كنيسة مصالَحة ومصالِحَة
تهتمّ الكنيسة بتحقيق رسالتها من خلال الدعوة إلى أن يتصالح المؤمن مع ذاته ومع الله وأخيه الإنسان. فهي تحمل سرّ المصالحة، لأنّ بطبيعتها وطبعها “مصالِحَة”، كما أنّها تنقل للآخرين العطيّة بأنّها غُفر لها ومتّحدة مع الله. “والكنيسة مصالِحة لأنّها تعلن رسالة المصالحة على ما فعلت دائمًا عبر تاريخها ]…[ وهذا هو السبيل الذي لا بدّ منه للوصول إلى التفاهم بين الناس. والكنيسة مصالِحَة أيضًا لأنّها ترشد الناس إلى الطرق وتضع في متناولهم لبلوغ المصالحة. وهذه الطرق هي تغيير القلب والتغلّب على الخطيئة ]…[ أمّا الوسائل فهي الإصغاء المستمرّ الواعي لكلام الله، والصلاة الشخصيّة والجماعيّة ولا سيّما الأسرار، وهي علامات وأدوات حقيقيّة للمصالحة، ]…[ أيّ سرّ المصالحة أو التوبة” ويتابع البابا قوله ” لنؤكّد أنّ الكنيسة لتكون مصالِحة، يجب أن تبدأ بأن تكون مصالَحة ]…[ وأن تصبح أكثر فأكثر جماعة، العاملين باستمرار على الارتداد إلى الله والحياة معه”.[1]
يحتاج الإنسان إلى تغيير داخليّ وارتداد قلب، لكي يسلك طريق الوحدة مع الآخرين. فالارتداد أو التوبة الشخصيّة، هي الطريق الضروريّة، للوصول إلى الانسجام مع الآخرين.
يُظهر العمل الراعويّ، أنّ الكنيسة تقدّم للمؤمنين طرقًا للمصالحة من خلال عدّة وسائل. من هنا، يبقى الحوار الراعويّ، الذي يهدف إلى المصالحة، من خلال الوساطة الراعويّة، التزامًا أساسيًّا لمشروع الكنيسة، في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات. من هذه المعطيات التي تصبّ في خانة المصالحة، عبر الوساطة الراعويّة، ترتكز طبيعيًّا على اللاهوت والروحانيّة، كما تتضمّن عناصر أساسيّة من علم النفس، والاجتماع، وسائر العلوم الإنسانيّة. تلك الأمور، يمكن أن تساعد على توضيح الحالات، وطرح المشاكل والصعوبات، وإقناع الأشخاص المعنيّين، باتّخاذ قرارات ملموسة.
تستند راعويّة الزواج والعائلة، في عملها بخصوص الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، على روحيّة الكتاب المقدّس، أي تعاليم السيّد المسيح، كما على قوانين الكنيسة، في ما خصّ سرّ الزواج. تستوحي عمليّة الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، من بعض النصوص والبنود القانونيّة، التي تحاول فضّ الخلافات والنزاعات بين الزوجين، قبل تقديم الدعاوى لدى المحاكم الروحيّة؛ وذلك عملاً بتعاليم السيّد المسيح والكنيسة. “على جميع المؤمنين، لا سيّما الأساقفة، أن يسعوا جهدهم، مع صيانة العدالة، لتجنّب الخصومات بين شعب الله، ما أمكن ذلك، أو لحلّها سلمًا بأسرع وقت”[2]. تأخذ راعويّة الزواج والعائلة، مضمون هذا القانون، بجدّية، وتعمل على أساسه، للمساهمة في الوساطة الراعويّة، والتي هي مطلب مُلحّ وأساسيّ وجوهريّ، في عمليّة الإصلاح، والتقارب بين الزوجين، من أجل تدعيم التصدّع، وإعادة اللحمة فيما بينهما، بمساهمة المُصلحين، التي تنتدبهم الراعويّة. تتلقّف الوساطة الراعويّة، دعوة السيّد المسيح لكلّ مؤمن، لأن يصالح أخاه قبل تقديم قربانه (متى 5: 24)؛ كما إلى إرضاء الخصم “سارع إلى إرضاء خصمك ما دمتَ معه في الطريق لئلاّ يُسلمُكَ الخصم إلى القاضي والقاضي إلى الشرطيّ، فتُلقى في السجن” (متى 5: 25 ولو 12: 58-59). تهدف الوساطة الراعويّة، إلى مصالحة المتخاصمين في رعاية العدل، أي أنّه يجب التدخل بصورة مباشرة، من خلال الإصغاء، والحوار والمنطق، والإقناع، دون الضغط والإكراه والترغيب والترهيب، لأنّ الوساطة، لا تبغي مصالحة تسوية على حساب فريق دون آخر، أو استغلال ضعف شخصيّة أحد المتخاصمين، أو فرض المصالحة بالإكراه، أو سوء استعمال القوانين والشرائع؛ فهذا حتمًا، يتحوّل إلى ظلمٍ وهضمٍ للحقوق، كما إلى استغلال المحبّة والغفران والتوبة والندامة.
