يدخل الإنسان، بالمطلق، عالم الذكريّات والأحلام المنسيّة، أو المشاريع المحقّقة، أكان ذلك سلبًا أم إيجابًا، علّه يجد حلمه الضائع وواقعه المأمول. هل يجرؤ الثنائيّ الحالم بهناءة العيش على مواجهة واقعه، أم أنّه يحنّ إلى ما سلف من ماضيه الجميل قبل فترة الزواج وشهر العسل؟
تتأثّر حياة الرجل والمرأة ضمن الحياة المشتركة، بتطوّرات الحياة الاجتماعيّة والعلائقيّة والنفسيّة. يعيش عالمنا حياة مضطّربة على جميع الصُّعُد، ممّا يؤثّر أحيانًا بطريقة سلبيّة على حياة الثنائيّ، الذي يحلم بحياة سعيدة وهانئة. إنّ استفحال اضطّرابات العصر، المؤذية في حياة المجتمع، تدفع بالكثيرين إلى استرجاع الذكريات واستحضار الماضي والبكاء على الأطلال، والحنين إلى الأحلام والمخيّلات. ونتساءل: كم من شركاء في مسيرة الحياة الزوجيّة، يهربون من واقعهم، فيحتمون بعالم ذكرياتهم وأوهامهم وتخيّلاتهم. يبنون عالم الحاضر والمستقبل، من خلال ذكريات دخلت تاريخ ماضيهم. ألا نعتقد بأنّ الذكريات تنتمي نوعًا ما إلى تاريخ الأشخاص وطباعهم؟ ألا يمكننا اعتبار ماضي الشركاء “حالة” يرجعون إليها عند الحاجة؟ وهل تاريخ الثنائيّ (الرجل والمرأة) وسيرته حقبتان مهمّتان لإنجاح حياتهما، أم أنّها مجرّد نتيجة ظروف ومناسبات؟
يتعرّض ثنائيّ اليوم لشتّى الضغوطات والعوامل النفسيّة، التي تؤثّر سلبًا على خياراته وقراراته. فهو يعاني من الانقسام على ذاته. فكم من “حالات” و”قضايا” و”صعوبات” و”تحدّيات”، تضغط على مسيرته اليوميّة؟ أمام هذا الواقع، يلجأ إلى الحلم الضائع والوهم القاتل وكلّ ذكريات الماضي المنسيّة.
تُنعش أحيانًا، العودة إلى الماضي وذكرياته السعيدة، الشخص البشريّ، وقد تُدخله أحيانًا إلى عالم التحسّر والألم وفتح الجروحات والكآبة والخوف. هل يعيش أصحاب الحياة المشتركة على آمال الماضي وذكرياته؟ أم أنّهم يقتحمون حياتهم الزوجيّة بعزم وأمل رافضين الاتّكال فقط على الذكريات وشهر العسل وما قبله؟
بالمطلق، تُعطي ذكريات الماضي الفرحة للدخول من جديد وبطريقة مختلفة جمالات الحياة المشتركة. كم يشعر الإنسان بالغربة إلى ماضيه المُفرح؟ عادةً، عندما يعود الشركاء إلى الأمكنة والمطارح والأزمنة، يشعرون بأنّهم يولدون من جديد أو كأنّهم بحالة جديدة. يصنع الأشخاص في أكثر الأحيان، الأمكنة أو بالأحرى هم يعطونها الحياة والجمال والميزة الخاصة. تُصبح الأمكنة مع الأحبّاء محطّ أنظارهم وحتّى مكانًا لمرجعيّتهم السعيدة. ألا نعتقد أنّ بعض الحالات المأساويّة للثنائيّ تدفن ومضات الماضي وأسراره؟ هل هذا هو كبت للزمان المتفلّت من أحكام القدر الغادر؟ هل الذكريّات الجميلة هي سَرِقةٌ للأوقات المفرحة المنتقلة من هجرة الزمن؟
يصنع الأشخاص عادةً الأمكنة. ألا نعتقد بأنّ العكس هو صحيح أيضًا. تخرق الأمكنة والمطارح الزمان، فهي وُجدت لكسر طوق العزلة. هل تشكّل الذكريّات لدى البعض، أمكنة للمآسي والأحزان أو لقتل الحبّ؟ لربما حدّت الذكريّات وحدها الانفتاح على الآخر، لأنّها تُدخل الشريك في دوّامة التذكّر والحنين دون الانطلاق نحو الآخر بطريقة عملانيّة مبنيّة على عمليّة التواصل المُثمر والمُجدي في لقاء الأحبّة حول الحبّ. لا يمكننا أن ننسى أنّ بعض الذكريّات تُدخل الشريك في الانغلاق على نفسه، “فالأنا” في بعض الأحيان ذاكرة الماضي ومحوٌ للمستقبل.
