منذ مدّة وأنا أفكّر في البحث حول هذا الأمر! لقد أخذتُ على نفسي وقتــــا طويلا لكي أحلّل وأشخّص ما الذي يمكنُ قوله حول هذا العنوان (ضمير حيّ وضمير ٍ ميّت!). لنرَ أوّلا ما معنى الضمير بحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة (التعليم الأخلاقيّ)، وبعده سنراهُ في واقعنا المعاصر اليوم: من هو ضميره حيّ ومَن هو، مع شديد الحزن، ضميره وُضع في تابوت ودفن في الأرض ؟!
الضمير في تعليم الكنيسة الرسميّ
“يكتشف الإنسان في ذات ضميره ناموسًا لم يصدر عنه، ولكنّه مُلزَمٌ بطاعته، وصوتُه يدعو أبدًا ذلك الإنسان إلى حبّ الخير وعمله، وإلى تجنّب الشرّ، ويدوّي أبدًا في آذان قلبه(…) إنه ناموس حفره الله في قلب الإنسان. والضمير هو المركز الأشدّ عمقا وسريّة في الإنسان، والهيكل الذي ينفرد فيه إلى الله، ويسمع فيه صوت الله” (1776).
ويقول كتاب (Youcat) التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ للشبيبة (295): يشبّه الضمير بصوت باطن، به يُظهر الله نفسَه في الإنسان. فالله يُعلَن في الضمير. عندما نقولُ : هذا لا أستطيع أن أوفّقه مع ضميري” . فذلك يعني، بالنسبة إلى المسيحيّ : ” هذا لا أستطيع فعله أمام وجه خالقي ! ” . لقد ذهبَ أناسٌ كثيرونَ بسبب أمانتهم لضميرهم، إلى السجن وإلى ساحة تنفيذ الحكم بالموت.
وأقولُ بدوري : بسبب الأمانة لضميري الباطن (صوت الله)، أحبّذ أن أُسجَن واضطهد وأتألّم، من أن أساير العالم وأواكبَه وأتفاعل مع كذبه وحقده ومرضه! (بمعنى: أن أكون ضدّ التيّار ولا أكون مع التيّار المعاصر). لعلّكم تقولون لي الآن: لا نقدرُ أن نكون ضدّ التيار، فهناك أمور وظروفٌ أقوى منا تجبرنا على ذلك! نعم، صحيح هذا الأمر! لكن، إن كان بمفردنا فقط فنحن لا نقوى، لكن بنعمة الله نستطيع ذلك.
الضمير واقعٌ معقّد. وكثيرٌ من الأسئلة تُطرَح حول معنى هذه الضمير. فهل الضمير قدرة وهبنا إيّاها الله منذ مولدنا؟ هل هو صدى لصوت الله (جون هنري نيومن) فينا. أو إنّ الضمير هو وظيفة تُكتسب بالتربية والبيئة، ولا تعكس إلاّ قيم وقواعد الوالدين والمجتمع والبيئة؟
الضمير، بحسب الكتاب المقدس، هو مكان لقاء الإنسان بالله. فحركة الضمير، بحسب العهد القديم، وضعها الله في الإنسان. فقد خلقَ قلب الإنسان بحيث يتفاعل مع الذنبْ. إنه مؤشّر أحمر لحصول خلل وتشويه في الإنسان تقول له: قفْ! وامثلة على ذلك، رويَ عن الملك داود:” فخفق قلب (ضمير) داود من بعد إحصاء الشعب، وقال للربّ : قد خطئتُ خطيئة كبيرة في ما صنعت” ( 2 صم 24 : 10 ، 1 صم 24 : 6). وإنّ حركة الضمير لا تحدث فقط على إثر فعل سيّء، بل تعلن عن ذاتها أيضا قبل الفعل . نقرأ في رواية قايين وهابيل: ” فنظرَ الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قابيل وتقدمته لم ينظر. فغضب قايين، وأطرق رأسه. فقال الربّ لقايين : لمَ غضبتَ، ولمَ أطرقتَ رأسكَ؟ فإنّك إن أحسنتَ، أفلا ترفع الرأس؟ وإن لم تُحسن، أفلا تكون الخطيئة رابضة عند الباب؟ إليك تنقادُ أشواقها، فعليكَ أن تسودها؟ (تك 4) . ونرى أيضا، ناثان النبيّ ينبّه داود على إثمه الذي ارتكبه بحقّ أوريّا (2 صم 12 : 7 – 12، مز 51)، فيقرّ بما فعله من الشرّ، ويدركُ أنه بذلك قد أخطأ أيضا أمام الله، ويقول: ” قد خطئتُ إلى الربّ ” (2 صم 12 : 13).
بحسب تعليم يسوع، كلّ تصرّف أخلاقيّ له علاقة بالله: ” وأبوك الذي يرى في الخفية، هو يجازيكَ” (متى 6 : 4 ، 18). والعظة على الجبل، تحذّر الناس من خطر الإبتعاد عن قرب الله والسعي وراء الأجر لدى الناس. الضمير، بحسب يسوع، يحثّ الناس على التيقّظ والسهر والإنتباه، وإدراك آثار ملكوت الله في الوضع الراهن. بالنسبة لنا، نحنُ المؤمنين، يسوع المسيح هو مقياسُنا، وأساسُ حياتنا الدينيّة والإخلاقيّة وغايتها. فلا يمكنُ فصل الأخلاق والتعاليم والأسس التي يبشّر بها عن شخصه.
الكنيسةا لتي تختبرُ نفسها شعب الله المترحّل على هذه الأرض، لا تملك أجوبة عن كل الاسئلة التي تُطرَح في مسيرتها عبر التاريخ. ولذلك يترتّب أن يكون هناك بحث مشترك عن الحقيقة وعن الحلول الإنسانيّة. علينا أن نكونَ أوفياءً للضمير لكي نكون أوفياءً للإنسانيّة وبناء العالم. والوفاء للضمير، هو وفاءٌ لصوت الله الباطن الذي يريدُ أن يتكلّم فينــــا دائمًا، لأنه ، ومنذ البدء، هو ” كلام” ! إلهنا إله الكلام وليس إلهُ السكوت. ومن المحزن أن نُسكِتْ كلام الله فينا، بهذا نحنُ نُسكِت الضمير فينا، فلا يعودُ هناكَ مِن ضمير ٍ حيّ، إلا أصوات هوائيّة فارغة تعكسُ ما فينا فقط، فنشوّه الحقيقة، وتضيعُ الأخلاق ويصبح كلّ إنسان يعيشُ بحسب ما تمليه عليه نظرته البعيدة عن المنطقيّة والوضوحيّة. عندما يكونُ الله غائبـــــًا في المجتمعات، يصبح الضمير غائبا ! وفي قرارة أنفس هذه المجتمعات، ضميرهم هو ضميرٌ علمانيّ (مدنيّ)، لا دينيّ ولا إيمانيّ ولا علاقة له بالله! فالأخلاق ستكون أخلاقا مدنيّة علمانيّة، لا أسس لها . والحريّة ستكونُ ” ناقصة وخاطئة وعرجاء”، لأن كلّ شخص سيُبيح ما يحلو له إباحته: الجنس والدعارة، واللذّة، والإستهلاك، والإباحيّة، والكلام البذئ، والعلاقات الغير قانونيّة، والقتل الرحيم،و الاجهاض، …. الخ. إنّ موقف المسيحيّ من الشرائع المدنيّة هو، بشكل عامّ، موقف الخضوع لها والإلتزام الضميريّ بالسير بموجبها. فكلّ ما هو للخير العام، يجب الخضوع والإلتزام به. لكن، متى ما أدرك المسيحيّ أن القوانين والشرائع المدنيّة هذه قد سمحت بأمور ٍ لا يسمح بها ضميره، ولا تسمح به السلطة الكنسيّة، من مثل: القتل الرحيم، الإجهاض … الخ . في هذه الحالات لا يجوز للمسيحيّ أن يسلك سلوكا مناقضا لحكم ضميره، بحجّة أن الشرائع المدنيّة قد أجازته. على المسيحيّ، وهذا أمرٌ مهمّ، أن يتذكر أن الأخلاقيّة التي يجب عليه اتباعها ليست الاخلاقيّة العامّة التي تضع قواعدها الشرائع المدنية، بل أخلاقيّة الإنجيل الذي اتخذه شرعة له.
ضميرٌ ميّتْ ! هو ضميرٌ ضاع منه الله. ضاع منه الحقّ. إنه ضميرٌ ضال قد أضلّ طريقه وفقد بوصلته. ومجتمع بلا الله، هو مجتمعٌ بلا رادع ٍ داخليّ يشعره بوخز الضميرْ. كيف يمكن للإنسان أن يعيش حياته بلا قانون وأساس وضمير: بمعنى: أن أدرك وأفهم أن ليس هناك فقط : نعم، نعم ! بل هناك أيضا: لا ، في حياتي.
يرينا العهد الجديد، في قصّة الفريسيّ والعشار، درسًا في الضمير. الفريسيّ ظهرَ أمام الله وكأنه ” متديّن وملتزم” بأسس كلّ ديانة. فكما هو معلومٌ، أنّ كلّ ديانة فيها : صلاة، صوم، صدقة (زكاة عند الأخوة المسلمين). إنها تعتبر أركان الديانة. لكن، عندما يأتي يسوع ويُرينا، في قصة الفريسيّ والعشار، نظرة جديدة لله ولعيش الدين، علينا أن ننتبه بأن ما يريدُ قوله لنا هو ضروريٌّ ويجب التيقّظ. الفريسيّ دخلَ يصلّي ويقول نصائح لله: أشكرك اللهمّ، إني أصلّي وأصوم وأعطي الفقراء، ولستُ مثل ذاكَ العشّار! . إنه ركّز فقط، كما نلاحظ، على ” الأنا – الذات ” ، بدون الله. بينما العشّار، لم يتجرّأ أن يرفع عينيه، وقال: اللهم ارحمني، أنا الخاطئ! هنا ركّز العشّار على: الأنتَ وليس الأنا!. هذا، يقول يسوع لنا، نزلَ من بيته مُبرّرا، بينما الفريسيّ هو خارج دائرةا لله. لم يعد الفريسيّ يعرف أن له خطيئة. إنه منصافٌ كليّا مع ضميره. ولكن صمت الضمير هذا يجعله غير قابل للإتصال لا مع الله ولا مع البشر. بينما صرخة الضمير التي تحرّك العشّار، هي التي تجعله أهلا للحقيقة وللمحبّة.
علينا أن نقود المجتمع من جديد إلى القيم الأخلاقيّة الأبديّة. هذا يعني، أن نطوّر من جديد الإصغاء إلى صوت الله في قلب الإنسان وقد كاد يمحى منه. علينا أن نعطي لله مجالا. علينا أن نفكّر بالله في حياتنا، وأن نرى أعماله وعظائمه، وأن نصغي لكلامه وما يريده منّا.
الضمير الحيّ إذًا، هو الذي يرى كلّ ما حوله بعين الله، رغمَ أنه يعيش حياته بكلّ مآسيها. والضمير الميّت هو الذي يرى ذاته فقط وإنطلاقـــــًا ممّا تمليه عليه ذاته والمجتمع من حكاوى وفتن وأكاذيب . هو الذي يرى كلّ ما حوله بعين شريرة. وبنيّة سلبيّة مؤذية لغيرها، كاذبة، أنانيّة، وقحة، وغيورة. والضمير الحيّ والضمير الميّت لا يبقيان فقط في مجال السياسة وغير السياسة، بل يدخلان في العوائل والأسر!. فكما أكثر الآهات التي نسمعها منه أو منها في البيوت، بأن الأهل والأقارب يمارسون الأكاذيب والحيل الشيطانيّة لإيذاء الولد أو البنت مثلا! وكأنّ الولد (أو البنت) هو (هي) عدوّان للأسرة ! ويقومون بنصنع الأفلام الكاذبة بالآخر ويضعون على لسانه كلمات لم يقلها هو أبدًا.
Ryan McGuire - Pixabay - CC0
الضمير الحيّ والضمير الميّت
منذ مدّة وأنا أفكّر في البحث حول هذا الأمر! لقد أخذتُ على نفسي وقتــــا طويلا لكي أحلّل وأشخّص ما الذي يمكنُ قوله حول هذا العنوان (ضمير حيّ وضمير ٍ ميّت!). لنرَ أوّلا ما معنى الضمير بحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة (التعليم الأخلاقيّ)، وبعده […]