- القوانين في خدمة المصالحة
تستفيد الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، كما ذكرنا سابقًا، من القوانين الكنسيّة؛ لتقوم بدورها الرسوليّ والإنجيليّ، في هدم الهوّة بين المتخاصمين، وإعادة السّلام بينهما، إذا أمكن. وينصّ القانون الكنسيّ على أن يساهم القاضي في عمليّة الوساطة القانونيّة، مع مساندة الوساطة الراعويّة “على القاضي، في بدء الخصومة أو في وقت آخر يلوح فيه أمل بإيجاد مخرج صالح، أن لا يُهمل حثّ الخصمين ومساعدتهما على العمل معًا للبحث عن حلٍّ عادلٍ للخصومة، وإرشادهما إلى الطرق الملائمة للوصول إلى مثل هذا الحلّ، مستعينًا بوساطة أُناسٍ رصينين”[3].
تحاول الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أن توضّح وتشرح للرجل والمرأة، في حالة النزاع والخلاف والخصومة الحادة، “وساطتها” أو “تدّخلها” المباشر، من أجل تنظيم المصالحة أو تنظيم الخلاف، بأقلّ ضررٍ ممكن عليهما، وعلى أفراد عائلتهما. من هنا، المصالحة هي مسألة مبدأ. بالمطلق لا يوجد أحد مذنبٌ تمامًا، أو بريء تمامًا، لأنّ الحياة الزوجيّة، هي شراكة في كلّ شيء، حتّى في الأخطاء والنجاحات بطريقة غير مباشرة؛ لذا على الرجل والمرأة، أن يعرفا التمييز لمجمل أمور حياتهما، لا سيّما للتناقضات والاختلافات، التي غالبًا تؤدّي إلى الآلام والجروحات والأحزان والظلم، لا للغنى والتكامل.
تتطلّب الوساطة الراعويّة العمل البراغماتي، والمتابعة والمرافقة، والقدرات العلميّة، والحسّ الإنسانيّ والأخلاقيّ، والعمق الروحيّ. ترفض الوساطة الراعويّة التعدّي على حقوق الآخرين، كما الظلم والعنف والكراهية والانتقام، بل تبحث جاهدة إلى خلق ذهنيّة سلام بين المتزوّجين، وإلى اعتماد عمليّة استباقيّة ووقائيّة على التربية على الحبّ والمبادئ. وهي تحاول معالجة الأمور المعقّدة، التي تؤدّي وتسبّب النزاعات. تستفيد الوساطة الراعويّة من مكاتب الإصغاء في الأبرشيّات والرعايا، لمعالجة النزاعات في بداياتها من خلال اللقاءات الشخصيّة بين العاملين في مكاتب الإصغاء والمتزوّجين. وُجدت مكاتب الإصغاء لاستقبال العائلات التي تمرّ بصعوبة أو المجروحة. وبهذا الخصوص يشدّد البابا فرنسيس على “ضرورة إيجاد راعويّة المصالحة والوساطة من خلال مراكز استشارات متخصّصة في الأبرشيّات”[4]؛ ويتابع قوله “سيكون من الضروريّ لذلك أن تتوفّر، بالنسبة للأشخاص المنفصلين، وللأزواج الذين يعانون الأزمات، خدمة مركز معلومات واستشارات ووساطة مرتبطة بالرعويّة العائليّة والتي تستقبل أيضًا الأشخاص في أثناء إجراءات التحقيقات الأوّليّة”[5]. ويؤكّد البابا على ضرورة إنشاء تلك المراكز بقوله “ينبغي أن يُصبح مكتب الرعيّة قادرًا على أن يستقبل العائلات بترحاب وبحرارة وأن يعالج حالات الطوارئ العائليّة أو أن يوجّه الأزواج إلى مَن يستطيع مساعدتهم”[6].
