حوّل مجيء يسوع المسيح إلى العالم، مجرى التاريخ، وردّ للإنسانية رونقها الأصلي بعدما شوّهتها الخطيئة. فلا نستطيع القول، أن تجسّد المسيح وميلاده وموته وقيامته كانت مجازفة شخصية قام بها، ولا قيمة لها خارج نطاق زمانها ومكانها، ولا تأثير لها على الإنسان عبر الأجيال. بل كانت حياته كلّها على الأرض، تصميماً إلهياً، تعطي طابعاً مميزاً لحياة كل إنسان، وذلك بكامل حريّته واختياره للمخلّص ولمبادئه.
وردّ يسوع على سؤال نيقوديمس بمثال حيّة موسى النحاسية، وذكّره بحادثة صحراء سيناء وشمسها اللاذعة، عندما كان الشعب اليهودي عائداً إلى ارض الميعاد، واعترضته صعوبات جمّة ومتاعب كثيرة، كانت تُضعضع إيمانه بالله وإتكاله عليه. وبين هذه المحن، محنة الحيات السامة التي فتكت بعدد كبير من اليهود. وكيف أمر الله موسى ليصنع حية من نحاس ويثبّتها ويرفعها على خشبة لكي يشاهدها الجميع. ومن ينظر إليها كان يشفى من لدغتها ولا يعود السم يؤثر عليه.
صورة الحية النحاسية هي رمز لخشبة الصليب وعليها المصلوب يسوع الفادي. من ينظر إليه ويؤمن به يحيا إلى الأبد. ومن يرفض اللجوء إليه يخسر نفسه ويهلك في وحدته ويموت في يأسه.
والإنسان الذي يتكل على نفسه، معرّض لخطر الخيبة والموت، مهما ارتفع جاهه وعظمت أعماله وازدادت معرفته. ومهما تقدّم الطبّ، فباستطاعته تلطيف الألم، ولكنه لن يبطل الموت. فلولا تدخل الله في حيثيات يومياتنا لضاع معنى حياتنا، وكنّا عرضةً لليأس القاتل الذي يرمي بنا ربما في بحبوحة الرجل الغني الذي اثمرت أرضه فانشرح صدره فقال لنفسه : “كُلي وتنعّمي يا نفسي لسنين طويلة” . فقال له الرب: “اليوم ستُطلب منك روحكٓ” ، “فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسِر نفسه؟”.
ولكي يعيد الله الآب اعتبار الإنسان، أرسل ابنه الوحيد إلى العالم: ” ما جئت لأحكم على العالم، بل لأخلّص العالم ( يوحنا ١٢ : ٤٧ ) فحياة يسوع وموته وقيامته المجيدة تعطي معنى لحياة الإنسان وموته وقيامته في منتهى الدهور. فهو الوسيط الرحوم، وعليه لم يتكّل الآب ليبعد عنه العذاب والشدّة والموت، بل لكي لا يسمح للموت أن يجرّ الإنسان إلى الإضمحلال والتلاشي، بل ليصبح عبوراً لحياة جديدة ولوجود من نوع آخر.
هذه الحياة ، ليست مكافأة ، ولا موعود بها لمستقبل بعيد، بل هي حاضرة: “لقد اقترب منكم ملكوت الله” (لوقا ١٠ – ١١ )، وقد بدأنا نعيشه بالعمودية التي بها ولدنا ولادةً روحية، متحررين من عبودية الخطيئة: “انّ الله الذي اقام الرب، سيقيمنا نحن ايضاً بقدرته” ( قورنتس الاولى ٦ : ١٤ ) .
هذا ليس وعداً مبهماً، ربما يحصل في الأزمنة الأخيرة، بل هو وعد، وعد به المؤمن في حياته الأرضية، وقد تخلص بقوة القائم من بين الأموات، وسيشاركه في ملكوته السماوي. إن الخلاص الذي وهبنا إياه ليس فقط غفراناً وتكفيراً لخطايانا الماضية، بل ايضاً هو كمال الخليقة، بهاؤه وجهه الحقيقي الذي كوّنته يد الخالق المحب، ويسوع هو القوّة التي غيّرت صورة العالم والإنسانية، يسوع هو الذي أتى إلى العالم ومنحه قوةً وعنفواناً جديدين ، وبثّ فيه روحاً جديدة فأحياه.
تأملنا اليوم، عن الولادة الجديدة، في انجيل القديس يوحنا ( الفصل ٣ : ١ – ٢١ )، يحثنا لقبول وساطة يسوع وللإيمان بها في تاريخ البشرية، بها يتعلق مصير الإنسان الأبدي في النعيم او الجحيم. وهذه هي النعمة التي خصّنا بها المخلّص الفادي، محبة بنا بدون أي فضل لنا، غيّٰر قبولنا به.
ورغم مجانيّة هذه النعمة، يجرِّب الإنسان أن لا يصدّق الوعد، وان لا يؤمن بالنعمة، وأن يرفضها. فالمحبة غير مرغوب بها، وغير مقبولة في عصرنا الحاضر المادي الأناني. ويحاول الإنسان إيجاد معنى لحياته في يومياته ودنياه ويرفض النور، مفضلاً الضلال في الظلام: “استحبّ الناس الظلام على النور، لأن اعمالهم سيئة” ( يوحنا ٣ : ١٩ ). يخافون من النور لأن أعمالهم ستنكشف للملأ وسيرغمون على تصحيح حياتهم وأعمالهم وتصرفاتهم.
ونحن ايضاً في حياتنا، نفضّل الظلام على النور. نفكّر ونعمل هكذا وكأن يسوع المسيح لا وجود له. ولكن حقبات الحياة، المليئة بالمفاجأت الأليمة وبالخيبات المرّة بفعل تألق الدنيويات المزيّف، وتعلمنا أنه كما الصفر لا قيمة له لولا الرقم واحد بقربه، هكذا لا يستطيع الإنسان لوحده أن يعمل شيئاً، لولا المحرّك الإلهي فيه ومعه.
لنفتح قلوبنا بإيمان وطيد، للتقدمة والمقدّم، القربان والكاهن، ولننظر إلى المصلوب، كاليهود في صحراء سيناء، لنخلص به ومعه، هو الذي ينوّر طرقنا، ويجدّد حياتنا، ويحي أعمالنا بروح الإنجيل. وهكذا تظهر مشاريعنا كمشاريع الملكوت ونكون نحن مشاركين في بنائه وفي الخلق الجديد.
والإيمان بمحبة يسوع لنا، والإقتناع بأننا محبوبون منه تعالى بنوع خاص، والمحبة العامودية التي ترفعنا إليه تعالى لنحبه كألف وياء وجودنا، والمحبة الأفقية، التي تشمل اخوتنا البشر في قلوبنا، لا بُدّ أن يكون صداهما، ملكوت الله العادل والمحبّ، حيث تكمن مصداقيتنا كمسيحيين حقيقيين، وسعادتنا الكاملة في السماء، مروراً في حياتنا الأرضية، وادي الدموع والشقاء، كأبناء الآب الخالق، واخوة للإبن الفادي، وهياكل حيّة للروح القدس.