أقولُ أيضا، من قال بأنّ كلّ ما درسناه في صفوفنا الثانويّة من موادّ أدبيّة وعلميّة هو صحيح! قد يكون ” نصبٌ وإحتيالٌ ” يضحكون به على عقولنا.
ليست المشكلة، عند قراءتنا لمثل هكذا أسئلة، في الكتب والتفاسير والشروحات وفي التعليم، بل المشكلة في السائل. فليس كلّ ما يسأله السائل يدلّ، على إعوجاج وسلبيّة في ما يسأل فيه ويريد معرفته. هناك بعضُ الأسئلة هي ذاتها تكون خاطئة وتحتاجُ لمنطق آخر في الطرح.
قد تكون أساليبُ تفكيرنا وتشخيصنا في عيشنا الواقع اليوميّ فيها سلبيّات وإيجابيّات. فنحن لسنا كاملين مئة في المئة. ولا يمكننا، فقط من خلال العقلانيّة والعلوم، أن نقولَ بأنّ هذا الأمر هو ” حقيقيّ “، بحجّة أنه ملموسٌ ووُضِعَ تحت مجهر البحث والتقصّي! هناكَ في الحياة أمورٌ لا يمكننا حشرها في مجال التخصّصات العلميّة والتطبيقيّة والبرهان عليها لكي نستطيع إظهار النتيجة إن كانت مزيّفة أم حقيقيّة: أبسطُ أمثلة على ذلك : الحبّ، الجمال، الحسّ، الوجدان، السلام …. الخ. هل عندما يشعرُ شخصٌ ما بحبّ أو يشعر بجمال أمر ٍ ما، أو يحسّ بالفنّ والذوق الحساس، ويشعر بسلام ٍ غامر ٍ في أعماق نفسه، نستطيعُ أن نقول عنه : ربّما يكون ذلك حقيقيّ، وربّما لا.
ألا تدركُ عزيزي السائل، بأن هناك نظريّات علميّة كثيرة لا زالت ” نظريّات ” إفتراضيّة!
هذا السؤال يخصّ، بالدرجة الآولى، قضيّة الإيمان المسيحيّ. فليس الهدف من السؤال هو إثباتُ صحّة التفاسير والشروحات والتعليم، بقدر أن نؤمِن ونفهم. الإيمان هو ثباتٌ وفهم. هناك آيةٌ في الكتاب المقدّس تتعلّق بالإيمان، وتكاد تكون ترجمتها صعبة. ” إن لم تؤمنوا، لن تفهموا ” (اشعيا 7 : 9) النسخةاليونانيّة من الكتاب المقدّس العبريّ، الترجمة السبعينيّة التي قام به السبعون في الإسكندريّة بمصر، قد ترجمتْ هكذا كلمات النبيّ إشعيا إلى الملك آحاز. بهذه الطريقة قد تمّ وضع مسألة معرفة الحقيقة في قلب الإيمان. لقد عبّر القديس أوغسطينوس عن الموجز بين ” الفهم ” و ” الثبات ” في إعترافاته، عندما تكلّم عن الحقيقة، التي يمكننا الثقة فيها حتى نتمكّن من البقاء ثابتين: ” سأكونُ ثابتــــًا، وراسخا فيك (..) في حقيقتك “.
يقول البابا فرنسيس في رسالته ” نور الإيمان “(25) : إن إستدعاءَ الصلة بين الإيمان والحقيقة هو اليوم مهمّ أكثر من أيّ وقت سابق، خاصّة بسبب أزمة الحقيقة التي نحياها. فنحنُ في الثقافة المعاصرة، نجنحُ إلى أن نقبلَ كحقيقة فقط تلك التي تتعلّق بالتقنيّة: فالحقيقيّ هو فقط ما يستطيع الإنسان بنائه وقياسه بعِلمِه، حقيقيٌّ لأنه يعمل، ويجعلُ الحياة أكثر راحة ً وسهولة.
معرفة الحقيقة يحتاجُ لإيمان، وإصغاء وسماع ٍ ورؤية ، ويحتاجُ لمسيرة وإستمراريّة مستديمة ، وتأمّل وتفاعل بيني وبين ما أتأمّله. لا يمكنني أن أقرأ النصّ والتعليم والتفسير بروح ٍ علميّة وعقليّة صرفْ! عليّ أن أتعايشَ مع ما أقرأءه وأتأمّله. هل لديّ الرغبة العميقة في الرؤية وفي السماع؟! هل لديّ إنتظارٌ أم أنّي أصاب بالملل بسرعة عندما يعسُر عليّ شيء! هنا هي القضية. أحتاجُ إلى أن ألقي نفسي في المجهول وفي اللجّة العميقة لكي أستخرجَ المكنونات الجوهريّة فيه. وهناك، بالإضافة إلى ذلك، صراع وتحديّ . فالإيمان هو صراعٌ أيضا وتحديّ وثورة ضدّ كل ما ليس من الإيمان بشيء. هل أنا مستعدٌ للسير ضدّ التيّار المعاصر !؟ هل أنا مستعدٌ لغير المتوقّع في الإيمان؟، البابا بنديكتوس السادس عشر يقولُ : الإيمان، من حيث جوهره، يمثّل الإتكال على حقيقة ليست من صنعنا ولا يمكن أن تكونَ كذلك، وهي، لهذا السبب، تؤلّف أساس فعاليّتنا.
إذن، هل الكتاب المقدّس صحيحٌ؟
يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني، بالتأكيد وبأمانة ٍ ومن دون خطأ، تعلّم الكتب المقدّسة الحقيقة . لأنها ملهَمة، يعني ذلك أنها كُتبت بإلهام الروح القدس ولذا فهي من وضع الله. ويتطلّب الإعتراف بنصوص محدّدة ككتاب مقدّس قبولا جامعًا في الكنيسة. يجب أن يوقّع في الجماعة اتفاقٌ مؤكّد: ” نعم من خلال هذا النصّ يتكلّم الله ذاته إلينا” . إنه ملهم من الروح القدس! . لقد أوكل الربّ يسوع المسيح خدمة التعليم إلى التلاميذ وإلى خلفائهم وأعطاهم عون الروح القدس لكي يُتمّموا هذه المهمّة.
نحنُ كنيسة رسوليّة. مبنيّة على أساس الرسل وتعليمهم. فالرسل أسّسوها وتتمسّك بتقليدهم وهي بقيادة خلفائهم. في القرن الخامس، وضع فينسان دي لارينس المبدأ التالي: كذلك في الكنيسة الكاثوليكيّة عيِنها من المقرّر الإهتمام بأن لا نتمسّك إلا بالإيمان الذي كان في كلّ مكان وكان دائمًا إيمانَ الجميع؛ لأنّ هذا الإيمان هو في الحقيقة وفي المعنى الدقيق كاثوليكيّ “. حقيقة الإنجيل، هي على الدوام، عبرَ التعابير الثقافيّة والتاريخيّة المتنوّعة، واحدةٌ لا تتغيّر.
ليس هناكَ في الكون فقط ما يُمكن قياسه وتجربته وعندما ننجحُ في ذلك، نقولُ / إنه حقيقيٌّ! وعندما لا نفهمُ لا يمكن أن نقيسَ نجرّب أمورًا أخرى،فهذه هي ليست حقيقية بل مشكوكٌ بها، بمعنى ” نسبيّة”. فإذن، صفتْ قضايا الإيمان والعقيدة امورًا نسبيّة مشكوكٌ فيهما، والحقيقة هي فقط عند أصحاب العقل والعلم. لا يمكننا أن نؤمن بطبقة واحدة في العالم وهي طبقة العلم والعقلانيّة، بل هناك طبقةٌ أخرى أعمق ألا وهي طبقةُ: الإيمان. فكثيرٌ ممّا لا نستوعبه، وليس كلّ ما لا ندركه هو مشكوكٌ في صحّته. فللإيمان منطقٌ لا يدركه العقل! سرّ الثالوث مثلا، لا يدركه عقلٌ بشريّ، لكن نستطيعُ، من خلال تعايشنا مع الله، أن نستوعب ” عقلانيّة هذا السرّ“. ليس علينا أن نمتلك (نتملّك) الحقيقة، بل إنّ الحقيقة هي التي تحتوينا وتسبقنا. قد يكون ” الإنتظار والصبر والتأمّل” هم الأدوات الضروريّة لكي نكتشفَ عمق النصوص !
Robert Cheaib - theologhia.com
كيف نتأكد من صحة التعليم والكتب والتفاسير اللاهوتيّة والكنسيّة؟!
أقولُ أيضا، من قال بأنّ كلّ ما درسناه في صفوفنا الثانويّة من موادّ أدبيّة وعلميّة هو صحيح! قد يكون ” نصبٌ وإحتيالٌ ” يضحكون به على عقولنا. ليست المشكلة، عند قراءتنا لمثل هكذا أسئلة، في الكتب والتفاسير والشروحات وفي التعليم، بل المشكلة […]