تختزن الأمكنة الأوقات الجميلة والمميّزة وربما تختلس سحر اللقاءات، فيبقى اللقاء وتبقى شظاياه معلّقة في أذهان الحبيب. تُلهم الأمكنة الأشخاص نكهة الفرح والبهجة. إنّها نقطة ومحطّة لقاء الأحبّاء. تساعد على تجسيد اللقاء والفرح فيما بينهم. أولا تُصبح الأمكنة مع الحبيب رائعة وخلاّبة؟ ألا تُدخل الحبيبين في شراكة بحيث يشعر الواحد مع الآخر، أو بدونه بأنّ الأمكنة، مجال للقاء وعيش بطريقة متجدّدة ومميّزة؟ تُصبح الأمكنة مع الحبيب محطّةُ انطلاق، ورجوعٌ إلى الأوقات الحميمة. إنّها الحلم الباقي، لا تعرف الخيانة ولا النسيان ولا الحزن. تحفظ الأمكنة الوجوه والضحكات والأحلام والأمنيات والمشاريع والصور والكلمات. إنّها تأخذ حلّة سحريّة. فعندما يعود إليها الإنسان تخوّله إلى عيش ومضات تلك اللحظات بطريقة خلاّبة ورائعة ومميّزة وبنكهة جديدة ومتجدّدة. كم من أشخاص وشركاء في الحياة الزوجيّة، اختبروا تلك الحالات؟ لا سيّما عندما يعودون إلى تلك الأمكنة فيشعرون بأنّ “حبّهم” و”عشقهم” باقيان يتفاعلان عبر الأمكنة والزمان. إنّها لحظات حلم تعود بالرجل والمرأة إلى واقع حياتهما حيث الأمكنة في تلك الحالة تبقى مصدرًا لذكريات الحبّ وتفاعله. قد تُصبح الأشياء الصغيرة مهمّة والأشياء الكبيرة مُهملة، لأنّهم يهتمّون بها، لأنّ الزمان يخطفها من أمكنتها. يا ليت بعض الأشخاص يأنفون الوفاء كما يألفون المكان والزمان. يا ليت الحبيبة والحبيب يرجعان من وقت لآخر إلى تلك الأمكنة التي جعلت من حبّهما مصدرًا للقاء والفرح والتألّق والغبطة والنشوة والسعادة والانطلاق نحو الأهداف المنشودة!
كم يشعر الحبيب بحزنٍ عندما يعود إلى مطارح الماضي من دون شريكه لا سيّما إذا انتهت بينهما العلاقة. فكيف يكون وقع الأمكنة عليه؟ هل يشعر بذلك الشعور؟ هل مخاطبة الأمكنة كما كانت تتحدّث إليه سابقًا؟ كم يكون مخزيًا وقع المكان وعامل الزمان؟
ألا نعتقد ونتصوّر بأنّ للذكريات أصداء، لا تغيب عن الذاكرة والمخيّلة والأذان…؟ وأحلام وأمنيات لا تهجر فكر الإنسان؟ وعطور لا تفارق حاسة الشمّ؟ وكم من أمكنة يعود إليها الشخص بعد هجر؟ لا لشيء إلاّ ليستعيد ما فقده، أو لنشوة عبرت، وحلم لم يتحقّق. ألم يعي الفرد، بأنّ ذلك اللقاء، زان الحياة وزادها رونقًا؟ يعود ليسمع تنهدّات وآهات طواها التاريخ والزمن والمسافة. ونحيب سعادات قد لا تعبر سماءه من جديد…
هل يُدرك إنسان اليوم، أنّ كلّ فرح يمرّ يُصبح ذكرى؟ ألم يتعلّم ويختبر أنّ الحياة بوجودها الخاطف، ليست سوى ماضٍ وآتٍ؟ ولعلّ أروع الذكريات تلك التي يحملها الإنسان، من ماضيه إلى آتيه؟
الأب د. نجيب بعقليني
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة
ورئيس جمعيّة عدل ورحمة