Father Najib Baaklini

العائلة ضحية عالمنا… فما دور الكنيسة بوجه هذا الواقع الأليم؟

الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة (1)

Share this Entry

تعلّمنا الكنيسة، أنّ الزواج، هو عهدٌ وشركة حبّ وحياة، أي أنّ الله، الذي خلق الإنسان عن حبّ، يدعوه إلى تجسيد هذا الحبّ بالذات. وهي دعوةٌ فطريّة أساسيّة وجوهريّة في كلّ إنسان. الأمر الذي يخلق عهد حبّ وحياة وشركة بين الزوجين (المرأة والرجل)، لمدى الحياة، تتّصف بالوحدة والديمومة والوفاء والأمانة.

الزواج مجبول بالحبّ، من هنا، لا بدّ للثنائيّ العاشق من أن يُدرك مفهوم الحبّ ومبادئه ونتائجه. فالحبّ، لا يكون مع أوّل خطوة وفي البداية فقط، وإنّما ينمو ويبقى حتّى آخر الطريق وإلى النهاية. تُفيد الدراسات، بأنّ الزواج المبنيّ على الحبّ يُسهم في نجاح الحياة الزوجيّة والعائليّة معًا. ممّا يؤكّد أنّ الحبّ لكي يستمرّ في الطريق والهدف الصحيح، لا بدّ من أن ينمو تدريجيًّا وبشكل مستمرّ بالرغم من الصّعوبات والظروف الطارئة (غير المنتظرة) غير المتوقّعة. هل يُدرك ثنائيّ اليوم مفاهيم ومبادئ الحبّ والزواج والعائلة؟ هل يتمّ تحضير الشابة والشاب بشكل وافٍ لتحمّل مسؤوليّة بناء الشراكة وعيشها ضمن عائلة متّحدة وفرحة؟ هل يحصل الثنائيّ على المرافقة والمتابعة اللازمة من قبل الآخرين؟ وهل يتّبع ثنائيّ العصر إرشادات وتعليمات ونصائح أهل الاختصاص؟ أم يتّكل على الفطرة والمعرفة السطحيّة؟ هل يستفيد من نتائج العلوم النفسيّة والاجتماعيّة وحتى الروحيّة؟ أم يعتبر بأنّ الغرام والإعجاب والنزوة فقط يحقّقون النجاح والسعادة؟ طبعًا، تُطرح الأسئلة، لأنّ عددًا وفيرًا من المتزوّجين لا يملكون المعلومات الصحيحة والكافية أو يتحلّون بالنضج الكافي، أو يملكون الإرادة الحرّة أو يتمتّعون بالحريّة الداخليّة أو القدرة على الاختيار أو معرفة متطلّبات الزواج والواجبات المنوطة بهم، أو القدرة على الاتّصال والحوار أو الاقتناع بأهميّة المساومة والاتّفاق على الأمور الأساسيّة والجوهريّة، لنجاح الحياة الزوجيّة. “تُعتبر الحياة المشتركة، بالنسبة إلى الرجل والمرأة على السواء، ضمن الزواج، مشروح تحدٍّ متواصل ومغامرة جريئة. فهي تُصقل حياتهما صقلاً: أي إنّ الشراكة تُظهر كُلاًّ من الشريكين على حقيقته، فتُهيّىء له المناخ المؤاتي ليحقّق ذاته. وتُفسحَ له في المجال لإبراز شتّى أنواع الصفات الحسنة التي يتحلّى بها. فالشراكة إذًا هي المكان الطبيعيّ للشريك كي يتفاعل مع محيطه العائليّ وشريكه وحتّى مع ذاته”[1]

يمكننا القول، أنّ أغلبية المتزوّجين حديثًا، لا يفقهون ماهيّة الحبّ والزواج والعائلة، ولا يستطيعون تحقيق أهداف الزواج وغايته، وذلك لأسباب كثيرة. من هنا، أهميّة وضرورة الاستعداد للزواج. لتساعد مراحل الإعداد للزواج إلى تقديم المعلومات العلميّة وحتّى العمليّة. تُدرك راعويّة الزواج والعائلة في الكنيسة، أنّ الزواج معرّض للفشل وللاهتزاز والدّخول في صعوبات ومشاكل جمّة، كما إلى حالات من النزاعات والتوتّرات.

[1] كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، كي نبقى معًا، الزواج: واقع وآفاق، الجامعة الأنطونيّة، مجموعة الكنز، بيروت، 2005، ص. 25.

واقع أليم

بالمطلق، الحياة العلائقيّة بين أفراد المجتمع، وعلى جميع الأصعدة، معرّضة لشتّى أنواع التعقيدات والصّعوبات والمشاكل وحتّى إلى الفشل. ومع ازدهار الحياة الاجتماعيّة والعلوم الاجتماعيّة والنفسيّة والعلائقيّة، يبقى فنّ التواصل والاتّصال والحوار، فرصة عمليّة لتخطّي أغلب العقبات، إذا أُحسِنَ استعمال تلك العوامل، التي تسهّل اللقاءات بين الناس، كما تعزّز فرص النجاح في حلّ النزاعات.

يُدرك عالمنا اليوم، أنّ إنسان العصر بحاجة إلى السّلام والوئام، لكي يحقّق دعوته، التي دعاه إيّاه الخالق، ألا وهي العيش بسلام مع الخالق والإنسان والطبيعة.

