مقدمة
يسأل أحد التلاميذ راهباً شيخا عن الإفادة الكبرى في تطوير الحياة الروحية! أتكمن في البحث عن مساعدة لدى الرهبان الحكماء أو البقاء على الصلاة في عزلة؟ فيجيبه الراهب: زيارة الشيوخ هي قاعدة الآباء الأقدمين، مرجعاً في الاقتداء المسيحي للسير على الخطى الصحيح. ونحن اليوم، ما الفائدة من زيارتنا لكنيسة تحمل اسم القديس أنطونيوس الكبير أو التشفع به أو الإحتفال بتذكاره؟ هل إنّ اسم أنطونيوس يولِّد في المخيّلة المسيحية صورة أسطورية أو بطلاً ناسكا هرب من العالم الى الصحراء أكثر مما هو مرجعاً وقدوةً في الحياة الروحية ومثالاً في ترك كل شيء لاتّباع الكامل والكمال؟
تُشكِّل سيرة حياة أنطونيوس الْمُدوّنة من قبَل البطريرك أثناسيوس دستورَ تأسيسٍ للحياة المسيحية وبالأخص الرهبانية. هي أكثَر من سرد لقصة حياة، بل نص جوهري عن الحياة الروحية. كثيرون ترهبوا وكثيرون كانوا قديسين ومتوحدين ولم ينالوا شهرة القديس أنطونيوس. القديس بولا السائح مثلا ترهّب قبل أنطونيوس، وخلال لقائه معه كان يخاطبه بعبارة “يا إبني”، فيجيبه الأخير بعبارة “يا أبي”. كان القديس أنطونيوس بمثابة أب لرهبنة ولأول مدرسة رهبانية، أب لفكرة روحية مميّزة تجسّدت وانتشرت في كل مكان، له مئات الآلاف من الأبناء، له أبناء في كل بلدان العالم.
قبل الدخول في عمق روحانيّة هذا القديس العظيم، لا بدَّ من التوقّف على بعض ملامح سيرته التاريخية في أسطر قليلة.
1- أيقونة تقويّة عالميّة
وُلِدَ أنطونيوس في مدينة “كوما”، في صعيد مصر نحو سنة 251 مسيحيَّة، على عهد داسيوس الملك، من والدَين مسيحيَّين تقيَّين من أشراف البلد وأغنيائها. تعـلـَّم قواعد الإيمان والدِّين والأخلاق وطبَّقها في حياته منذ الصِّغر. كان محبًّا للعزلة والصَّمت والصَّلاة. لم يتعلـَّم أنطونيوس لا القراءة ولا الكتابة، ولكنّ الله قد وهبه ذكاء طبيعيًّا، بنوع أنـَّه كان يحفظ عن ظهر قلب كلَّ ما كان يُتلى عليه من نصوص الكتب المقدّسة والآباء القدِّيسين وأخبار النـُّسَّاك الكـُثر في أيَّامه، العائشين في براري الصَّعيد.
سمع يسوع يوما يقول لذاك الشَّابّ الغنيّ: “إذا شئتَ أن تكون كاملاً، فاذهب وبعْ ما تملكه وأعطِه للمساكين، فيكون لك كنزٌ في السَّماء وتعال اتبعني… ومَن ترك من أجل اسمي بيتـًا أو أخوة أو أخوات أو أبًا أو أُمًّا أو بنين أو حقولاً ينال عوَض الواحد مئة ويرث الحياة الأبديَّة”. ( متى 19: 21 و29) . وكانت البداية.
ترك هذا الكلام أثراً كبيراً في أنطونيوس، فأخذ يتأمَّله مليًّا وكأنـَّه موجَّه إليه شخصيا. فحرَّكت نعمة الله قلبه وعـلـَّل النـَّفس بترك العالم والإقتداء بالمسيح الفقير وبمَن سبقوه إلى البرِّيَّة. فالبرِّيَّة مع أنطونيوس تجاوزت حدودها الجغرافيَّة لتصبح موضعاً للقاء الله ومقاومة الَشِّرِّير في آن والإنفصال عن الشَّرّ، كما وترمز أيضاً إلى التـَّرحال من دون ارتباط بأرض أو ممتلكات ولا إهتمام بالجسد بل بمقاومة الرَّذائل، فضلاً إلى الإستقرار في مكان منعزل في سبيل اكتساب فضائل إنسانية وإلهية تقاوم النـَّزعة الأنانيَّة.
