يعلم ديونيسيوس الأريوباجي أن الحب هو قوة اتحادية. هو قدرة تسمح للكائنات أن تترابط وتتحد. يعلم الفيلسوف ديتريخ فون هيلدبراند أننا “في الحب نشرّع ذراعينا لكي نعانق نفس المحبوب”. العناق هو غني بالمعاني الرمزية. فبذراعينا ننفتح لكي نستقبل المحبوب دون أن نخنقه، نشده إلى ذواتنا دون أن نستهلكه. نفتح ذراعينا لكي نتلقى ونعانق لنستقبل ونضحي أحدنا للآخر ضيافة. العناق هو نموذج العلاقة اللاعنفية.
الضيافة هي أحد أسماء الحب السميا والمقدسة. ونرى قدسية الضيافة بشكل رائع في نص الفصل الثامن عشر من سفر التكوين نص ضيافة إبراهيم.
نعرف أن إبراهيم يعيش في حالة ضيق نفس نستطيع أن نلحظها من تفاصيل وردت في فصول سابقة حيث يعبّر إبراهيم للرب مرتين على الأقل عن نفوذ صبره بانتظار وعد الرب. يحاول إبراهيم أن يحل الأمر بخيارات ثانوية، ولكن الرب يؤكد له أن لا خادمه ولا ابن الجارية هو ابن الوعد، بل ابن من سارة.
وفي مطلع الفصل الثامن عشر، بعد نحو 30 عامًا من وعد الرب، نجد إبراهيم جالسًا تعِبًا وبلا عزيمة أمام باب خيمته… لوحده. ويذكرنا النص أن إبراهيم وسارة كانا متقدمين في السن. ولربما كان جالسًا لوحده يتأمل بما آل إليه سماعه لذلك الصوت الباطني الذي وعده بذرية، وها هو عجوز مع زوجته التي لم تعد في حالة تمكّنها من الحمل.
وهنا بالتحديد يأتي إلى زيارة إبراهيم ثلاثة غرباء. وربما ما من أحد مثل غريب يعرف أن يستضيف غريب.
الغريب في هذه الصفحة أن النص يتحدث مرة عن ثلاثة رجال ومرة أخرى عن شخص وحتى نراه يسجد ويتضرع ويسمي ضيفه “الرب”، وبينما يأكل الضيوف الطعام يبقى إبراهيم واقفًا على خدمتهم. لا عجب أن التقليد المسيحي – كما سننظر في قسم لاحق – رأى في هذه الصفحة إحدى تجليات الثالوث الأقدس في العهد القديم.
ويقوم إبراهيم ببادرة سخاء كبيرة إذ يذبح عجلاً. ويشرح كلاوديو مونج مرتكزًا على دراسات حول التقاليد أن ما من أحد يذبح عجلاً لأجل ثلاثة أشخاص فقط. فثلاثة أشخاص لا يكفون لأكل عجل والطعام، ودون إمكانيات الحفظ المتوفرة في أيامنا باقي اللحم يفسد بسرعة. إبراهيم يقوم ببوادر سخاء كبيرة، لا يفكر بالتوفير ولا يوفر أي جهد لتكريم وتبجيل ضيفه.
ضيافة إبراهيم تبين لنا قوة ومفارقة المحبة. فالمحبة ليست واجبًا بل خياراً، ولكن عيشها يمكن أن يتم وكأنها الواجب الأعظم الذي بدل أن يكبّل حريتنا يكللها ويعبّر عنها.
يذكرنا بهذا الصدد القديس أغسطينوس أنه “عندما نحبّ لا نشعر بالتعب، وإذا ما تعبنا، نحبّ التعب نفسه”. واجب الحب هو تعبير عن قدراته.
وهنا يتم وعد الرب لإبراهيم. سآتي من قابل وامرأتك سارة سيكون لها ابنٌ.