عقدت قبل ظهر اليوم ندوة صحفية في المركز الكاثوليكي للإعلام، بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، حول “التفكّك الإجتماعي والمجتمعي وتأثيره على العائلة”، شارك فيها مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبده أبو كسم، منسق مكتب راعوية الزواج والعائلة في الدائرة البطريركية المارونية الأباتي سمعان أبو عبدو ر.م.م،عميد كليّة العلوم الدينيّة في جامعة الحكمة الأب طانيوس خليل، المسؤولة عن مؤسّسة يوحنا بولس الثاني د. جوسلين خويري، وحضرها الإعلامية والشاعرة مي منصور، وسيدات أخوية الحبل بلا دنس مار منصور النقاس والضبية، وعدد كبير من الإعلاميين والمهتمين.
أبو كسم
رحب الخوري عبده أبو كسم بالحضور باسم رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام المطران بولس مطر وقال:
“نجتمع اليوم في لقاءٍ حول العائلة لنعالج التحديات التي تواجهها في مجتمع أصبح مفتوحاً على كل العالم عبر وسائل التواصل الإجتماعي. هناك عدة تحديات تواجه العائلة، سوف نطرحها في هذه الندوة، لكن التحدّي الأهم هو وعي الأهل لمسؤولياتهم تجاه أولادهم، وتنشئتهم تنشئة روحيّة وإنسانيّة إلى جانب التنشئة الوطنية والثقافيّة.”
تابع “إن العائلة هي مشروع الأهل مدى الحياة، وهذا المشروع هو بالشراكة مع الله، فهو المعطي والواهب وهو الخالق والمبدع، في معظم الأحيان نتكّل على ذواتنا، وننسى الإتكال على الله. من هنا نذكّر اليوم الجميع بوجوب الإتكال على العناية الإلهية فهي التي تدبر شؤون عائلاتنا على مثال عائلة الناصرة.”
أضاف “إما دور الكنيسة، فيكمن في مواكبة العائلات، ودعمها في مسيرتها الإجتماعية والتربويّة، فجماعة المؤمنين هي العائلة الكبرى التي يرعاها راعي الرعاة، سيدنا يسوع المسيح، وعليه يجب أن نولي العائلات إهتماماً خاصاً، وبخاصة تلك التي ترزح تحت خط الفقر والعوز وتلك التي تعاني من مشاكل المخدرات والدعارة وعمالة الأطفال.”
وختم “لا يجوز أن نبقى مكتوفي الأيدي تجاه هذه المشاكل، فعلينا أن نرى في وجوه كل هؤلاء الأخوة، وجه يسوع المتألم والمجروح على الصليب، هذه صرخةٌ نطلقها اليوم صرخة تضامن علّها تجد آذاناً صاغية لدى أصحاب النوايا الطيبة.”
خليل
ثم كانت كلمة الأب طانيوس خليل حول الآفات وتأثيرها في العائلة:
“كلنا يعلم ان العائلة هي ملح المجتمع، فإذا فسُد الملح فبماذا يُملّح؟ وغني عن القول ان الاهتمام بالعائلة هو في صلب المسيحية. وأن السيد المسيح من خلال حياته ومواقفه وتعاليمه التي ركّزت على المحبّة والرحمة والإهتمام بالمهمشين والخطأة. وما نقوله كان ولا يزال من أبرز هموم الكنيسة منذ قيامها وحتى اليوم. وأصدق دليل على هذا الاهتمام المتعاظم السينودس من أجل العائلة مؤخراً وكل ما يشكل خطراً على مجتمعنا وأبناءه.”
تابع “لقد استوقفني مؤخراً دراسة مصرفية مفادها ان 70٪ من العائلات اللبنانية اليوم، هي عائلات تستلف على معاشاتها حتى آخر الشهر بواسطة بطاقات الإئتمان المصرفي. وهذا يعني بباسطة كلية ان مجمل العائلات اللبنانية تعيش واقعاً اقتصادياً صعباً إلى حدّ ما. ومما لا شك فيه ان هذا الأمر يعود إلى غياب دولة الرعاية على صعيد المساعدة على تلبية الحاجات الإنسانية المتعددة من ناحية التعليم في كافة مراحله، الطبابة والاستشفاء، ضمان الشيخوخة، السكن وغيرها.”
أضاف “إن هذا الواقع الاقتصادي يجعل العائلة اللبنانية تعيش في مناخ نفسي قلق، وعدم استقرار في كثير من الأحيان قد يؤدي إلى حالات من التسرب المدرسي، أو اللجوء إلى وسائل غير مشروعة لسد الحاجات الملحة، أو إلى عمالة الأطفال. وقد يسبب حالات تفسخ عائلي من طلاق وهجر وتراجع في المستوى الدارسي وعدم الإقبال على الزواج، واللجوء إلى الهجرة كحلّ لهذا الواقع المرير.”
أردف “أحياناً كثيرة عدم تمكن الأجهزة الأمنية من القيام بواجباتها، وذلك لأسباب متعددة ترتبط بتفشي ظاهرة الفساد في الإدارات العامة في لبنان، لتعرض الشباب والشابات في العائلات اللبنانية، للإصابة بآفة المخدرات.”
تابع “إن هذا الأمر ينعكس سلباً على العائلة اللبنانية، ان على الصعيد الأخلاقي أو المادي ويسبب حالات ضياع وألم نفسي عميق لكثير من العائلات اللبنانية وتفشي آفة جديدة الدعارة ومحاولة تبريرها.”
أضاف “ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعها وسرعتها ودخولها إلى كل بيت، وتفلّتها من كل رقابة جدية. نتيجة لهذا الواقع تسلّلت إلى العديد من العائلات اللبنانية آفات الإباحية والعنف والحرية الجنسية. هذه الآفات ضربت القيم الأساسية التي قامت عليها عائلاتنا لزمن طويل، وذلك في عدد لا يستهان به من عائلاتنا اليوم.”
تابع “إنّ حضارة العولمة وثقافتها وما حملته من تقوية النزعة الفردية والأنانية عند الإنسان، أضعفت إلى حدّ كبير روح التعاضد العائلي في الكثير من عائلاتنا، وقوّت النزعة الإستقلالية عند الأولاد باكراً. هذا ما بدأ يظهر إهمالاً للمسنين في بعض العائلات وعدم رعاية إنسانية لهم، عكس ما كان يحصل في الماضي القريب.”
وقال “علينا كأهل أن نقوم بدورنا من خلال تربية سليمة ومتابعة حقيقية لأولادنا. وهذا ما نقوم به مثلاً على صعيد جامعة الحكمة من خلال برامج تنشئة حول تعليم الكنيسة الإجتماعي والعائلة، إضافة إلى برنامج خاص أطلقناه حول رعوية العمل الإجتماعي مع المركز الأبرشي الرعوي.”
تابع “كما وانه علينا ككنيسة أولاً، مع أصحاب الإرادة الطيبة، أن نقود معركة إسترجاع القيم العائلية الأصيلة والمحافظة عليها بكل الوسائل، وعلى الدولة أن تتحوّل إلى دولة رعاية بكل ما في الكلمة من معنى. ومن الطبيعي أن تساندها في هذه المهنة الملّحة مؤسسات الكنيسة الإجتماعية وكل المنظمات غير الحكومية، وذلك قبل فوات الأوان، بروح من التخطيط العلمي والشفافية والمسوولية الأخلاقية قبل كل شيء.”
أبو عبدو
مداخلة الأباتي سمعان أبو عبدو ر.م.م، حول دور العائلة في تنشئة الأولاد وبناء مجتمع سليم، حيث تذهب العائلة يذهب المجتمع ويذهب الوطن فقال:
“في العائلة، تبدأ إعادة البناء، بناء العقول والقلوب، العقول النيرة، والقلوب المتآلفة، بناء الأمل ، بناء الإيمان بالله، بناء الثقة بالنفس، الثقة بأن المستقبل لنا ولأبنائنا وبناتنا. إنّ التربية على القيم ليست طريقة تصرّف خارجيّة، بل يجب أن تغيّر عقلنا وقلبنا ومشاعرنا وطريقة تصرّفاتنا، وصولاً إلى طريقة رؤيتنا للأمور.”
تابع “من المهم جدًا أن نذكّر أن تربية الأبناء الشاملة هي “واجب خطير جدًّا”، وفي الوقت نفسه “حقّ أساسي” للوالدين. فالأهل لديهم الحق في حرية اختيار نوع التربية التي ينوون توفيرها لأبنائهم وفقًا لقناعاتهم. المدرسة لا تحل محل الوالدين ولكنها مكمّلة لهم. هذا هو المبدأ الأساسي: “أي مساهم آخر في العملية التربوية يجب أن يتصرف باسم الوالدين وبموافقتهما، وإلى حد ما، بتكليف منهما“.
أضاف “إنّ الحياة العائلية هي الإطار تربوي مميز في تنشئة الأولاد وبناء مجتمع سليم. ويجب على الأهل معرفة أنّ الأولاد ليسوا ملكية للعائلة، بل أمامهم مسيرتهم الشخصيّة في الحياة. والوسائل الصحيحة للعيش مع أولادنا ضمن إطار العائلة؟ وحدها اللحظات التي نقضيها معهم بالتحدث ببساطة وبعاطفة عن الأمور المهمة، والامكانيات الصحية التي نوفّرها لهم حتى يتمكنوا من شغل وقتهم، هي ما سيسمح لهم بمقاومة الغزو الضار. إننا بحاجة دائمة إلى اليقظة. فالإهمال لا يفيد أبدًا. وعلى الاهل أن يوجِّهوا ويُحذروا أطفالهم والمراهقين منهم كي يعرفوا كيف يواجهوا الحالات التي قد يجدون فيها، على سبيل المثال، مخاطر الاعتداء والتعسف أو الإدمان.”
أردف “تقتضي التنشئة الأخلاقية الفعالة اظهار مدى استفادة الشخص ذاته من عمل الخير. لأنه مِن غير المجدي اليوم أن نطلب أمرًا يتطلب جهدًا وتنازلات، دون أن نظهر بوضوح الخير الذي يمكن أن ينتج عنه. إن تقوية الإرادة وتكرار بعض التصرفات يشكّلان السلوك الأخلاقي، لدرجة أنه يصبح من غير الممكن إتمام التربية، في هذا الاتجاه، بدون التكرار الواعي والحر والمُشجِع. مثلاً ترداد العبارات من فضلك، وبعد إذنك، وشكراً.”
تابع “مسيرة التربية الاعتيادية تتكون من خطوات صغيرة، تكون مفهومة ومقبولة وتتطلب تنازلات متناسبة. خلافًا لذلك، مَن يطلب الكثير لا يحصل على شيء. والشهادة التي يحتاج إليها الأطفال من أهلهم هي ألا يتصرفوا بدافع الغضب. فالطفل الذي يقوَّم بطريقة ملؤها الحب يشعر بكونه محل تقدير، ويدرك بأنه شخص، ويعي بأن أهله يثمنون ملكاته الخاصة.”
قال “تُظهِر المساهمات القيمة لعلم النفس والعلوم التربوية بأن العملية التربوية يجب أن تتم بشكل تدريجي عندما يتعلق الأمر باكتساب سلوكيات مغايرة. وتُظهر كذلك أن الحرية هي أيضًا بحاجة إلى أن تكون مُوجهة ومُحفّزة، لأنها إذا تُركت لنفسها فإن هذا لن يضمن نضوجها الخاص.”
تابع “في عصرنا الحالي، حيث يسود القلق والتسارع التكنولوجي، يكون الواجب الأهم للعائلات هو تنمية القدرة على الانتظار. عندما يتم التنشئة على كيفية تأجيل بعض الأمور وانتظار الوقت المناسب، فإن الشخص يتعلم ماذا يعني أن يكون سيد نفسِّه، شخصًا مستقلا أمام نزواته الخاصة.”
أضاف “بما أنّ العائلة هي الخلية الأساسية الأولى في المجتمع، بات على الجميع أن يسعى لإنجاح دور العائلة إنها مهمة الكنيسة والدولة. وتعتبر العائلة بيئة التنشئة الاجتماعية الأولى، لأنها المكان الأول الذي يتعلم فيه المرء كيفيِّة مواجهة شخص آخر، والاصغاء، والمشاركة، والتحمل، والاحترام، والمساعدة والتعايش. وعلينا التعاطي مع أولادنا وتنشئتهم على القيم الصحيحة: الحقيقة، الحرية، والحس بالواجب، والأصغاء، والخدمة.”
وختم “إنّ مسألة مستقبل شبابنا الأخلاقي وعيش القيم الروحية والإنسانية والوطنية رهنٌ بما تكون عليه العائلة اليوم، وعلى أية مبادىْ تربي، لنحسن قراءة علامات الأزمنة، ولنتبين إشارات الروح، فحيث تذهب العائلة يذهب المجتمع ويذهب الوطن.“
خويري
كلمة د. جوسلين خويري حول التحديات الثقافية – الاجتماعية التي تواجهها العائلة في عالم اليوم جاء فيها:
نحن اليوم نواجه مرحلة جديدة وخطيرة في هذا المطاف التحرري العشوائي الذي يتجلى في تحديات حضارية تضع العائلة في المقدمة، اي على خط المواجهة الاساسي، ومن هذه التحديات :
1)التعتيم على قيمة الحياة البشرية وقدسيتها، من خلال قوننة التعديات التي تطالها في بدايتها ونهايتها، والتي تقرر وتمارس في قلب العائلة (الاجهاض والقتل الرحيم والتلاعب الجيني وغيرها) فتعود بنا، كما ذكر القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته ” إنجيل الحياة “، الى نهج قايين الذي قتل اخاه. وهذه الممارسة التي فصلت ما بين العلم والتقنية من جهة والبعد الاخلاقي لحياة الانسان من جهة اخرى، الى إنقلاب في المعايير والاولويات فانتقلنا من “حق الطفل” الى “الحق بالطفل” وفصلنا ما بين الحب والحياة، فبتنا نصنع الحياة بدون الحب ونطلب حبا لا يريد ان يتحمل مسؤؤولية الحياة.
2) التطاول على الهوية الانسانية في بعدها الجنسي التي جعلها الله لكل من الرجل والمرأة ليعيشا الحب في الإختلاف والعطاء المتبادل الذي وحده يضمن إستمرارية الحياة كثمرة للحب المجاني والكامل. والمس بهذه الثنائية عبر تحويلها إلى مروحة من الهويات المثلية والتحولية تتناقلها نظريات انتروبولوجية إجتماعية، تهدد في ديناميكيتها المعروفة مفهوم الخلق والزواج والنموذج العائلي في شكله ودوره وفلسفته وهدفيته، خصوصا لدى الاجيال الشابة.”
3) الممارسة المغلوطة لمفهوم الحرية الذي حولته حضارة الفرد والمادة والاستهلاك الى إنعتاق قاتل “من الله وليس به”. ولان الكسوف الذي يطال اليوم صورة الله الابوية، هو محو ممنهج لهوية الإنسان في جوهرها البنوي الذي يتحقق في التناغم الاخلاقي الحر ما بين الإرادة البشرية والتدبير الالهي الصالح.
تابعت “لذلك، فإن هذا الضغط الثقافي العشوائي الفائض عبر وسائل التواصل على انواعها والذي، على جاذبيته التقنية، يهدد سعادة الانسان ومستقبله، يضع العائلة امام إستحقاق تربوي ومعيشي يتخطى قدراتها ويشعرها بالعجز والعزل. فلا بد لنا من خطة عمل هادفة ومنهجية متكاملة تتضافر فيها الجهود بين العام والخاص، بين العائلة والمدرسة والدولة والمرجعيات الدينية والرعوية، خطة ترتكز على تبن واضح وصريح” للمؤسسة العائلية ” كضامن للقيم والاستقرار الإجتماعي. وهذه الخطة تعمل على محورين في آن:
1) المحور الإجتماعي وهو يهدف إلى مساعدة العائلة المتعثرة على إستعادة الرجاء بمستقبلها وقدراتها من خلال تشريعات إجتماعية واضحة داعمة للامومة والابوة، والتعليم المجاني والحر، وتعمل على تسهيل سبل الحياة اليومية وحماية حقوق العائلة واستقرارها كعامل حتمي في مسيرة المجتمع الانسانية والاقتصادية والسياسية على السواء.”
2) وهو المحور التربوي- الثقافي الذي يقوم اولاً واخيراً على خيارات ثقافية واضحة، تحدد الخيار اللبناني بالنسبة لموضوع الانسان والمجتمع. إن تبني القيم العائلية كخلفية حضارية للبنان يحتم علينا عملا جادا، تربويا إقتصاديا وسياسياً-إجتماعياً، وحده قد يعد باستعادة لبنان لرسالته الإنسانية الرائدة.”