صلاة أنطونيوس كانت تدوم حتى شروق الشَّمس، فكان يستند إلى عكـَّاز علـَّق في أعلاه جرسًا صغيرًا، حتى إذا أتاه شيطان النـُّعاس ليلاً، تتحرَّك العصا ويدقّ الجرس، فيعود أنطونيوس إلى وعيه السَّابق، مختطفاً من الـنـَّوم قليلاً، متذكـِّرًا قول الرَّبّ يسوع “إسهروا وصلـُّوا لئلاَّ تدخلوا في تجربة”. (متى 26/ 41). وبعد سنين طويلة من الجهاد الروحي والحياة الـتأملية، وبما أنه بلغ سنّا متقدِّما (105 سنوات) تحضّر للموت، وبعد مرض لفترة من الوقت ومتحسّساً بقرب أجله، دعا تلميذّيه اللّذين عاشا معه في الخمسة عشر سنة الاخيرة وترك لهما الوصية: “أنا، كما هو مكتوب، ذاهب على خطى الآباء. أرى أنّ الربّ يناديني… تنفَّسوا دائما المسيح وآمنوا به”.
على مثال متّى الإنجيلي قام أنطونيوس وتبعَ المسيح لدى سماع ندائه، ما يدلّ على جهوزيته في ترك كل شيء، أي كل ضمانة وجود واستمرار حياة. بناء على نداء المسيح فهم أنطونيوس بأن الإلفة التّامة معه لا تمكّنه من المثابرة على الحياة المدنيّة وضماناتها التي كان يتمتّع بها، بل قام وحزم أمره، وعبّر عن انفصاله الكليّ عن الحياة العادية لإيجاد معنى أعمق لوجودٍ جديدٍ وحقٍّ مَبْني على الشراكة الدائمة والأبديّة مع المسيح.
تاريخياً، لم يكن أنطونيوس أول راهب حتى لو أن الرهبان الشرقيين والغربيين يعترفون بذلك، ولا حتى مصر كانت مهد الحياة الرهبانية، علماً بأن صحراءها كانت مركز الاشعاع الذي أثّر بطريقة أو بأخرى على الأنماط الرهبانية التي وجدت حينها أو كانت في حال التطور، ذلك بسبب قداسة رهبانها الذين أصبحوا آباء ومرجع لخلفائهم، كإنتشار سيرة أنطونيوس التي كتبها أثناسيوس بطريرك الإسكندرية.
إن كانت الأجيال اللاحقة من الرهبان قد وجدت في سيرة أنطونيوس قاعدة حياة نسكيّة تحت شكل قصة، يجب التذكير حينها بأن لا أنطونيوس ولا حتى آباء الصحراء أرادوا إدخال روحانية في الكنيسة مُختلفة عن تلك التي كان المسيحيون يعيشونها، بل حياةً أفضل، أكمَل وأشمل بالنسبة لتلك التي كان يعيشها المعمّدون كافة.
2- أيقونة جهادية روحية
ليسَت من الضرورة أن تكون الحياة النسْكية مليئة بالممارسَات الرهبانية كي تؤكد على العيش في نعمَة الله. إن النسكَ الإنجيلي كما يعلّم أنطونيوس هو عمل تحرّري وليس تجنّد لمعلّم، وثمار النسك الشيطاني هي التعاسة، اللاّمبالاة، التهاون، بينما ثمار النسك الإنجيلي هي السعادة والسلام.
ما يرغبه الشيطان هو جرّ البسطاء نحو الضلال والتأكيد لهُم على أنَّ النسْكَ غَير مُجدي، بهدف دفْع المؤمنين نحو التهاون والتراخي، مُقنعاً إياهم بأنّ الحياة المسيحيّة ثقيلة وخطرة. عُرِفَ أنطونيوس بصراعِه الكبير مع الشَّياطين التي جرَّبته بكافـَّة أنواع المغريات، كالطـَّعام والمال والجنس والمجد الباطل والكبرياء والعودة إلى الماضي والخوف من المستقبل، فكان مثالاً للجهاد والتـَّقوى والفضيلة والإماتات الشَّاقـَّة، يُلقي في قلوب العباد رجاءً وطيدًا بالنـَصر رغم كلّ أسباب الضُّعف والتـَّجارب.
لهذا السَّبب أحبَّه الـنـَّاس وأبغضه عدوّ الخير، الذي أفرغ كنانة جهده يحاربه ليلاً نهارًا ليُثبط عزمه. إلاَّ أنَّ أنطونيوس فما كان لينخدِعَ فيتراجع عن عزمِه ويتخاذَل، بل بالعكس لقد أطال في الصَّلاة وبالغ في التـَّقشُّفات والإماتات والأسهار والأصوام والتأمُّلات الرُّوحيَّة، مُتذكـِّرًا كلام الرَّسول بولس: “إلبسوا سلاح الله لتستطيعوا مقاومة مكايدَ إبليس، فإنَّ محاربتكم ليست مع لحم ودم بل ضدَّ الرِّئاسات والسَّلاطين ووُلاة العالم،عالم الظـُّلمة والأرواح الشِرِّيرة في السَّماويَّات”. (أفسس 6/11- 12).
تحت حكْم الأمبراطور مَكسيميْنوس خضعت الكنيسةُ للاضطهاد، وتمّ توقيف العديد من المسيحيّين في الاسكندرية. أنطونيوس، متعاضداً مع أبناءِ رعيّته ومدينَته، تركَ الصحراء ليشجِّع المسيحيِّين في السجون. ولو كانَت هذه رغبة الربّ، كان يود أن يشهدَ بإيمانه بالاستشْهَاد. توقفَ الاضطهاد وعاد أنطونيوسُ إلى الصحراء حيث يقول اثناسيوس: ” كان يعيشُ كل يوم استشهادَ القلبِ ويقاوم معَارك الايمان”.
إن شهرة “رجل الله” كما سمّوه الناس ذاعت، إذ بدأوا يؤمّون الصحراء للقائه، من بينهم فلاسفة وثنيين وأباطرة كتبوا له. كثيرون أمُّوه ليطلبوا نصَيحة، شفاءً وإرشاد. ولكثرتهم هربَ أنطونيوسُ الى مكانٍ أَكثر عزلة ليدافع عن وحدته والشراكة مع الله. فالرغبة في التعرّف حقيقة إلى الله، أي إلتماس وجهه، مؤصّلةٌ في كل إنسانٍ أيٍّ كان. لكن هذه الرغبة، كما تيقَّنها أنطونيوس في مثابرته على الجهاد الروحي، لا تتحقّق إلاَّ في اتِّباع المسيح بالتزام يقين وواع، مُستبعداً كل روح نكر وخبث. ميزة جهاد أنطونيوس تكمن في تخصيص كل وقته لربّه، ليس عند حاجته الملحّة إليه أو في فترة راحة من إلتزاماته اليومية، بل بكلّية حياته. فوجوديتُه ومع ما تحمَّلَه من قناعة وثبات وجهاد، موجّهة برمّتها نحو الله، كمصدر وغاية حياة، يتوسّطها حبُّ الله المتجسِّد بحبِّ الآخر والمرتَكِز على حبِّ المصلوب. بذلك يُصبح وجه الله بالنسبة لأنطونيوس أليفاً في الإصغاء إلى الكلمة، في الدخول إلى عمقها للقَائه والبقاء في معيَّتِها بالهذيذ الـتأمّلي والروحي الدائم.
3- أيقونة حكَميّة إرشادية
قال القدِّيس أُغوسطينوس:”إنَّ أنطونيوس الرَّاهب المصريّ الذي كان رجلاً قدِّيسًا كاملاً، قد تعلـَّم عن ظهر قلب كلّ الكتب المقدَّسة لمجرَّد سماعه الآخرين يقرأونها، وقد فهم كنه معانيها بالتأمُّل والإفتكار فهمًا مليًّا”. وأخبر عنه معاصره القدِّيس أتناسيوس، قال: “سأله فيلسوف ذات يوم إذا كان يستولي عليه الضَّجر لعدم السَّلوى التي يُدركها الآخرون بمطالعة الكتب؟” فأجابه القدِّيس: “إنَّ لي بالطـَّبيعة خير كتاب”. ويقول القدِّيس إيرونيموس: “إنَّ القدِّيس أنطونيوس هو رئيس السِّيرة النـُّسكيَّة الرُّهبانيَّة وأوَّل مَن جمع عددًا من النـُّسَّاك ليرتـِّلوا تسابيح الرَّبّ معًا بأصوات الفرح والتـَّهليل”.
ألمسيح كان يعلـِّم بالأمثال وبالمثل قبل الكلام. هكذا أنطونيوس تتلمَذ له عدد كبير من محبِّي الخلوة والصَّمت. فأخذ يدرِّب خطاهم الفتيَّة في طريق الكمال الإنجيليّ ويفرغ في قلوبهم وعقولهِم وذاكرتهم ما جمعَه هو من قلبِ الله في قلبِه وعقلِه وذاكرَته، نزولاً عند رغباتهم، فقال لهم يوما: “تقترحون عليَّ اقتراح الأبناء على أبيهم أن اُرشدكم فيما تعملون أو ما به ترتابون، فأُجيب: “إنَّ التـَّجارب الطـَّويلة علـَّمتني” . فلا أحد منكم يتضجَّر، بل فليثبت في عزمه قائلاً: “الآنَ ابتدأت، متأمِّلاً أنَّ حياة الإنسان قصيرة جدًّا وليست شيئًا إزاء الأبديَّة”. لذلك، فالقدِّيس أنطونيوس يُدعى بكلّ حقّ منشئ الحياة الرُّهبانيَّة الجماعيَّة وأوَّل واضعِي القوانين الرُّهبانيَّة”. فمِن أهمّ ما علـَّمه لتلاميذِه ويعلّمنا إيّاه اليوم:
1- أهمِّيَّة الكتاب المقدَّس: قال،”الكتاب المقدَّس هو نور هادٍ وكاف ٍ لينير عقلنا ويقدِّس نفوسنا ويسدِّد خطايانا نحو البرّ والقداسة والسّعادة. وهو غذاء للنـَّفس وينبوع تجري منه مياه النـِّعمة للحياة الأبديَّة. كيف لا وهو كلام الله الذي قال أنا الطـَّريق والحقّ والحياة؛ وأنا الرَّاعي الصَّالح؛ تزول الدُّنيا وحرف واحد من الـنـَّاموس لا يزول”. لهذا السَّبب كان الإقبال كبيرًا على مطالعة الكتاب المقدَّس الذي صار سمير النـُّسَّاك في البراري والمغذي والمعزِّي في القفار والطـَّبيب في الأوجاع وعربون السَّعادة في المجد الآتي.
2- المحادثة الرُّوحيَّة: كانت العادة بين النـُّسَّاك، بفَضلِ أنطونيوس، أن يتلاقوا ولو مرَّة في الأُسبوع أو الشَّهر للمذاكرة الرُّوحيَّة والصَّلاة. وكانوا يعلـِّقون عليها أهمِّيَّة كبرى للنـُّموّ في الحياة الرُّوحيَّة، حيث كلٌّ من النـُّسَّاك كان يدلي باختباره النـُّسكيّ وبمعلوماته عن النـُّموّ في حياة الرُّوح، وعن الحرب مع الشَّيطان وحِيَله وكيفيَّة الإنتصار عليه. فكان الأكبر سنـًّا في النـُّسك يوجِّه في النـِّهاية كلمة تشجيع. فيعود كلٌّ إلى منسكه بعد أن يكونوا قد صلـُّوا سويَّة ومجَّدوا الله. وممَّا قاله القدِّيس أنطونيوس في هذا الصَّدد: “وللمحادثة الرُّوحيَّة فوائد جليلة وتعزيات عظيمة يعزِّي بها بعضنا بعضًا”.
3- التـَّواضع: كان القدِّيس أنطونيوس يفتَتح جميع إرشاداته بذكر فضيلة التـَّواضع وشدَّة لزومها للخلاص؛ “بدون التـَّواضع لا نستطيع أن ننجوَ من حِيَل الشَّيطان أوَّل المتكبِّرين. التـَّواضع هو السُّور المكين الذي نحتمي به من سهام العدو الجهنـَّميّ؛ فإذا هُدِمَ السُّور أصبحنا هدفـًا لسهام الأعداء، وهو أساس كلّ الفضائل؛ فعليه يجب أن نرفع بناء الكمال”. وقال: “ونظرتُ يومًا فوجدتُ الشَّياطين يضعون الحبائل ويحفرون الحفائر على وجه الأرض… فحزنتُ جدًّا وقلت: يا ربّ، يا ربّ، مَن يخلص من أيدي هؤلاء؟ فأجابني الرَّبّ: المتواضع يخلص والمتكبِّر يقع”. “المتظاهر بالتـَّواضع يشبه بيتـًا ذا منظر جميل وزينته تظهره للـنـَّاس كأنـَّه قصر فخم، قد حوى الحلى والحلل الثـَّمينة، مع أنَّ اللـُّصوص قد دخلوه وسرقوا منه كلـَّما يحتوي وتركوه خاليًا”. فالتـَّواضع هو بنَظَر أنطونيوس عَجبُ العجَائب. يكفي أنـَّه فضيلة الرَّبّ يسوع. وكان لا يخجل أن يتعلـَّم من حَدِث السِّنّ وهو في سنّ الشَّيخوخة.
4- الحكمة والفطنة: عرفنا أنَّ القدِّيس أنطونيوس كان أُمِّيًّا. غير أنَّ الله أعاضه عمَّا فاته من العلم البشريّ بنعمة مرشدة. فكان له من العلم والفهم بالتأمُّل، ما فاق به علماء عصره. وحصل القدِّيس أنطونيوس على هذه النـِّعم بما أفاضه الله على عقله وقلبه من الحكمة والفطنة. وممَّا قال في الفطنة: “إنـَّها سيِّدة جميع الفضائل”. ولما سُئِل يوماً عن الكمال المسيحيّ أجاب: “للبلوغ سريعًا إلى الكمال المسيحيّ إفتكر في أنـَّك تبدأ اليوم بخدمة الله. وافتكر في أنَّ هذا اليوم قد يكون الأخير من حياتك. إذا جرَّبك العدوّ فتذكـَّر أنَّ الشَّيطان لا يقدر البتـَّة أن ينتصر على الصَّلاة والصَّوم وعلى محبَّة يسوع الحارَّة”.
5- النـَّشاط والثـَّبات: خاف القدِّيس أنطونيوس من أن يأخذ تلاميذه التـَّواني والفتور والكسل في جهادهم، قال: “احذروا التـَّواني والفتور في عمل الخير؟ واحذروا المجد الباطل. فإنَّ كلّ ما نعمله لا يوازي مجد السَّماء”… “لنسِر وراء ما يقوِّم خطواتنا إلى السَّماء؛ غير ناظرين يمنة أو يسرة. ولنسِر مُسرعين مستيقظين، ناظرين إلى الأمام في جهادنا؛ فلا يفوتنا عدل ولا شجاعة، لا قناعة ولا حكمة؛ متمسِّكين بالإيمان والرَّجاء والمحبَّة. لنسِر بنفس ظافرة على الغضب والحسد والشَّهوة وغير ذلك ممَّا يوقفها في سبيل جهادها، عملاً بقول الرَّسول: “إنـَّنا نموت من أجلك كلّ يوم وقد حسبنا كغنم للذَّبح” ( روم 8/36). وتابع يقول: “أُناشدكم الله أن لا تنظروا إلاَّ إلى الغاية النـَّبيلة التي قصدتموها. لا تلتفتوا إلى الوراء كما فعلت امرأة لوط (تك 19/ 26)، واذكروا قول الرَّبّ: “مَن يضع يده على المحراث ويلتفت إلى ورائه لا يصلح لملكوت السَّماوات” ( لو 9/ 62). وقال: “لا تظنـُّوا أنَّ الفضيلة وإدراك الكمال هما شيء خارج عنـَّا وصعب، بل كلّ شيء منوط بإرادتنا. بنعمة الله جلَّ جلاله. فقد غرست الطـَّبيعة في قلب كلّ إنسان ميلاً إلى الكمال. فلا يقتضي البلوغ إليه سوى الإرادة. إنَّ الفضيلة التي تعمل فينا، لا تطلب سوى نفس مستعدَّة بالنـِّعمة لانتشار الملكوت ولقبول كلـَّما يَرد عليها من العلاء. وإن ما تقدَّست به النـَّفس من دم المسيح هو ينبوع لا ينضب تنبثق منه كلّ الفضائل، إلاَّ إذا شَوَّه جمالها شهوة أو حجب بهاءها خطيئة”.
6- موهبة تمييز الأرواح: قال الكتاب: “لا تصدِّقوا كلّ روح” (1 يو 4/1). وليس بصعب بنعمة الله أن نميِّز بين ملائكة الـنـُّور وملائكة الظـَّلام. فمنظر أُولئك محبوب، لطيف، جميل، مطمئنّ لذيذ، عذب ومنعش للقلب والرُّوح، وذلك لأنَّ الرَّبّ معهم. فتصير أفكارنا هادئة وبصائرنا صافية وأشواقنا نقيَّة، ونفوسنا هادئة وقلوبنا مرتفعة إلى فوق، تودّ لو خلعت الجسد لتصير مع الملائكة.
وأمَّا الأرواح الشِّرِّيرة، فعلى ملامحهم الجور والظـُّلم. منظرهم مخيف؛ أصواتهم مزعجة، أفكارهم دنسة. فإذا تراءوا لنا بمظاهر مرعبة اعترانا الخوف والقلق والاضطراب. وإذا تراءوا لنا بمظاهر قبيحة، هاج بنا الشَّوق إلى المنكرات وجاشت فينا العواطف الشَّهوانيَّة وملنا إلى الفساد والضَّجر والكراهيَّة لكلّ ما هو مقدَّس. قال القدِّيس أنطونيوس:” للشَّياطين مكائد، فإنـَّهم يتراءون أحيانـًا بشبه ملائكة الـنـُّور، يمدحون أعمالنا ويعدوننا بالثـَّواب الأبديّ. نعم، إنَّ عصرنا لا يتقبَّل بسهولة هذا المنطق. ولكن للقدِّيسين منطق آخر أسمى وأرفع يفوق منطق البشر.
7- الاستمرارية كجذور للاستقرار: الجهد الأوّل للقيام به يقول أنطونيوس هو الاستمرارية “ليكن جهدُنا المشترك في بادىء الأمر عدم ترك ما التزمنا به، عدم التلاشي في عملنا، وألانقول لذواتِنَا هنالك وقت كافي لتنسّكنا. بل بالعكس كأننا ما زلنا في البداية، لنضاعف يوما بعد يوم غيرتنا”. يبرهن انطونيوس بذلك بأنّ كل ما على الأرض هو قليل لذا من الأفضل تركه. هذه الارض صغيرة بجوار السماء. “كي لا نُغزَ برغبة الامتلاك، أي ربح نجني مما لا نملكه؟ لنمتلك إذن ما نحله: الحذر، العدالة، الاعتدال، القوة، الايمان بالمسيح، الضيافة”. ترك كل شيء لخدمة المسيح، هكذا يصبح الراهب خادما.
كيف يخدم؟ في ذلك يقدّم لنا أنطونيوس جوهرة رائعة “كل يوم… اليوم”. بمعنى آخر، الروحانية في الوقت الحاضر، أي كي نصبح خداماً أوفياء ليس بالشيء المعقّد، بل خبزٌ يومي: الحصول على الغَيرة نفسها في العمل لإرضاء المعلِّم، المثابرة في الحياة النسكيّة وعدم إهمالها ولو يوم واحد، كأنه اليوم الأخير من حياتنا. النتيجة: نتجنب الخطيئة، تقلّ الرغبة في الامتلاك، تقلّ النظرة السيئة تجاه الآخر، لا نجمع كنزاً لنا علَى الأرض بل نصبح فقراءَ هنا وأغنياء بالله، نسامح أكثر، نتعالى عن كلّ شيء.
8- المحاربة الدائمة لروح الشر: للانتصار عليها من الأَفضل معرفة مَن نحارب والحصول على الأسلحة المناسبة، هكذا نربح وقتاً وقوة. يصف لنا القديس أنطونيوس مُطوّلا وبتفاصيلَ عديدة الشياطين وتصرفاتها: تُغيّر بمظاهرها لتشابهنا، تحاول التنبؤ، تتباهى، ماكرة، تظهر لترعب وان واجهت مقاومة تهدّد بالقتل، تتلفّظ بكلمات بيبليّة وتتظاهر بتلاوة المزامير، توقظ الراهب للصلاة، تكذّب، تهاجم، تضع فخاخا، تُسقط، تتظاهر بإيقاعنا والإمساك بنا، تلعب، تتراذل بكل الأساليب، دائمة الجهوزية للايقاع بالخطأ، وبعض المرات تمدحُ نُسكَ الراهب وتعلِنُه مُطوَّب. فبقدر ما يتقدم الراهب في مسيرته الروحية تتكاثر أعمال الشياطين لأنها لا تعمل إلا عندما الراهب يقاوم من أجل المسيح.
من الممكن ان بعض منها يُرعب الراهب!! نعم، لذا ينصحنَا أنطونيوس ويحدّد لنا من هي الشياطين: ضعيفة، غير فعالة، لا يعلَمون شيئا بقواهم، لا يمكنهم إيقافَ نُسْك الراهب، غُرباء عن النسّاك، ومن الممكن التغلب عليهم. كيف؟ بموقفِنَا ضدّهم، اي ألاّ نَخافهم، ألاَّ نُعيرَهُم أي إنتباه، إهمَالهم. كيف يتمّ طَردُهم؟ بالصلاة، الصوم والايمان، بإشارَة الصليب، بنِعمَة المسيح وبكلمة الله. هي تخشى الأصوام، السهر، الصلوات، الحنان، التواضع، الارشاد، محبة الفقراء، الاحسان والشفقة والرحمة.
4- أيقونة رهبانيّة عمليّة
يعلّم القديس أنطونيوس طريقةً لإعادة اكتشاف الصلاة كنفَس الحياة. الناسك أو المتوحد هو الذي يترك كل شيء ليكرّس ذاته في البحث عن الله. إنّ الصورة الأساسية للنّاسك هي جِدْ محترمة وهادئة، فهو من ينسَحب نحو الكمال. إن كان للنُسْك، للصلاة، للتأمل أو للتوحد في وقت مهمّ في الحياة، فالناسك يترك بهدوء وصمت، أي دون ضجة، المجتمع الإنساني لينضمّ إلى الصحاري أو الأماكن المنعزِلة حيث يتمكّن من التركيز على عالمِه الداخلي. كانت الصلاة بالنسبة لأنطونيوسَ نفَسَهُ اليومي والعميق ليعيشَ الله وليعيشَ الله فيه. يُعلّم أنطونيوس كيفية البحث عن الهدوء، الوداعة وصمت الله في الصلاة من خلال أفعال أربعة:
1- النفَس: إن الصلاة هي في الدرجة الأولى نفَس أو بالأحرى عملٌ أساسي للإيمان كما أن النفَس هو مبدأ الحياة. عمل التنفّس هو الصلاة بينما الأسرار هي الغذاء.
2- التأمّل: هو عمل لا يقلّ أهمية عن الصلاة حين يكون خارج إطار الأحاسيس أو الغريزة بل مشاركة في سؤالنا له. يؤكد مار توما الأكويني على أنّ “الصلاة هي بمثابة عمل الفكر يُطبِّق رغبة الارادة على الذي هو خارج سلطتنا وفي درجة أعلى منا”، أي الله.
3- الجهاد: يذكّرنا بالقتال الذي جرى بين يعقوب والملاك والذي يشرحه النبي هوشع كصلاة، إذ يقول، يعقوب “صارع ملاكا وغلبه، وبكى وتضرع إليه وفي بيت إيل وجده وهناك تكلم معنا” (عو 12، 4). فالصلاة بقدر ما هي خاصة تعني ألم وترجّي لله، فيها نوع من مكوّن سبّاق يولد من صعوبة فهم إرادة الله والتي تشفي من الكفر. حتى الله الذي يعلَم عمق فكرنا يُصغي أسهل لكفْر مُعلَن بإيمان وقلب بدلاً من صلواتٍ مبنيّةٍ على كلام فارغ.
4- الحب: خبرة الله كحبٍّ هي مسيحية بامتياز بخلاف عن سائر الديانات الأخرى حيث الله هو على مسافة من الإنسان. فإله المسيحيّين ليس بإله يرغب فقط بالتحدّث عنه، بل إله يريد التحدث معنا والتقرّب منا. لذلك بالنسبة للمسيحيين يجب أن تكون الصلاة بُعداً حميميّاً مطبوعاً بالعيد والفرح، بُعداً حواريّا.
ويمكننا إضافة الصمت كمكوّن خامس الى الأفعال الأربعة المذكورة أعلاه. فلنأخذ مثل حبيبيَن، فالحب بينهما يلغي كل المرادفات والمعاجم التي تتكلّم عنه وتصفه، وحتى أينما وُجدا لا تسَعهما الدنيا. فقط في صمت النظرة المغمورة بالعشق القوي الواحد للآخر كلُّ شيء حولهما يصمت وتتكلم النظرات والمشاعر دون كلمات.
الخاتمة
يبقى أنطونيوس المثل الأنسب والأصدق في كيفية أن يكون الإنسان غني بنفس الله. إن النفَس الحياتي لأنطونيوس دخل في نفَس الله القادر على كل شيء. فحياة هذا القديس هي أكثر من مثلٍ لحياة جميلة وجيدة، مجذوبة نحو الله، متَّخَذَة كلّيا به. يقول أثناسيوس: “بينما كان أنطونيوس يقول هذه الأمور، كان الجميع يتمتّع. في البعض كان الحب ينمو بالفضيلة، في البعض الآخر كان الكسل يبتعد، وفي آخرين الكبرياء ينطفئ. كلُّهم كانوا مقتنعين بأن حسدَ الشياطين هو أهلٌ فقط للإنحطاط وأنطونيوس أُعطي نعمة تمييز الأرواح”.
كان أنطونيوس أب الرهبان رجلٌ يُبحث عنه كثيراً لأنه كان ينتمي إلى الله، وأكثر من ذلك، مُلكاً لله، فكان الرهبان جميعاً يتوجهون إليه مودعاً إياهم هذه الوصية: “أن يتحلّوا بالايمان في المسيح، حبّه، أخذ الحذر من الأفكار السيئة وشهوات الجسد وعدم ترك الذات بالإغواء من شبع البطن”. ويضيف، “الهرب من الغرور، الصلاة دائما، إنشاد المزامير قبل وبعد النوم، الاحتفاظ وحفظ تعاليم وشرائع الله، التذكر والتشبه بأعمال القديسين بحيث أن النفس المغمورة بالتعاليم الإلهية بإمكانها التأقلم على غبرتهم”.
إنَّ الوحدَة التي كان أبُ الرهبانِ يَعيش في حنَاياها لم تكن إنعزالاً ولا انطواءً عقيماً على ذاته. فأولى ثمار الوحدة مع الله هي الحبّ والشعور بالقربِ من كلِّ إنسان. يذكّرنا أثناسيوس في مرات عدة بحبِّ وحنان أنطونيوس بدءاً من سيرة حياته “هكذا كان يعيش أنطونيوسُ ولهذا السببِ كان محبوباً… كل أبناء البلدة والذي كانوا يحبون الخير والذين كان يواظبون على زيارته، حين يرَونه هكذا كانوا ينادونَه “صَدِيق الله” ويحبّونَه البعض منهم كإبنٍ لهم والبعض الآخر كأخ”.
بعد سنينَ من الصلوات والمقاومة لكسب قلب نقي، تحوّل كل كيانه الى نعمة. وبعد أن عرف الظلمات التي تسكن قلبه تعلّم أن يتحمّل ويتقبل كل ألم انساني وبشري، ينحني على المصيبة وأمراض البشر، مُقدّما كلمة تعزية وتشجيع وأمل، مُرشِداً، ناصحاً، مُقوّيا ومُصالحاً من كان على خلاف، وحيثما وُجد يضعُ سلاما. هذا المثال من العيش المسيحي رغب فيه العديد وأرادوا التمثّل بطريقة عيشه في الصحراء حيث إلتجأ الكثير من الشبان فحوّلوا الصحراء الى مدينة لقاء بالله. بدء أنطونيوس في نقل ما كان يتعلمه في مسيرته التحضيرية لكنه دون أن يهتم بالتوجيه العقائدي للراهب- التلميذ، بل يعلّمه كيفية الإصغاء إلى صوت الله في صمت الصحراء والتأمل بحضوره.
يُؤتَى علَى ذكرِ أنطونيوسَ مُنذ أجيالٍ بَعِيدة وحَتّى يومنا، ونَحن نَرجُو شفاعة هذه الأيقونة المميّزة بحكمتِهَا الْمُستَقاة من حِكمَة الكلِمَة الإلهي، بنَهجِهَا الْمَبْني علَى الإلتزام والتَسليمِ الكُلِّي وعَيْشِها الْمُجَسِّد لحبِّ لله والآخَر، مُثابرينَ باستمرَارٍ بزيارة الكنائس والأديار التي تحمل إسمه ليس لعقيدَة كتبَها أو تبنّاهَا، بل لمدرسة أسّسَها علَى حُبِّ الله بطريقَةٍ جَوهريَة وثمينَة ما زالت تُخرِّج رهباناً وراهبات في كلِّ أنحاء العالم وقد إنطلقت من مهدِ المسيح، الشرق، وعمّت البشرية جمعاء. إنّها ليست مؤسَّسة إلهيّة فقط ولا إنسانيّة بحْت، بل تجمَع الصِفتَين معا. الله هو الذي يَدعو إلَى الانتماءِ إلَيهَا والمدعو حرٌ في الإجابة الكلّية بالنعم أو بالنفي. يقول أثناسيوس في نهايةِ سِيرةِ أنطونيوس “إشتهر أنطونيوس ليس لكتابَاتِه ولَا لَكَسْبهِ الحكمَة ولا لأي فنٍ آخر، بل وفقط لحبِّه لله”. “فاختيارُ الحياةِ الرهبانيَة، كما يَقولُ الأُسقف تونينو، لَا ِيعني الانحبَاس في السكْرستِيّا فِي تَعدادِ الشُموع، بل الرغبَة في غسْل أرجلَ العالم”.
Robert Cheaib - theologhia.com
أنطونيوس الكبير أيقونة الحكمة الإلهية
مقدمة يسأل أحد التلاميذ راهباً شيخا عن الإفادة الكبرى في تطوير الحياة الروحية! أتكمن في البحث عن مساعدة لدى الرهبان الحكماء أو البقاء على الصلاة في عزلة؟ فيجيبه الراهب: زيارة الشيوخ هي قاعدة الآباء الأقدمين، مرجعاً في الاقتداء المسيحي للسير على الخطى […]