يتخبّط عالمنا بالتوتّرات والضغوطات والاضطرابات، ممّا ينتج عن ذلك نزاعات وصراعات حادّة ومؤذية للحياة البشريّة، لا سيّما للحياة الزوجيّة والعائليّة. تتعرّض اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الحياة الزوجيّة والعائليّة إلى نزاعات وتوتّرات ومشاكل وصعوبات وحتّى إلى الفشل والكراهية والحقد.

أمام هذا الواقع الأليم، أدركت راعويّة الزواج والعائلة، أهميّة وضرورة إعداد وتأهيل ومرافقة ومتابعة حياة الأزواج، لا سيّما بعد الاحتفال بسرّ الزواج. تتمّ تلك المرافقة والمتابعة، من عدّة جوانب، بطرقٍ مختلفة ومتجدّدة ومتطوّرة، من أجل تدعيم وإبراز الزواج المسيحيّ، والحدّ من الجروحات والفشل والتفكّك الأسريّ. تحاول راعويّة الزواج والعائلة، في خضمّ مسيرة الزواج، التي يشوبها في بعض الأحيان خلافات ونزاعات، قد تؤدّي إلى انفصال الرجل والمرأة، إلى محاولات ترميم العلاقة الزوجيّة، من خلال تقديم الوساطة والمصالحة الراعويّة.

وساطة أم مصالحة؟

تُستعمل بالمطلق كلمة أو مفهوم الوساطة في شتّى الميادين، من خلال التحكيم. فهو يحدّد عمليّات التوصّل إلى اتّفاق أو مصالحة بين أفرقاءٍ في النزاع. كما تنطوي على مداولات، تؤدّي إلى حلول، ربّما تقبلها الأطراف المتنازعة أو ترفضها. ويتضمّن التحكيم مداولات على أن يكون مفهومًا، أنّ النتائج ستكون مُلزمة للأطراف المتنازعة. تهدف الوساطة إلى تقديم حلول لأزمةٍ ما؛ كما تعمل إلى التوصّل إلى اتّفاق في ما بين المتنازعين. تحاول الوساطة أن تتوسّط لإقامة الصّلح بين المتخاصمين. فهي تتدخّل بطريقة مباشرة، من أجل الخير العام. “يُعرف بالوساطة القانونيّة، أي التحكيم، القيام بالتوسّط بين طرفين للتوفيق بين وجهات النظر ولإصلاح ذات البين وتسوية الخلافات”. إنّها تتدخّل من أجل المصلحة العامة.

بالتأكيد هناك وسطاء يتوسّطون بين المتنازعين. فهم يتحلّون بالقيم والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة، كما بالحكمة والمعرفة والتروّي، وقدرة التواصل والاتّصال والحوار، ولا سيّما موهبة وقدرة الإصغاء. تسعى الوساطة إلى المصالحة، أي إلى ترميم العلاقة وإعادة الأمور المتنازع عليها، إلى سابق عهدها، ذلك في بعض الأحيان بأقلّ ضررٍ ممكن. في بعض الحالات المتعثّرة، دخلت الوساطة، فأدّت إلى نجاحات بالرغم من بقاء بعض الجروحات والآلام؛ كما إلى عدم النجاح وتثبيت الفشل والخلاف، أو إلى تنظيم الخلاف.

يحدّثنا الكتاب المقدّس عن المصالحة. وتظهر من خلال حب الله للبشريّة، بإرسال ابنه الوحيد لخلاص العالم، وذلك بموته من أجل مغفرة خطايانا. فالمسيح صالحنا مع الله الآب “أمّا الله فقد دلّ على محبّته لنا بأنّ المسيح قد مات من أجلنا إذ كنّا خاطئين ]…[ فإن صالحنا الله بموت ابنه ونحن أعداؤه، فما أحرانا أن ننجو بحياته ونحن مُصالحون! لا بل إنّنا نفتخر بالله، بربنا بيسوع المسيح الذي به نلنا الآن المصالحة” (روم 5: 8-11).

يتمّ الارتداد أو التوبة في الحياة اليوميّة، من خلال أعمال توبة ومصالحة مُعبَّر عنها: الاهتمام بالفقراء، وممارسة العدالة واحترام حقوق الآخرين، والإقرار بالأخطاء تجاه الأخوّة، والإصلاح الأخويّ، ومراجعة الذات أي الضمير، وقبول الصعوبات والآلام من أجل العدالة؛ وحمل الصليب وإتّباع المسيح الذي يوصل إلى التوبة. تقوم المصالحة على إنهاء الخلاف بين المتنازعين، باستعادة العلاقة الوديّة التي كانت قائمة سابقًا. إنّها توفّق بين المتخاصمين وتُعيد الوئام والسّلام والاتّفاق.

تصبّ جهود راعويّة الوساطة والمصالحة في المجالين الثقافيّ والاجتماعيّ في الحياة العامة، من هنا ترفض مبدأ “العين بالعين والسنّ بالسنّ” (متى 5: 38). فهي تحقّق توجّهات ورسالة وتعاليم الكنيسة، أي بجعل العالم أكثر إنسانيّة ورحمة، والعمل على تحقيق مفهوم المغفرة والمسامحة. تؤمن الكنيسة بأنّ الحبّ أقوى من الخطيئة. فهي تعلّمنا أنّ الغفران هو الشرط الأوّل لتحقيق المصالحة، وليس فقط في علاقة الله مع الإنسان، ولكن أيضًا في العلاقات بين البشر. لا يمكننا أن نتصوّر عالمًا من دون غفران ورحمة، لأنّ ذلك يؤدّي إلى عالم تسوده عدالة باردة وغير محترمة، فبذلك يُصبح كل فرد يطالب بحقوقه تجاه الآخر.

(يتبع)

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير