Robert Cheaib - Theologhia.com

مفهوم تجـــرّد المسيح من ذاته في الديانة اليهوديّة بحسب الفيلسوف الفرنسيّ عمّانوئيل ليفيناس

في كتاب عمّانوئيل ليفيناس، وعنوانه ” زمن الأمم “، ثمّة فصلٌ مُعنوَن ” اليهوديّة والتجرّد من الذات”، حيث يذكّر أنّ فكرة التجسّد الإلهيّ لا محلّ لها في العهد القديم ولا في التقليد اليهوديّ؛ أمــــّا مفهوم التجرّد من الذات، بالمقابل، فليس بغريبٍ عن […]

Share this Entry

في كتاب عمّانوئيل ليفيناس، وعنوانه ” زمن الأمم “، ثمّة فصلٌ مُعنوَن ” اليهوديّة والتجرّد من الذات”، حيث يذكّر أنّ فكرة التجسّد الإلهيّ لا محلّ لها في العهد القديم ولا في التقليد اليهوديّ؛ أمــــّا مفهوم التجرّد من الذات، بالمقابل، فليس بغريبٍ عن تعريف الله في هذا الكتاب.
يفتتحُ المؤلّف بحثه بملاحظة بدائيّة قائلا: ” لا داعيَ لأن نذكّر، في سياقنا هذا، بأنّ فكرةَ التجسّد الإلهيّ غريبةٌ عن الروحانيّة اليهوديّة”. ويعود ليفيناس إلى بعض علماء التَلمود، ملخّصا آية من المزمور 115 : 16 ” إنّما السماءُ سماءُ الربّ، والأرض جعلها لبني البشر” بقوله : لم ينزلْ ” حضور الله” قطّ إلى الأرض، ولم يبلغ موسى أو إيليّا، في صعودهما، علوّ السموات”.
إلاّ أنّ هذا الموقف لا يعني مطلــــقا أنّ فكرة التجرّد من الذات غريبة عن تعريف الله في التقليد اليهوديّ. وليفيناس يستخرجُ بهذا الشأن عدّة استشهادات ٍ من مواضعَ في الكتاب المقدّس العبرانيّ، ساهرًا على شرح المعنى الذي يُطلقه على تعبير ” التجرّ من الذات”.
” أن يكونَ تجرّد إله ٍ من ذاته أو تواضعه قابلا بالنزول حتى أدنى حالات الكائن البشريّ – موضوع يتحدّث عنه القديس بولس إلى أهل فيلبّي ( 2 : 6 – 8) – فكرةٌ تقبلها أوّلا نصوصٌ بيبليّة نفسُها. فإنّ التعابير التي تتكلم على العظمة والسموّ الإلهيّين غالبًا ما تسبقها تعابيرُ واصفةٌ إلهًا ينحني على بؤس الحياة البشريّة أو ” ســـــاكنا”  هذا البؤس. وثمّة ألفاظٌ في النصّ تركّز على تلك الإزدواجيّة أو اللغز المصوِّر اللهَ البيبليّ. وكذلك، في الآية 3 من المزمور 147، فإنّ مَن ” يشفي مُنكَسري القلوب ويُضمّد جراحهم ” هو نفسه مَن – في الأية التالية – ” يُحصي عددَ الكواكب ويدعوها كلّها بأسمائها” . وفي المزمور 113، يُهلّل الربّ الذي يتعالى ” على جميع الأمم وفوق السموات مجده”، ولكّنه ” تنــــازل ونظرَ إلى السموات والأرض” (مزمور 113 : 4 – 6). وينتهي المزمور بأسف الله على المرأة العاقر، وهي فاقدة الأمل أكثر من الفقير الذي يُقيمه الله من الأقذار (مزمور 113 – 7). وكأنّ التمجيدَ يبلغُ الذروات في كلّ هذا التواضع !”.
يؤكّد ليفيناس، في بحثه، أنّ التقاء عمليّتي تنازل الله وارتفاعه أمرٌ محتّم، فيتابع مسيرته ذاكرًا أنّ رسالة ” سوتَه” في التلمود تشيرُ إلى أنّ التوراه تنسبُ إلى الله بعضَ الوظائف التي، في المجتمع، تُعَدّ جدّ متواضعة : خيّاط، مُلبِس (في سفر التكوين 3 : 21  يجهّز ألبسة ً لآدم وامرأته)، وحفّار قبور (في تثنية الإشتراع 34 : 6 ، يدفنُ موسى في الوادي بأرض موآب). ثم يتطرّق ليفيناس إلى موضوعين يُضفيان على مفهوم التجرّد من الذات معنىً مميّزا :
أمّا ألأول فيتعلّق بإدراك الخَلق وبمسألة الأخلاق. فالخالق إلوهيم يلتزمُ بتبعيّة ٍ معيّنة تجاه الكائن البشريّ؛ فإّن قراءة  معمّقة لآية التكوين 2 : 7 الواصفة الإنسانَ روحا حيّة يمكنها إفهامنا أنّ الكائن البشريّ هذا، كالخالق نفسِه، هو روحُ جميع العوالم، وجميع الكائنات، وكلّ حياة. فالله يلقّنُه ما يلي: ” أنت معي في عمليّة الخلق”. والإنسان، في أعماله، مسؤولٌ عن كلّ العوالم الأخرى والبشر الآخرين.
” هكذا يكونُ الإنسانُ مسؤولا عن الكون . يصنعُ العوالم ثمّ يفكّكها، يرفعها ثمّ يُخفضها. إنّ مُلكَ الله يعتمد عليّ (…..) يُدرَكُ العالم في كائن الإنسان من خلال نزاهة الإنسان التي تعني، بشكل ٍ ملموس، الرضى بالتورا. وما يفوقُ قدرة َ الله الكليّة أهميّة ليس غير تعلّق هذه القدرة برضى الإنسان الأخلاقيّ. وفي هذا أيضا يظهر أحدُ معاني التجرّد من الذات الأساسيّة.
والموضوعُ الثاني الذي يتطرّق إليه ليفيناس هو موضوع الصلاة: ” الله بحاجة إلى صلاة البشر”. فيفحصُ ليفيناس، بهذا الشأن، قولا ً للرابي ” هايم دو فولزين”، حيث يُسلّط الضوء، نوعًا ما، على هذا التجرّد من الذات لدى إله ٍ يبقى، بلا شكّ، مَن إليه توجّه كلّ صلاة، وكذلك مَن له تتلى الصلاة”. ويقترح هذا القول طريقة ً مميّزة لإعادة شرح ِ تلموديّ للحادثة التي تصوّر سلوك َ موسى في سفر  الخروج 17 : 11.
 
” يقولُ الخروج 17 : 11 :  فكانَ، إذا رفع موسى يده، يغلبُ بنو إسرائيل، وإذا حطّها تغلبُ العمالقة. والرسالة التلموديّة ” روش هاشانا” تشرحُ هذه الآية؛ يحترسُ من مفعول تلك اليد المرتفعة السحريّ، يد موسى : ” هل كانت يدُ موسى هي التي تُشعلُ أو تقود المعركة؟ طبعًا لا. ولكنّ هذه الفقرة تخبرنا بأنّ شعب اسرائيل، حين كانَ ينظر إلى السماء ويخدمَ أباه الأزليّ من كلّ قلبه، كان هو المنتصر؛ وإلاّ فيُهزَم”.
” الرابي هايم دو فولزين” يفسّر معنى النصّ التلمودي هذا بشكل ٍ مختلف؛ فإن يد موسى التي، في شقاء الشعب، تذكّر بالكليّ السموّ إلى مَن توجّه العبادة الحقيقيّة وعلى مَن يعتمد النصر، تصبحُ، في التفسير الجديد، اليد التي تذكّر البشر، في شقائهم، تواضعَ إله ٍ مُحتَقر لأجل مَن تتلى الصلاة. وهكذا يبرّر ” دو فولزين” ضرورة الصلاة لأجل ذات ٍ خاطئة، ذات لا تعودُ مكروهة إذ تبدأُ الصلاة.

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير