الخالق ومخلوقاته
احتفلت الكنيسة الكاثوليكيّة مع الكنيسة الأرثوذكسية، وبمشاركة كنائس أخرى، وجماعات وحركات مسيحيّة، “باليوم العالميّ للصلاة من أجل العناية بالخليقة” (1 أيلول)، ويأتي هذا الاحتفال السنويّ، لتذكير سكّان الأرض أنّ خليقة الله بخطر، وتتّجه نحو الزوال، فيما إذا بقي الإنسان يتصرف، بطريقة معادية ومتسلّطة، تجاه خلائقه ولا سيّما البيئة (الطبيعة وما فيها).
اليوم العالميّ للصلاة من أجل العناية بالخليقة، ما هو إلاّ تذكير بأهميّة هذا الكون وضرورته، لاستمرار الحياة البشريّة، التي أرادها الله. يدعونا هذا اليوم العالميّ، إلى احترام فكرة الخالق وعدم تشويهها، لأنّه حقًّا قد أبدَعَ. فمشروعه للكون، من خلال الإنسان، هو العيش بسلام معه ومع الآخر ومع البيئة. “أوليس السلام مع الله الخالق، سلامًا مع مخلوقاته؟ إذا كان الإنسان لا يعيش سلامًا مع الله، فلن تنعم الأرض بالسلام. من هذا المنطلق نؤكّد على أهميّة وضرورة احترام الحياة، وما فيها، لا سيّما كرامة الشخص البشريّ، وهذا يجب أن يتمّ على حساب النموّ الاقتصاديّ والتقدّم العلميّ والازدهارالصناعيّ والزراعيّ. ألا نعتقد بأنّ البُعد البيئيّ، هو القاسم الأوّل والمشترك بين أبناء الأرض؟ هل ينعم كلّ إنسان، بكلّ خيرات الكرة الأرضيّة مع أخيه الإنسان؟ أليست الطبيعة مصدر حياته واستمرار وجوده في الكون؟”[1]
صدر عن البابا فرنسيس رسالة عامة بعنوان “كُن مسبّحًا” أو “لكَ التسبيح” (Laudato Si)، في 19 حزيران 2015، حول العناية بالبيت المشترك. تعالج هذه الرسالة القضيّة البيئيّة التي تهمّ بالمطلق، جميع البشر، لأنّها مصدر حياتهم. تأخذ الكنيسة على عاتقها وبعين الاعتبار هذا الموضوع الذي يطاول مشروع الخالق لخليقته. وبما أنّها مؤتمنة من قبل الخالق، على مشروعه الخلاصيّ للإنسان، وعلى تعاليمه ورسالته، تحاول أن ترتقي بقضيّة البيئة وحالتها إلى أعلى المستويات، من أجل المحافظة على الخليقة.
تلاحظ الكنيسة أنّ الإنسان يدمّر كوكب الأرض، من خلال عدم فهمه لمشروع الله للبشريّة. “وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا؛ وليتسلّط على أسماك البحر، وطيور السماء والبهائم، وجميع وحوش الأرض، وجميع الحيوانات التي تدبّ على الأرض” (تك 1: 26) “نستخلص من تلك الرواية أنّ الله جعل الإنسان الكائن الأقرب إليه، وكلّفه بحمل رسالة، وذلك بأن يُخضع الأرض، ولكن بطريقة إيجابيّة، أي الاستفادة منها مع المحافظة عليها، من خلال احترام وتوزيع الموارد، على جميع أبناء الأرض، وعلى مرّ الأجيال، بالتساويّ. وهنا نفهم أنّ مشروع الله للإنسان مقدّس، وهامّ جدًّا، بحيث يحافظ على خلائقه، من أجل استمراريّة مشروعه الخلاصيّ للبشر. يبرهن المؤمن عن إيمانه بالخالق والعيش كخليقته. فالإيمان بالخالق، والعيش كخليقته، ما هو إلاّ استقبال الله كمصدر لكلّ شيء موجود، وليس مُصنَّع. فالحبّ ليس صناعة مُتقنة، أو هندسة وإنّما هو عمليّة خلق وإبداع مجبولة بالمحبّة، ومنح الوسائل الضروريّة لاستمرار هذا الحبّ، وعيشه، وتبادله مع الآخرين. فالإيمان بالخالق والعيش كخليقته، هو الاعتراف بأنّ، الخليقة خلاّقة، لأنّنا نملك حريّة مصيرنا”.[2]
- تشويه الإبداع
يمكننا التأكيد أنّه يتوجّب على عالم اليوم التنبّه إلى المخاطر الحقيقيّة التي تُنذر بحالة البيئة المُزرية على مسيرة الحياة، بالرغم من وجود التكنولوجيا والتقدّم العلميّ والصناعيّ. إلاّ أنّ عشوائيّة استعمال تلك المقوّمات أدّت إلى الاعتداء المتواصل على البيئة، وبالتالي على حياة الإنسان ووجوده واستمراريّته.
نعم، لقد تمَّ تشويه خليقة الله، أي الطبيعة، من قبل الإنسان بانتهاكه الفاضح لها، وباستعماله السيء والمؤذي لموارد الطبيعة. نعم، يهدّد الإنسان بنفسه حياته وسائر المخلوقات على الأرض، ويجلب الخطر والترنّح والموت “للحياة” على كوكب الأرض، إذا ما استمرّت تصرفاته غير الواعية، وذهنيته السلبيّة والمتسلّطة وإسرافه المتهوّر لطاقات الطبيعة وثروتها وتجاه خيرات الأرض. “…والأهم من ذلك سيطرت الإنسان، سواء مدبّرة أم غير مقصودة، على الطبيعة، بطريقة أنانيّة تغتصب “كمالية الخليقة”، من أجل خدمة مصالحه الخاصّة، متناسيًا الخطر المُحدق الذي يتهدّد حياة أخيه الإنسان، وخلائق الله”. [3]
نعم، إنّ عظائم وجمالات خلائق الله، تتشوّه يومًابعد يوم، غير آبهين بالتعدّي على مشروعه، وغير مكترسين بالبشاعة التي تأخذ مساحة واسعة من كوكبنا. نعم، نسيَ الإنسان أنّ مصير وجوده على الأرض مرتبطٌ، بالطريقة التي يتعامل مع عطايا الخليقة وكيفيّة تقاسمها مع الآخرين والمحافظة عليها للأجيال القادمة من أجل استمراريّة جمالات “الحياة” أي الطبيعة الخلاّبة التي تساعد على السلام والتوازن والاستقرار. “على الرغم من وجود مصير مشترك للشعوب، تنشب الخلافات في ما بينها، في أكثر الأحيان، على موارد الطبيعة، متناسين بأنّ الخالق أعطى لجميع أبناء الأرض تلك الخيرات منأجل تقاسمها، بطريقة عادلة من أجل استمراريّة الحياة، كما أرادها الخالق. فهل يكون شكرنا للخالق بتدمير مشروعه للإنسان؟ بالطمع والجشع ومحاربة بعضنا البعض، من أجل أنانيتنا وحبّ السيطرة؟ ألا يدرك الإنسان بأنّه فانٍ وزائل عن هذه الأرض؟ حتى الآن، لم نتعلّم من فلسفة الطبيعة، أو من تركيبتها، وتفاعلها بطريقة منظّمة بحسب نظام أعدّه الله لها. تدعونا الطبيعة إلى عيش السلام مع الله والإنسان ومعها. لذا على إنسان اليوم، العودة إلى أحضان الطبيعة، لأنّها واحة سلام وطمأنينة، ومثال حيّ للعطاء المجانيّ. فهي تعطي بسخاء. وكم يُخطئ الإنسان بحقّ مَن يحتضنه، ويسهّل عليه الحياة؟ هلمّوا معًا من أجل إنقاذ، ما تبقى من عطايا الأرض وثروتها والتي هي بخدمة الإنسان كلّ إنسان”. [4]
نعم، الكائن البشري فرّط في مكانته الصحيحة وتخلّى عن مسؤوليته في المحافظة على مخلوقات الله وذلك بالدوران حول نفسه وبأخذ مواقف تسلطيّة واحتكارية تجاه البيئة، وهذا رفض مطلق لسلطة الله ومحبّته لمخلوقاته. إنّه يعامل خليقة الله: الآخر والطبيعة وحتى الحيوانات، كسلعةٍ تعود إلى هيمنة عمياء، تفقده بعض الأحيان إنسانيته، والتي عليه أن يؤنسنها مع الأيّام، من خلال السلام والتوازن والاستقرار والاحترام. على الكائن البشريّ التخلّي عن فكرة منطق الهيمنة على الخلق، وذلكباستقباله وقبوله عطايا الله بكلّ احترام وتقدير، والمحافظة عليها.
- تربية بيئيّة
يدعو البابا فرنسيس في رسالته “كُن مسبّحًا” (لكَ التسبيح) إلى العمل الجدّي من أجل إنقاذ الخليقة فيقول “هناك مناقشات، حول مسائل تتعلّق بالبيئة، يصعب فيها التوصّل إلى توافق ]…[ إنّ الكنيسة لا تدّعي تحديد المسائل العلميّة، ولا أخذ محلّ السياسة، ولكني أدعو إلى نقاش صادق وشفّاف، كي لا تُلحِقَ الحاجات الخاصة أو الإيديولجيات الضرر بالخير العام” (عدد 188).
تُدرك الكنيسة مع قسم كبير من المجتمع المدنيّ، أنّ أزمة البيئة العالميّة لها أسبابها الكثيرة والتي مصدرها الإنسان أوّلاً ومن ثمّ، الكوارث الطبيعيّة والتغيّر المُناخي والانحباس الحراريّ ومشاكل طبقة الأوزون وإلى آخره.
يُطلب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ثقافة بيئيّة أو تربية بيئيّة من أجل المحافظة على مصادر الحياة اليوميّة. “لذا يُطلب اليوم إلى كلّ مواطن، أن يتحلّى بثقافة بيئيّة، تتجلّى في المحافظة على استمراريّة الحياة على الأرض، وذلك بتوخيّ الحذر، وعدم الهدر، والمحافظة على جميع الكائنات الحيّة، من حيوانيّة ونباتيّة وإلى آخره، كي تبقى مقوّمات الحياة الأساسيّة صالحة للاستعمال متجدّدة ووافرة”.[5]
إنّ التربية البيئيّة قادرة على التأثير على تصرّفات الإنسان تجاه البيئة. فهي تتكوّن من مبادرات صغيرة وبسيطة؛ تستطيع تغيير الذهنيّة، والتغلّب على منطق العنف، والاستغلال بطريقة عشوائيّة وغير مدروسة لمختلف الموارد الطبيعيّة، كما تسيطر على الأنانيّة والفحشاء. فالتربية تخلق حالة من الوعي والإدراك، وتدرّب على الاحترام والتكافل والتضامن، كما تجلب السلام والاستقرار والسعادة. فالسعادة لا تكون بأن نحصل على “كلّ شيء” بطرق سيّئة، وإنّما أن نقدّم للآخر “كلّ شيء” بطرق صحيحة وسليمة. “فالتربية على البيئة موضوع أخلاقيّ ومصيريّ، يعتمد الواقعية والعمليّة المبنيّة، على العلم، والفكر، والثقافة، والأخلاق. سعادتنا لا تأتي فقط من الأشياء الماديّة، إنّما من عطايا الطبيعة، ومن العلاقات البشريّة والعلاقة مع الله. من هذا المنطلق، لا بدّ من إعادة خلق شراكة بين الطبيعة والإنسان، من خلال العمل على خلق عالم بيئي عالميّ”.[6]
يشدّد البابا فرنسيس في رسالته “كُن مسبّحًا” (لكَ التسبيح) على التربية البيئيّة من خلال الإصلاح والحاجة إلى تغيير جذريّ في الذهنيّة والسلوك الإنسانيّ، تجاه البيئة. كما دعا إلى توبة بيئيّة عامة والتقيّد بالشروط الأدبيّة لصيانة البيئة البشريّة بطريقة صحيحة ومستدامة وذلك إرتباطًا بالتربية والثقافة. ويقول البابا بهذا الخصوص “لانملك بعد الثقافة اللازمة لمواجهة هذه الأزمة، وهناك حاجة إلى تكوين قيادات تشق دروبًا جديدة ]…[ وهذا يتطلّب تربية بيئيّة وروحانيّة إيكولوجيّة والسعي إلى نمط آخر من الحياة”. (عدد 203)
تساهم التربية البيئيّة في تطوير الذهنيات، وتقدّم قناعات ثابتة، وتدرّب على أنماط حياة صحيحة وسليمة، وتوظيفها، واستغلالها لصالح الإنسان، دون ضرر وخلل مباشر لمكونات البيئة. التربية البيئيّة تساعد وتحافظ على بقاء الحياة البشريّة، وتضمن استمراريتها وتطوّرها، وتقدّمها، وتحول دون العبث بها، أو استغلالها بطريقة وحشيّة، أو استنزافها بأنانية، أو تلوّثها بسبب الجهل والاهمال وحبّ السيطرة، دون التفكير بالأجيال القادمة.
تنطلق التربية البيئيّة من المنزل (الأهل) والمدرسة والجامعة، والمؤسسات، والجمعيات والحركات، ومن خلال تصرفات صغيرة صحيحة. فهي تُسهم في تنمية الوعي، وصقل القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وتنمية المهارات، والحسّ على المفهوم الجماعيّ، كما تعزّز أخذ القرارات الصائبة والسليمة، توظّفها في احترام الخالق ومخلوقاته.يقول البابا في رسالته التي أطلقها في اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة (1 أيلول 2016) “أنّ الله وهبنا حديقة خضراء ولكنّنا نحوّلها الآن إلى فسحة ملوّثة بالأنقاض والصحاري والتراب”.
أخيرًا، بالرغم ما يحدث في عالمنا، علينا المثابرة والنضال مع كلّ إنسان، من أجل المحافظة على بيئة سليمة وصحيّة ونظيفة. ويذكّرنا البابا في رسالته (كُنْ مسبّحًا) فيقول “إستعادة مختلف مستويات التوازن الإيكولوجي: المستوى الداخليّ مع الذات، والمستوى الثقافيّ مع الآخرين، والمستوى الطبيعيّ مع جميع الخلائق، والمستوى الروحيّ مع الله. ينبغي على التربية البيئيّة أن تُعدّنا للقيام بهذه القفزة نحو “السرّ”، والذي منه تنهل الأخلاقيّة الإيكولوجيّة معناها الأعمق”. (عدد221).
الأب نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
[1] كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، المرأة والتنميّة، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2008، ص 49
[2] المرجع السابق، ص 53
[3]المرجع السابق، ص 51
[4] المرجع السابق، ص 49
[5]المرجع السابق، ص 53
[6]المرجع السابق، ص 53