- فاعليّة الوساطة الراعويّة
يتطلّب من الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، المؤهلات والمقدرات والوسائل، التي تؤدّي إلى المصالحة، أو إلى تنظيم الخلاف والنزاع (في حال الفشل)، والذهاب إلى التحكيم، من خلال الدعاوى ، بأقلّ ضررٍ وغضب وحقد وانتقام وحزن واضطراب. ومن بعض المؤهلات المطلوبة: فنّ التواصل والحوار والاتّصال والمتابعة. يقول المزمور “إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم”. يحاول الوسطاء أوّلاً، تدريب المتنازعين على معرفة الإصغاء إلى كلمة الله، لكي لا تتصلّب قلوبهم؛ لأنّه عندما ينقطع الحوار والإصغاء، لبعضهم البعض، تُصبح قلوبهم قاسية، وتنغلق على ذاتها، وتُصبح غير قادرة على سماع كلام الله، وحتّى إلى مشاعر وأفراح وآلام الآخرين.
تركّز الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، على أهميّة الإصغاء وضرورته، كما على الحوار المباشر، من أجل إيجاد بعض الحلول الملموسة والواقعيّة. “غالبًا ما لا يكون أحد الزوجين بحاجة إلى حلّ لمشاكله، إنّما إلى الإصغاء إليه. يريد أن يشعر بأنّه قد تمّ الإصغاء إلى معاناته، إلى خيبة أمله، إلى خوفه، إلى سخطه، إلى رجائه، إلى حلمه”[7].
تواجه الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، كمًّا من الصعوبات والتحدّيات، التي عليها مواجهتها، أمام الأزمات، وحالات الإحباط واليأس، والاشمئزاز والخوف، والاضطرابات المستمرّة، بشأن الارتباط المقدّس، الذي قام به الرجل والمرأة. تحدّثنا آنفًا عن أهميّة نتيجة الوساطة الراعويّة في المصالحة والغفران والندامة، “فبعض العائلات تتهاوى حين يتبادل الزوجان الّلوم، لكن تُبيّن التجربة أنّه مع مساعدة مناسبة، ومع فعل نعمة المصالحة، فإنّ نسبة كبيرة من أزمات الزواج يتمّ التغلّب عليها بطريقة مَرضية. فمعرفة مَنح الغفران والإحساس بأنّه تمّ فعلاً هي تجربة أساسيّة في الحياة العائليّة. إنّ فنّ المصالحة الشاق، والذي يحتاج إلى دعم النّعمة، هو بحاجة إلى تعاون الأقارب والأصدقاء بسخاء، وأحيانًا إلى مساعدة متخصّصة من الخارج[8]. تُدرك الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أنّ قوّة الإصغاء وقدرته، تَكمن في جذور المصالحة، التي تؤدّي إلى الوفاق والسّلام. من هنا، تزرع تلك الوساطة، الرجاء والأمل، في تحقيق النجاحات، وتؤمن أيضًا ب”غير المتوقّع”.
يتطلّب من الوساطة الراعويّة في الخلافات الزوجيّة، أكثر من أي وقت مضى، بسبب كثرة النزاعات والخلافات، والعوامل الداخليّة والخارجيّة، التي تؤثّر سلبًا، على حياة الثنائيّ؛ الشجاعة والمجازفة، في متابعة مسيرة الوساطة، لاستقبال العائلات بتفانٍ ومجّانيّة، وحبّ كبير، لا سيّما التي تعاني من تجارب المحن، والخصومة، والهجر، وتقديم الدعاوى لدى المحاكم الروحيّة. تذكّرنا الوساطة الراعويّة بالراعي الذي يذهب يفتش عن الخروف الضال.
تعاني مجتمعاتنا من أزمات أخلاقيّة، وروحيّة واقتصاديّة، واجتماعيّة وعلائقيّة ونفسيّة، ممّا يؤثّر سلبًا على الحياة الزوجيّة، فينتشر العنف الأُسريّ، والتفكّك العائليّ، فيختار الثنائيّ الهجر أو الانفصال، عند أوّل أزمة تمرّ أو تحدٍّ يواجهه. تعود تلك الأمور إلى أسباب شتّى، لا سيّما روح العالم الداعية إلى الأنانيّة والفرديّة، وعدم النّضج والوعيّ، بعيدًا عن كلّ استعداد للتضحية وللتنازل والمغفرة، متجاهلين أو جاهلين، أهميّة وقوّة ونعمة سرّ الزواج، وديمومته كعهدٍ مقدّس، أراده الله الخالق للزوجين، لعيش دعوة الحبّ والقداسة.
بعد هذا العرض، لا بدّ من تذكير: ينبغي على راعويّة الزواج والعائلة، أن تأخذ على عاتقها مع الأبرشيات، برامج الإعداد للزواج وتفعيلها على جميع الصُّعُد. الإعداد لسرّ الزواج، بمراحله البعيد والقريب والمباشر، يسهّل حياة الرجل والمرأة، ممّا يخفّف الصعوبات والمشاكل، مع إمكانيّة وجود بعض الحلول. “ولكي ينجح هذا الإعداد، يجب تحديد أهداف كلّ مرحلة ليحصل الخاطبان على تدريب كامل ومعمّق وليستثمروا إمكاناتهم البشريّة بذكاء ]…[ الإعداد للزواج له تأثيرٌ على نجاح أُسر المستقبل التي لا يمكنُ ارتجال أساسِها ]…[ الإعداد أمرٌ ضروريٌّ لأنّه يوفّرُ معلوماتٍ وتدريبًا للأزواج المستقبليّين من أجل إكمال نضوجهم ]…[ يساعدهم على الحوار فيما بينهم ]…[ ينيرُ دربهم قبل البدء، ممّا يساعدهم على أن يكونوا أكثر تطوّرًا واستعدادًا لمواجهة الصعوبات والمشاكل التي تنتظرهم ]…[ يساعد على التخفيف من الخوف من الحياة الزوجيّة والبدء بالمستقبل استنادًا إلى أسس متينة وواضحة، بهدف العيش بسعادة”.[9]
(يتبع)
الأب د. نجيب بعقليني
- يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
- أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
- رئيس جمعيّة عدل ورحمة.
- خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
- عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
- صدر له:
- الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
- حبّ واستمرار
- كي نبقى معًا
- لقاء وعهد
- المرأة والتّنمية
- الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
[1] يوحنّا بولس الثاني، الإرشاد الرسوليّ “المصالحة والتوبة”، 1984، رقم 8 و 9.
[2] مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، قانون 1103، بند 1.
[3] المرجع السابق، قانون 1103، بند 2.
[4] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، عدد 241.
[5] المرجع السابق، عدد 241.
[6] المرجع السابق، عدد 229.
[7] المرجع السابق، عدد 137.
[8] المرجع السابق، عدد 236.
[9] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 298 و 304-305.