من معطيات، ومؤهّلات، ومقدّرات من خلال الحضور الفعّال أي: التعليم والتنشئة والمرافقة والمتابعة، من أجل تعزيز سرّ الزواج، وتثبيت الثنائيّ (الرجل والمرأة) في خياره المقدّس.

إنّها تساهم في الإعداد للزواج والمرافقة ما بعد الزواج، من أجل تدعيم الرباط المقدّس وإنجاح ذلك الالتزام أكثر، المبنيّ على الحريّة الداخليّة والإرادة الحرّة.

ومن بين الأعمال التي تقوم بها راعويّة الزواج أو الأهداف التي تحقّقها، نذكر على سبيل المثال: العمل على الإعداد لسرّ الزواج، الذي لا يهدف فقط إلى التنشئة والتدريب والتحضير لإنجاح الحياة الزوجيّة، بل أيضًا إلى تحقيق الأنجلة الجديدة، أي التبشير الجديد بالإنجيل. فهي تربّي على الإيمان أي تُحيي التنشئة الإيمانيّة والروحيّة أو تعمّقها أو تنمّيها أو تثبّتها. زِد على ذلك، الاهتمام بنشر مفاهيم الحبّ ومبادئه وتقديم المساعدة على اكتشاف، قدر المستطاع، ما يتطلّب الزواج على الصعيد الاجتماعيّ والنفسيّ والعلائقيّ وإلى آخره. “إنّ راعويّة الزواج والعائلة يمكنها أن تساعد الأزواج المستقبليّين، وخصوصًا غير الممارسين (لإيمانهم)، على التعمّق أو إعادة اكتشاف إيمانهم من خلال العمل الجماعيّ ذي الأهميّة الثلاثيّة: الإنسانيّة والأخلاقيّة والروحيّة، خصوصًا في الأوقات الصعبة. هذه الراعويّة تخدم المخطوبين من خلال وسائل جديدة وتدابير من الأنجلة الجديدة. وهذا يعني نمط حياة جديدة مشرّبة بوجود ربّانيّ يصوغ الحياة الروحيّة للعروس والعريس”.[4]

أخيرًا يتطلّب من راعويّة الزواج والعائلة، أن تأخذ بعين الاعتبار كلّ المعطيات والأوضاع، والتغييرات وظروف الحياة التي تواجه شباب اليوم ولا سيّما المتزوّجين منهم. من هنا عليها ابتكار وسائل جديدة ومنظورة. كما رسم الاستراتجيات والخطط وتطبيق الرؤية الواضحة، من أجل تحقيق أهداف سرّ الزواج والمتزوّجين. “يجب أن تتصرّف راعويّة الزواج بشكل مختلف، وذلك باستخدام خطاب جديد وعبارات جديدة بالإضافة إلى اعتماد تدابير وأدوات جديدة، ووسائل متطوّرة، وطرق مختلفة لجعل الكنيسة أكثر حضورًا كونها مكانًا للقاء حقيقيّ بين الله والخطيبين”.[5]

[1]  المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائديّ في الكنيسة، عدد 48

[2]  المرجع السابق، عدد 24-27

[3]  نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 221

[4]  المرجع السابق، ص 251

[5]  المرجع السابق، ص 264

(يتبع)

الأب نجيب بعقليني

  • يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
  • أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
  • خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
  • عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
  • صدر له:
  • الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
  • حبّ واستمرار
  • كي نبقى معًا
  • لقاء وعهد
  • المرأة والتّنمية
  • الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)

 

 

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير