حدثني عن المحبة – النص الكامل

المعنى الروحي للإلحاد يقال أن الرابي موشيه ليب قال مرة: “ليس هناك ميزة أو قدرة بشرية إلا وخُلقَت لفائدة ما. فحتى الصفات الدنيئة والشريرة يُمكن أن تُرفّع لخدمة الله. فعلى سبيل المثال، الكبرياء، عندما يُرفع يتحول إلى شجاعة نبيلة في دروب الرب”. […]

Share this Entry

المعنى الروحي للإلحاد
يقال أن الرابي موشيه ليب قال مرة: “ليس هناك ميزة أو قدرة بشرية إلا وخُلقَت لفائدة ما. فحتى الصفات الدنيئة والشريرة يُمكن أن تُرفّع لخدمة الله. فعلى سبيل المثال، الكبرياء، عندما يُرفع يتحول إلى شجاعة نبيلة في دروب الرب”.

لدى سماعهم هذا القول، سأله بعض التلاميذ: “رابي، وما فائدة الإلحاد؟”.

عندها أجاب الرابي: “الإلحاد أيضًا له أهميته في فعل التقوى. فعندما يأتي إليك محتاج يطلب عونك، لا يجب أن تشجعه وترسله لكي يرفع صلاته إلى الرب، بل يجب أن تتصرف وكأن الله ليس موجودًا، وكأنه ليس في العالم إنسان آخر يستطيع أن يساعد ذلك المحتاج، إلا أنت”.

هذه الخبر الذي يورده مارتن بوبر في أخبار الحسيديم يتحدى المفهوم الهيولي للحياة الروحية. فهو يُفهمنا أن حياة الصلاة والقرب من الله ليست هروبًا من العالم ومن التاريخ، بل هو اندراج روحي في التاريخ والحياة. فإذا كان صحيحًا أن الله يستجيب صلاتنا، فصحيح أن جواب الله إنما يمر في معظم الأحيان من خلالنا، بحيث نكون نحن جواب الله الملموس.

ولعل الخبر الذي يورده الأب مايكل بول غالاغر اليسوعي عن خبرة عاشها في كالكوتا هي التعليق الأنسب على هذا الخبر الآتي من التقليد اليهودي.

يُخبر غالاغر أنه عندما كان مُرسلاً في كالكوتا، كان يومًا عائدًا إلى بيت اليسوعيين التقى بطفل كان نائمًا على الرصيف. ولما عاد إلى البيت لم يستطع الأكل لأن فكره كان متمحورًا حول ما رآه. فأخذ وجبته وحملها إلى ذلك الطفل، فوجده حيث التقى به سابقًا، نائمًا. فأيقظه بلطف، واستيقظ الطفل مذعورًا. بعد أن فهم الطفل من الإشارات – الذي لا يجيد الإنكليزية – أن اليسوعي لا يريد أذيته بل تغذيته، تخلى عن الخوف واستسلم لجوعه الكبير.

بعد هذا اللقاء الصامت، عاد اليسوعي إلى البيت وذهب إلى الصلاة، وخلال صلاته شعر بأن حسًا من الغضب يجتاحه. غضب يُسائله، بل بالحري يتوجه إلى الله بالسؤال: لماذا يا رب؟ لماذا لا تفعل شيئًا؟

ويختم اليسوعي بالقول: “شعرت في صمت ضميري شيئًا بدا وكأنه جواب الله: ’لقد فعلت شيئًا، لقد خلقتك!‘”.

الأمانة للأرض

الإيمان المسيحي هو إيمان مبني على الأمانة للسماء والأمانة للأرض معًا. فهو يأخذ هذا الانتماء المزدوج من طبيعتي المسيح الذي هو في آن إله حق وإنسا حق. لا يعيش الإيمان المسيحي وهم ملكوت يأتي غدًا، بل يبدأ بالعمل على تحقيق الملكوت اليوم وهنا. يدعونا المرنم في المزمور أن “نقطن الأرض وأن نعيش بإيمان”؛ أن نعيش على الأرض وقلبنا في السماء؛ أن نحب السماء دون أن نخون الأرض. لا يمكننا أن نتخلى عن هذا الرباط باسم حبنا للكلمة المتجسد. يعلمنا اللاهوتي الأرثوذكسي بول أفدوكيموف أن “التلكؤ في الحضور للعالم يعني نقص في الإيمان الإنجيلي”.

مع التجسد، عانق الله التاريخ، الجسد، الزمان مبينًا لنا أن العلاقة مع الأزلي تمر في الزمن، ومع الروحاني تمر في الجسد. بينما روحانية المسيح الدجال هي روحانية لا تعترف بيسوع المسيح الذي أتى بالجسد (راجع 2 يو 7).

الرجاء المسيحي ليس طوباوية خيالية، بل هو حضور في الزمان. ويشرح اللاهوتي ديتريخ بونهوفر أنه “من خلال مشاركتنا في المسيح نحن نشارك في آن بحقيقة الله وحقيقة العالم. فواقع المسيح يضم في ذاته واقع العالم. وليس هناك إطاران منفصلان، بل إطار المسيح الواحد والمتكامل حيث يلتقي واقع الله مع واقع الإنسان”.

خلال فترة السجن في سجن تيغيل النازي بسبب المؤامرة التي شارك فيها ضد هتلر، كتب بونهوفر عددًا كبيرًا من الرسائل. في إحدى الرسائل إلى خطيبته ماريا فون فيديماير، صرّح بونهوفر أن “المسيحي الذي يعيش برجل واحدة على الأرض، سيعيش برجل واحدة في السماء”.

الإيمان بالمسيح يرغمنا ألا ننسى العالم الحالي بحجة العالم الآتي.  حبنا للقريب هو معيار تقييم تتلمذنا للمسيح. فيسوع لا يفصل حب الله عن حب القريب والقديس يوحنا الصليب يستنتج ما يلي: “من لا يحب القريب، يكره الله”.

هذه مفارقة المسيحية الكبرى: أن نتعلم من السماء الحب الصادق للأرض. فالأب هنري دو لوباك يذكرنا بأن “الحياة الأبدية ليست الحياة المستقبلية. إذ من خلال المحبة ندخل، منذ هذه الحياة، في الأبدية. والمحبة تبقى ثابتة إلى الأبد”.

الإنسان هو معاون الله

في مدرسة ديتريخ بونهوفر، مدرسة نشأت في ظل الطغيان النازي، نتعلم أن الله “سدًا للثغرات”. لا يجب أن نعطي الله هذا الدور الهامشي “كـ ’حشوة بديلة‘ لمعارفنا الناقصة… يجب أن نجد الله في ما نعرفه؛ لا يريد الله أن نتعرف عليه في المسائل غير المحلولة، بل في المسائل المحلولة”. لا يجب أن ننظر إلى الله كوصلة ومدة لأيدينا.

نعمة الله لا تعمل فينا رغمًا عنّا، بل تعمل فينا من خلال تعاوننا. يعلّم القديس بولس أننا “نحن عاملون معا في عمل الله” (1 كور 3، 9). ويعلن القديس توما الأكويني أن النعمة لا تحلّ مكان الطبيعة بل تتطلبها وتكملها. ويوحنا بولس الثاني في الرسالة العامة “الإيمان والعقل” يصرح أيضًا بأن الإيمان يتطلب الطبيعة ويكملها.

المسيحي الحقيقي هو صوفي يعيش “تصوّف العيون المفتوحة”. اتحادنا بالله يتم في “قلب العالم”، بحسب تعبير اللاهوتي هانس أورس فون بالتازار. حضورة الله ليس عائقًا، بل هو ملح ونور حاضر بشكل سري وفاعل في كل الوقائع.

لهذا يدعونا بونهوفر لعيش مسيحية ناضجة: “لا يمكننا أن نكون صادقين أمام الله دون أن نعترف بأنه يجب أن نعيش في العالم كما لو أن الله غير موجود. وهذا الأمر نعترف به ونعيشه في حضرة الله!”.

خلاصة بونهوفر البروتستانتي هي كاثوليكية جدًا. فالنعمة لا تحل مكان عمل الإنسان، بل في عمل الإنسان. حياتنا هي حياتنا حقًا. لسنا دمى في يد الله. لقد سمح الله أن يكون الإنسان كيانًا حرًا قائمًا في حضرته. قصة الخلق بالكلمة يوضح لنا هذا الأمر ويبين أن الخليقة ليست امتدادًا لكيان الخالق، بل هي كيان قائم بحد ذاته بإرادة الخالق.

كيف يتدخل الله في الخليقة إذَا؟ يتدخل لا رغمًا عنا، بل من خلالنا، من خلال “نَعَم” ـنا، من خلال انفتاحنا على نعمته.

هناك تدخلات عجائبية لله في التاريخ ولكن السبيل العادي للنعمة هو الطبيعة. يقوم الله بالعجائب، ولكن العجيبة الأعظم على هذه الأرض هي الإنسان. يقول أحد المعلمين أنه إذا أردت أن ترى أعاجيب الله، كنت أنت بالذات أعجوبة. فالله حاضر في التاريخ من خلال حضور الإنسان الذي هو بمعنى ما خليفة الله على الأرض.

الحب المستحيل

خلق الرب الخليقة مستقلة عنه، وبعكس النظرات الحلولية، يصرح الإيمان المسيحي أن هناك فصل جوهري وكياني بين الله والخلائق. أين يظهر تدخل الله الأكبر في التاريخ وفي الخليقة؟ في مداخلات الإنسان ومبادراته.

وأين يظهر الله بشكل واضح في الخليقة وفي الإنسان بشكل خاص؟ عندما نعيش المحبة. فجوهر الله الأعمق والأحقّ هو الحب. “الله محبة” (راجع 1 يو 4، 8 . 16).

المحبة بالنسبة ليسوع لا تشكل فقط كنه العهد القديم، بل هي جوهر العهد الجديد أيضًا، هي “الوصية الجديدة. وإذا ما فكّرنا مليًا، فوصية المحبة إنما هي ملء دعوة الإنسان إلى ما يسميه الآباء اليونان “التأليه” (theōsis).

عندما نحبّ، نفسح المجال للرب في ذواتنا، نسمح له لكي يفيض فينا روحه القدوس (راجع روم 5، 5) الذي هو محبة الآب والابن المتبادلة.

من هنا من الضروري ألا يكون الحب مجرد كلمة فارغة نملأها بما هب ودبّ من خواطرنا وأفكارنا. المحبة الحقة يجب أن تعكس جوهر الله.

يعلمنا الأب فرنسوا فاريون أن في الثالوث القدوس يلتقي الحب والعدالة ويسيران معًا. العدالة لأن كل أقنوم إلهي يريد أن يكون الآخرون. والحب لأن كل أقنوم إلهي يفرغ ذاته لكي يفسح المجال للأقنومين الآخرين.

العدالة هي اسم آخر للاحترام، للانتباه، للنظرة التي تحمي الآخر وتصونه. المحبة هي ضيافة، أي إفساح مجال لكيان الآخر بجانبي وفي كياني.

هذا الحب الإلهي ينعكس في حب المسيحي الملموس، لهذا هناك ترابط وثيق بين الحب العامودي الذي يربطنا بالله والحب الأفقي الذي يربطنا بالقريب.

وبينما كان يمكن أن يظهر حب القريب في العهد القديم ثانويًا، فقد قام يسوع بجعل وصية محبة القريب مثل الذات مطابقة بالأهمية للوصية الأولى، وصية محبة الله. لا بل إن وصية المحبة للقريب باتت وصية يسوع الجديدة: “أعطيكم وصية جديدة: أن يحب بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يو 15، 12).

نصاب بالدوار بسبب متطلبات يسوع هذه! فالرب يطلب منا ألا نحدّ محبتنا لقدرتنا البشرية، بل أن نوسع آفاقها وإشعاعها لكي نقتدي بالله: “كما أنا أحببتكم”.

يتذمر البعض ويقولون: الحياة المسيحية صعبة… أما أنا فأقول: المسيحية ليست صعبة، المسيحية مستحيلة. تعليم يسوع مستحيل. لا يمكننا أن نعيشه بلا نعمة الرب الذي يجعل المستحيل ممكنًا. الحياة المسيحية ليست جهادًا بشريًا بحتًا. الحياة المسيحية هي أن نسمح لله ولنعمته أن تعيشا فينا، أن يضحي الرب حياة حياتنا.

ستّ كلمات لعيش الحب

نعرف أن كلمة “الحب” هي كلمة يساء استعمالها ونسمي “حبًا” ما هو مرات استملاك أو أنانية أو هوس… لذا، عندما نتحدث عن الحب لا بد أن نفكر مليًا بما نعني. يتحدث الأب فرنسوا فاريون عن 6 كلمات تساعدنا على عيش الحب بشكل واقعي وسليم. الكلمات هي: التقديم،  العطاء، الغفران، الطلب، القبول والرفض. سأنطلق من كلمات فاريون لأوسعها على طريقتي.

التقديم. تتضمن الكلمة في ذاتها معناها. فالحب يتقدم ويسبق الطلب بحدسه ويدرك الحاجة قبل أن تمر عبر طلب وسؤال.

يقولون أن الحب أعمى، أما أنا فأقول أن الحب يرى بعيدًا ويرى بالعمق. الغرام أعمى، أما من يتوصل إلى ديار الحب المقدسة، فيرى ما لا يراه الآخرون. فلنفكر بأم تعرف من أنات رضيعها ما  إذا كان بردانًا أو عطشانًا أو جائعًا أو متألمًا لوجع ما.

فلنفكر بمريم العذراء التي رأت حاجة “عرس قانا” وقدمت ما تستطيع تقديمه من الخدمة والنصح قبل أن يتلفظ الداعون بحاجتهم.

العطاء. العطاء يعبّر عن سخاء الحب، عن تلك القدرة التي تمكننا من أن نتخلى عن شيء لنهبه للآخرين. العطاء الحق ليس هبة الفائض، العطاء الحق هو أن نهب الأساسي والضروري. ولعل أثمن ما يمكننا أن نهبه للآخرين هو حضورنا ووقتنا. فالوقت هو فلذة من قلب الأبدية، عندما نعطيه لا يعود أبدًا ولا يُستبدل… هو هبة تلمس شيئًا من الإلهي.

الغفران. الغفران هو ملء العطاء وإلى حد ما ملء الحب بين البشر. فالغفران هو ذلك العطاء الذي نعطيه للآخر عندما يكون بأمس الحاجة إلى عطائنا. الغفران هو ما لا يستطيع المرء أن يحوزه من تلقاء نفسه. ولعل تعليم يسوع بشأن العطاء لمن لا يستطيع أن يبادلنا بالمقابل يلقى هنا تطبيقه الأصفى.

هذا وفي علاقاتنا، الغفران يسبق أخطاء الآخر، فعمليًا يجب أن “نغفر” للآخر آخريته، هذه الآخرية التي لم نأخذها بعين الاعتبار لأننا ظننا أن الآخر مختلف (أو مطابق لفكرتنا عنه).

أن نغفر يعني أيضًا أن نغفر لذواتنا.

الطلب. هناك وجه من وجوه المحبة يصعب عيشه وتطبيقه لأنه يتطلب التواضع. تواضع الإقرار بحاجتنا، الإقرار بأننا لسنا كاملين أو مكتفين بذواتنا وتواضع الطلب. وفي هذا الصدد يذكرنا الأب فاريون بأن “من لا يعرف أن يطلب، لا يعرف أن يصلي”.

حتى الله يحب بهذا الشكل، إذ يطلب من الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله أن يكون حارس الخليقة، أن يكون حارس نفسه وحارس أخيه الإنسان. والرب القادر أن يوحي بإنجيله لكل إنسان سلمه لنا وطلب منا أن نذهب ونبشر بالإنجيل حتى أقاصي الأرض. من يطلب يثق ومن يثق يحب.

القبول. هذه الكلمة لها بعدين متكاملين. الأول هو أن نتعلم أن نقبل ببساطة. هناك أشخاص يريدون أن يحبوا باتجاه واحد: منهم إلى الآخرين. هناك أيضًا نرى الترابط بين الحب والتواضع. من يُحب يقبل، يقبل أنه بحاجة للآخرين، يقبل أن يضفي الآخرين لمستهم على وجودهم. والبعد الثاني هو قبول عطية الآخر كما يعطيها الآخر ولا كما كنا قد لنقدمها نحن.

الرفض. الكلمة الأخيرة قد تبدو غريبة وبعيدة عن ميدان الحب. كيف للحب أن يرفض؟ أوليس الحب ما يقبل ويستقبل دائمًا، ما لا يرجع إلى الوراء؟ كلا وألف كلا. الحب لا يجعل منا “سوبرمان” أو “سوبرومان”. الحب ذكي ويعرف أننا محدودون وأننا لا نستطيع أن نقبل دائمًا ونعطي دائمًا. ولعل كلمات القديس برنردوس لصديقه البابا هي خير تعليم في هذا الشأن: ’أبقِ لنفسك شيئًا من نفسك‘. يحث القديس صديقه وتلميذه بالقول أنه من الخطأ أن نحب الجميع وننتبه للجميع وأن نتناسى أن بين “الجميع” هناك نفسنا التي يجب أن نحبها بشكل سليم، محبة في المسيح نكرس فيها لذواتنا الوقت المناسب لنقوت الجسد والنفس والروح…

والرفض له أيضًا أهميته من أجل الآخر. ففي الحياة، خصوصًا كأطفال، نتعلم أن ما يربينا ليس فقط “نعم” أهلنا بل أيضًا الـ “لا”، الذي يعلمنا نمير بين ما هو ضروري وما هو فائض أو مضرّ.

الصداقة مع الذات

لا يمكننا أن “نتحدث عن الحب” دون أن نلقي نظرة معمقة على وصية الحب المزدوجة التي يستخلصها يسوع من العهد القديم. نعرف أن عدد الوصايا وتعليمات العهد القديم كان 613 ولذا خيار يسوع أمام سؤال الكاتب يبين لنا مقدار أهمية الوصية الكبرى: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك، كل فكرك وكل قواك” والوصية الثانية المساوية لها بحسب يسوع: “أحب قريبك كنفسك” (راجع مت 22،39؛ مر 12، 31؛ لا 19، 18).

بعض التفاسير حول معنى هذه الوصية هي ذات سطحية بالغة! فقد سمعت أذناي تفاسير مغزاها أن الرب يدعونا أن نحب نفسنا أولاً وأنه بعد أن نحب نفسنا بما فيه الكفاية نستطيع أن نبدأ بالتفكير بمحبة الآخرين. إن هذا الـ “أولاً” و الـ “بعد” هو اصطناعي وتطبيقه العملي يحمل إلى غرق متزايد في الذات دون أن يحمل إلى انفتاح على محبة الآخرين. إنه لوهم أن نظن أن الإنسان يصل إلى مرحلة يقول “كفى، لقد نلت ما أنا بحاجة إليه من الحب، والآن يمكنني أن أبدأ بحب الآخرين”. في قلب الإنسان “غمرٌ” ينادي “غمر الله، كما يذكرنا المزمور وبقدر ما نستطيع أن نملأ قلبنا بأنواع الحب (الصالحة أو الطالحة) فقلبنا لن يكتفي، لأن الله خلقه له وفيه وحده يستريح ويمتلئ.

ما هو إذا معنى هذه الآية والوصية؟

فلنبدأ من تعليم أرسطو في أخلاقياته إلى نيقوماخوس الذي يقول: “إن عواطف الصداقة نحو قريبنا، والتي تشكل معيار كل صداقاتنا، تنبع من عواطف الإنسان نحو ذاته”. فالحب نحو الذات هو بشكل طبيعي مقياس ومعيار الحب نحو الآخرين. لعل أكثر من فهم تعليم أرسطو هو آباء الصحراء (والكنيسة) الذين توقفوا في مراحل عدة حول محبة الإنسان لذاته مستعملين عبارة يونانية “فيلاوتيا” ومعناها الحرفي “الصداقة مع الذات”. ويوضح الآباء – ولعل أكثر من تحدث عن هذا الموضوع في بينهم هو القديس مكسيموس المعترف – أن هناك نوعين من الـ “فيلاوتيا”. الأولى هي رذيلة الأنانية، بينما الثانية هي المحبة الصالحة للذات.

أين نلحظ الفرق بين الاثنين؟ يوضح الأب إيرينيه هاوسهر أن الفرق يمكن في أن الإنسان الفاضل يحب نفسه بشكل أصيل بالتحديد لتجرده عن ذاته؛ أما الآخر فيبدو أنه يحب نفسه أكثر، ولكنه بالحقيقة محبته مريضة ومؤذية. فالرذيلة تدفع الإنسان لأن يحب نفسه كما هو دون أن يبغي أن يتحسن، بينما الإنسان الفاضل يحب نفسه حقًا لأنه يحب أن ينمي لكي يصل إلى العظمة التي خُلق لأجلها.

يحب الإنسان نفسه حقًا عندما يحب خيره الأعظم، بينما يحب الإنسان نفسه بشكل مريض عندما ينطوي على ذاته وعلى صغر نفسه.

يحب الإنسان نفسه حقًا عندما يحب الله لأن ملء الإنسانية هو الاتحاد بالألوهة، الاتحاد بالله. قلب الإنسان هو مثل العين: العين السليمة لا ترى شيئًا من ذاتها، وعندما تبدأ العين برؤية شيء من ذاتها يعني أنها مريضة. كذلك نحن: نعيش الحب بشكل سليم إذا ما تمكنّا من الانفتاح على الآخرين باتزان وحكمة وروية.

أختتم هذا القسم من السلسلة بتنبيه للقديس أغسطينوس القائل بأن الرب يدعونا لكي نحب ذواتنا ولكنه يحذرنا أيضًا ألا نخسر ذاتنا. لذا لا يجب أن نحب ذواتنا بأنانية لكي لا نخسر ذواتنا.

ضيافة المحبة

يعلم ديونيسيوس الأريوباجي أن الحب هو قوة اتحادية. هو قدرة تسمح للكائنات أن تترابط وتتحد. يعلم الفيلسوف ديتريخ فون هيلدبراند أننا “في الحب نشرّع ذراعينا لكي نعانق نفس المحبوب”. العناق هو غني بالمعاني الرمزية. فبذراعينا ننفتح لكي نستقبل المحبوب دون أن نخنقه، نشده إلى ذواتنا دون أن نستهلكه. نفتح ذراعينا لكي نتلقى ونعانق لنستقبل ونضحي أحدنا للآخر ضيافة. العناق هو نموذج العلاقة اللاعنفية.

الضيافة هي أحد أسماء الحب السميا والمقدسة. ونرى قدسية الضيافة بشكل رائع في نص الفصل الثامن عشر من سفر التكوين نص ضيافة إبراهيم.

نعرف أن إبراهيم يعيش في حالة ضيق نفس نستطيع أن نلحظها من تفاصيل وردت في فصول سابقة حيث يعبّر إبراهيم للرب مرتين على الأقل عن نفوذ صبره بانتظار وعد الرب. يحاول إبراهيم أن يحل الأمر بخيارات ثانوية، ولكن الرب يؤكد له أن لا خادمه ولا ابن الجارية هو ابن الوعد، بل ابن من سارة.

وفي مطلع الفصل الثامن عشر، بعد نحو 30 عامًا من وعد الرب، نجد إبراهيم جالسًا تعِبًا وبلا عزيمة أمام باب خيمته… لوحده. ويذكرنا النص أن إبراهيم وسارة كانا متقدمين في السن. ولربما كان جالسًا لوحده يتأمل بما آل إليه سماعه لذلك الصوت الباطني الذي وعده بذرية، وها هو عجوز مع زوجته التي لم تعد في حالة تمكّنها من الحمل.

وهنا بالتحديد يأتي إلى زيارة إبراهيم ثلاثة غرباء. وربما ما من أحد مثل غريب يعرف أن يستضيف غريب.

الغريب في هذه الصفحة أن النص يتحدث مرة عن ثلاثة رجال ومرة أخرى عن شخص وحتى نراه يسجد ويتضرع ويسمي ضيفه “الرب”، وبينما يأكل الضيوف الطعام يبقى إبراهيم واقفًا على خدمتهم. لا عجب أن التقليد المسيحي – كما سننظر في قسم لاحق – رأى في هذه الصفحة إحدى تجليات الثالوث الأقدس في العهد القديم.

ويقوم إبراهيم ببادرة سخاء كبيرة إذ يذبح عجلاً. ويشرح كلاوديو مونج مرتكزًا على دراسات حول التقاليد أن ما من أحد يذبح عجلاً لأجل ثلاثة أشخاص فقط. فثلاثة أشخاص لا يكفون لأكل عجل والطعام، ودون إمكانيات الحفظ المتوفرة في أيامنا باقي اللحم يفسد بسرعة. إبراهيم يقوم ببوادر سخاء كبيرة، لا يفكر بالتوفير ولا يوفر أي جهد لتكريم وتبجيل ضيفه.

ضيافة إبراهيم تبين لنا قوة ومفارقة المحبة. فالمحبة ليست واجبًا بل خياراً، ولكن عيشها يمكن أن يتم وكأنها الواجب الأعظم الذي بدل أن يكبّل حريتنا يكللها ويعبّر عنها.

يذكرنا بهذا الصدد القديس أغسطينوس أنه “عندما نحبّ لا نشعر بالتعب، وإذا ما تعبنا، نحبّ التعب نفسه”. واجب الحب هو تعبير عن قدراته.

وهنا يتم وعد الرب لإبراهيم. سآتي من قابل وامرأتك سارة سيكون لها ابنٌ.

الثالوث الضيف

سبق وقلنا في القسم السابق أن التقليد المسيحي رأى في هذا النص ترائيًا للثالوث لإبراهيم. بالطبع، لا نجد إشارة واضحة إلى الثالوث الأقدس (ولا نجد كلمة “الثالوث” لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد!)، ولكننا نجد نصًا فيه الكاتب والبطل يربطان معًا بين زيارة ثلاثة وواحد، وبين ضيوف بشريين وضيف إلهي.

فالآية الأولى تبدأ بتصريح الراوي الواضح: “وتراءى الرب له عند بلوط ممرا، وهو جالس بباب الخيمة، عند احتداد النهار”. ثم يضيف فورًا: “فرفع عينيه ونظر، فإذا ثلاثة رجال واقفون بالقرب منه”.

وتبين الآية أن إبراهيم يذهب صوب الرجال، لا كرجال فقط بل وكأنه يوقن أن هناك حضور إلهي. فإبراهيم يسجد لهم: “فلما رآهم، بادر إلى لقائهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض”.

ويضيف بالمفرد: “سيدي، إن نلت حظوة في عينيك، فلا تجز عن عبدك“.

ويستمر النص بالتناوب بين المفرد والجمع وبين الحديث إلى بشر والحديث إلى الرب.

ويقدم إبراهيم لضيفه الغامض الكثير من خيراته. فالآية السابعة تقول: “بادر إبراهيم إلى البقر، فأخذ عجلا رخصا طيبا وسلمه إلى الخادم فأسرع في إعداده”. وثم أخذ لبنا وحليبا والعجل الذي أعده وجعل ذلك بين أيديهم وهو واقف بالقرب منهم تحت الشجرة، فأكلوا”.

عادة يجلس رب البيت مع ضيوفه، أما إبراهيم فيقف بمهابة أمام الزائر الإلهي.

ولا ننسى أن الزائر نفسه (الزوار) يتصرف بشكل يفوق النطاق البشري، فيتحدث عن المستقبل ويقوم بوعود هي أشبه بوعود الرب لإبراهيم: “سأعود إليك في مثل هذا الوقت، ويكون لسارة امرأتك ابن )). وكانت سارة تتسمع عند باب الخيمة الذي وراءه”.

ويرى الزائر ما لا يُرى، فيعرف أن سارة ضحكت وهي في الخيمة: “فضحكت سارة في نفسها قائلة: (( ابعد هرمي أعرف اللذة، وسيدي قد شاخ؟ )). فقال الرب لإبراهيم: (( ما بال سارة قد ضحكت قائلة: أحقا ألد وقد شخت؟ هل من أمر يعجز الرب؟ في مثل هذا الوقت أعود إليك ويكون لسارة آبن ))”.

هذا وإن الحوار حول سدوم يتم بشكل واضح بين إبراهيم والرب.

وينتهي اللقاء بتأكيد الراوي الضمني أنه كان لقاء بين إبراهيم والرب: “ومضى الرب عندما آنتهى من الكلام مع إبراهيم، ورجع إبراهيم إلى مكانه”.

استضافة الله

يعتبر الراهب واللاهوتي لويس بويه نص سفر التكوين 18 كأجمل نص كتابي حول موضوع رؤية الله بعد الخطيئة الأولى ويقول أن بساطة هذا النص وعظمته تجعلان أي تعليق صعب، لأنه نص يصل مباشرة إلى القلب والعقل.

يندرج النص في إطار يوميات صعبة يعيشها شيخان بالغان في السن باتت الرتابة اليومية ثقيلة عليهما. في هذه الرتابة الاعتيادية يحدث أمر له أصداء أبدية.

يشرح المتصوف الإيطالي ديفو بارزوتي أن في حادثة تجلي بلوطة ممرا “عاد الله ليسكن أرض الإنسان، وعادت الأرض لتكون فردوس الله”. ويضيف أن النص لا يتحدث فقط عن حميمية إبراهيم مع الله، بل يشكل إلى حد ما نبوءة عما سيكون سر التجسد الإلهي المستقبلي.

في حبه الصادق للغريب، يعيش إبراهيم فكر الرب في الإنجيل… كنت غريبًا فأويتموني، كنت جائعًا فأطعمتموني، كنت عطشانًا فرويتموني… في استقباله للغرباء، استقبل الرب.

يظهر الرب في هذا النص كغريب لا نميّز فيه للوهلة الأولى علامات ألوهة، تماما مثل يسوع، الإنسان الحق، الذي نرى فيه بعيون الإيمان فقط الإله الحق “أنت المسيح ابن الله!”.

وفي ضيافة إبراهيم نرى استباقًا للمائدة التي يقدم من خلالها الرب نفسه طعامًا لضيوفه البشر، بدءًا بالرسل ووصولًا إلينا.

تظهر أيقونة روبليف الشهيرة العديد من المعالم التي أشرنا إليها: فأقنوم الثالوث الأقدس الثاني، الكلمة، يبارك حملاً هو بالواقع الحمل المذبوح منذ بداية العالم. رب المائدة ليس إبراهيم، بل الثالوث الأقدس. هم ضيوف في النص الكتابي ولكننا ضيوف الثالوث في مائدة الوجود ومائدة الخلاص ومائدة الحياة الأبدية.

يعلق القديس أمبروسيوس على هذا النص الكتابي الثمين فيقول: “لكم هي ثمينة الضيافة. أجرها يكمن فيها! فهي تجذب شكر البشر ولكن، الأهم من ذلك، أنها تجذب بركة الرب. كلنا، في أرض المنفى هذه، ضيوف عابرون. لوهلة نقطن تحت سقف ولكن فلننتبه لأننا سنتركه لاحقًا. إذا كنا قاسون ومهملون تجاه الغرباء، سيكون القديسون على حق إذا رفضوا استقبالنا. فلنكسب أصدقاء بالمال الحرام – بحسب ما يقول الرب في المثل الإنجيلي – لكي يقبلوننا في المناول الأبدية”.

الضيافة، إذا، ليست مجرد واقع بشري وعمل فضيلة، هي عمل إلهي. فكيف يعمل الله على الأرض بشكل إعتيادي إلا من خلال الإنسان؟ عندما نكون مضيافين، نضحي أدوات إلهية في يدي الرب الكريم.

لهذا يشرح التلموذ البابلي أن “الضيافة هي أهم من استقبال الشكينة (الحضور الإلهي)”. لا لأن الضيف أهم من الرب، بل لأن الرب حاضر في القريب… وبهذا يذكرنا يسوع في نص الدينونة في الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متى. ويحرضنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين بالقول: “لا تنسوا الضيافة فبفضل ممارستها استقبل البعض الملائكة دون أن يدروا” (عب 13، 2).

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير