بعد مضي يومين على دخول الترجمة الجديدة لصلاة الأبانا حيّز التنفيذ في فرنسا، أكّد البابا في مقابلة له أنّ الله لا يدخلنا في التجربة بل هذا “عمل الشيطان”.
دخلت الترجمة الجديدة لصلاة الأبانا حيّز التنفيذ في 3 كانون الأول في فرنسا وبات الطلب السادس فيها ” لا تدعنا ندخل في التجربة” عوض ” لا تدخلنا في التجارب ” .
محزنٌ جدا أن نجدَ، وبوتيرة ٍ متصاعدة، بعضا من مؤمنينا، يصدرون تعليقات لا تكشف اسلوبَ حوار ٍ وفهم ٍ بنائين، بل بالعكس، تكشف إمّا جهلا وقلّة دراية وعلم بالدراسات الكتابيّة واللاهوتيّة والنقديّة، وإمّا إنغلاقــــــًا للداخل والإنكماش والتقوقعُ على ما لدينا فقط، من دون فتح فجوات فينا للإنطلاق وتغيير العقليّة نحو جديد قادمْ!.
في هذه المقالة التي وضعتها، في موقع كاثوليكيّ مهم كـــزينيت، رأيتُ أنه لا بدّ لنا أن نشرحَ معنى الطِلبة هذه . لئلا نصابَ بالصدمات الدائمة والتشكيك، والأسوأ من هذا، إصدار الكلمات غير اللائقة بحقّ البابا فرنسيس، وكأنه أتى ليغيّر بحسب مزاجه الإنجيل وكلام المسيح.
ما هي التجربة؟
إن لفظة ” تجـــــربة ” تؤدّي ترجمة اللفظة اليونانيــــــــّة (Peirasmos). ولكن، ما هو معناها الدقيق؟ يقولُ أوغسطين جورج ” في مفرداتنا الدينيّة المعاصرة، تبدو التجربة وكأنــــــــّها إغواءٌ إلى الخطيئة في حياتنا اليوميّة، حتى لو كان ذلك الإغواء متأتـــّيا من شهواتنا الذاتيّة. ولكن، هل هذا هو المعنى الذي تقصده هذه الكلمة في صلاة الربّ؟
إنّ الرجوعَ إلى المعاجم الكتابيّة وإلى النصوص ذاتها، سمكّننا من إكتشاف ما تعنيه لفظة ” Peirasmos): الاختبار أم التجربة. إن تحليلا لهذا الموضوع في العهد القديم يكشفُ عن تطوّر مميّز. في النصوص العريقة لا يتردد الكتاب في القول إنّ الله ” يثير ” الإنسان كي يخطأ (1 صمو26 : 19 ؛ 2 صمو 24 : 1)، أو أنه يرسل إليه ” روحا شرّيرا ” (قض 9 : 23 ؛ 1 صمو 18 : 10 – 11) يقوده إلى الخطيئة. ومثل هذه المقولات تصدمنا ولا شكّ، إلاّ أنها، في الواقع، طريقة للتعبير عن أنّ لا شيء يخرجُ عن سلطة الله، كما هي الحال، إلى حدّ ما، في عبارة ” قسّى الله قلبَ فرعون ” (خروج 4 : 21 ؛ 7 : 3).
في حقبة متأخّرة، نرى ظهور شخصيّة الشيطان الذي يختصّ دور المُجرّب (أي 1 – 2 ؛ وفي 1 أخ21 : 1)، نرى الشيطان يوحي لداود ذاك المشروع الخاطيء بإحصاء الشعب، في حين أنّ النصّ القديم في 2 صمو 24 : 1 ، يُدلي بأنّ الله كان وراءَ هذا المشروع!. ومنذئذ، لن يُقال إنّ الله يُجرّب أو يمتحنُ الإنسان، وهذا ما سيؤكّده القديس يعقوبَ بقوّة في رسالته :” إذا جُرّب أحدٌ فلا يقل : إنّ الله يُجرّبني، إنّ الله لا يُجرّبه الشرّ ولا يُجرّب أحدًا ” ( يعقوب 1 : 13).
نعودُ إلى لفظة (Peirasmos)، إنّ هذه اللفظة (تجربة / اختبار) في العهد الجديد، لا تعني البتّة الميل الداخليّ إلى شيء سيّئ أو ممـــنوع، بل ” المحــــنة التي يسعى الشيطانُ من خلالها إلى إهلاك مَن يتعرّض لها ( 1 قور 7 : 5 ؛ 1 طيم 3 : 5 ؛ 1 بط 5 : 5 – 9 ؛ رؤيا 2 : 10 ؛ لوقا 22 : 31). فهي هجمة المجرّب الذي يهدف إلى تحـــطيم الإيمان في قلب المؤمن. كلّ ذلك يقودنا إلى التحقّق، هنا أيضا، من غمـــــوض ِ لفظة ” تجربة “، فهي ليس لها المعنى ذاته في اللغة الكتابيّة وفي اللغة المَحكيّة. ويُدلي جاك ديبون بالملاحــــظة التالية : ” من الصعب أن نعود إلى لفظة ” اختبار ” : فأن نطلبَ إلى الله ألاّ يُــــــــخضعنا للإختبار، فذلك يترك الإنطباع بأننا نتمنّى أن يُــــجنّبنا مِحَن الحياة والويلات والمعاكسات والعداوات، والتي هي بمثابــــــــــــــة الجــــزءَ الأصغر الذي علينا أن نقبله من صليب المسيح ! . ومثل هذه الصلاة لا تليقُ بالمسيحيّ. لذا، فإنّ لفظة ” تجربة ” تبدو أفضلَ ما دام، على الأقلّ، وقع دينيّ، شرط السعي إلى إعطائها معناها الصحيح، لا على مستوى علم النفسن بل على مستوى تاريـــــــــخ الخلاص.
” لا تـــــــدخلنا ….. ” ، إنّ ترجمة الفعل الأصليّ لهذه الطلبة كانت موضوع جدالات كثيرة، لأنها قد توحي بصورة إله يُخضع الإنسان للتجربة – وهذا ما تعكسه الصيغة الحاليّة. يُلزمنا النصّ اليونانيّ أن نترجِم حرفيّأ : ” لا تجعلنا ندخل في التجربة “، أو ” لا تدخلنا في التجربة “. فإذا أخذنا بعين الإعتبار المناخَ الساميّ المحيط بالفعل اليونانيّ، فيلزمنا بالأحرى أن نترجم : ” إجعَل ألاّ ندخل في التجربة “( جَي كارمينياك). أو ” لا تدعنا ندخل في التجربة” (جان ديلورم). وهذه الترجمات التي تختلفُ بعض الشيء تقودنا، في الواقع، إلى تفسيرين لهذه الطلبة من الصلاة الربيّة. فلنعرضَ أوّلا التفسير الذي يكاد يكونُ مقبولا بالإجماع :
إنّ الترجمة الحــــرفيــــّة للنـــــصّ اليـــــــونانيّ ” لا تدخلنا في التجربة “، تفترض ، ظاهريّا، تدخّل الله المباشر، تمامًا كما تؤدّيه الترجمة المتبنّاة الآن : ” لا تُخضعنا للتجربة”. إلاّ أنّ العهد الجديد برمّته يرفض الفكرة الاتي بموجبها يجرّب الله الإنسان. وحينئذ نتساءل : كيفَ يمكن أن نفهمَ هذه الطلبة؟
هناكَ حاشية في الترجمة المســــكونيّة للكتاب المقدّس ) T.O.B) تعرضُ لنا الجواب التالي :” ليس المقصود أنّ الله يُدخل، أو يجعلنا في التجربة، كما لو أخذ الإنسانُ في الفخّ، غير أنّه في إمكان الله أن يقودُ أحدًا إلى وضع ٍ دقيق من التجربة، كما قادَ الروح يسوع إلى البريّة ليُجرّبه إبليس (متى 4 : 1). فبحسب ِ هذا التفسير، لا يطلب تلميذ يسوع إلى الله ألاّ يدعه يجرّب ( متى 26 : 41 ؛ وما يوازيه 1 قو10 : 13)، بل أن يجنّـــــبه تجربة يتعرّض معها لعدم القدرة على تحمّلها …. . فإزاءَ الخطر الجسيم الذي تشكّله التجربة، نستــــغيث بالله كي لا يعرّضنا لمثل هذا الإمتحان.
يعطينا س . ديكوك هذا الشرح بشأن تجربة يسوع في البريّة ويقول: “قد تبدو هذه الطلبة من الصلاة الربيّة غريبـــــــة. فليس الله هو الذي يُجرّب، بل هو الذي يتركنا في أوضاع هي في الواقع تجارب. فالمسيحيّ يطلب أن يُحفظ من هذه الأوضاع. فإذا كان المسيح يعلّمنا أن نصلّي هكذا، فمعنى هذا أنّ التجربة الأكثرَ تخويـــــفا ليست هي تلك التي تولد عن الجسد أو العالم، بل تلك التي تولد عن وضع يختفي فيه فعل الله العطوف عن مجال الرؤية لدينا، وحينئذ قد يقول المسيحيّ : أين هو الله ؟ ولا يلقي سوى اللامــــبالاة والصمت: فقد يبدو له أنّ الله بعيدٌ إلى حدّ أنه يختبر التخلّي الذي اختبره المسيح ذاته. إنه يعيشُ أقصى ما عاشه ابراهيم حين طلبَ الله منه أن يضحّي بابنه اسحق؛ وما عاشه أيّوب إبّان مرضه؛ وما عاشه المسيح في نزاعـــــــــه. والسبيلُ الوحيد للخلاص هو ثقة غير مشروطة، ولكنّها ثقة قد تواكبها ثورة على الله.
هناكَ تفسيرٌ ثالث يبدو ممكنــــــــًا. فإن أخذنا بعين الإعتبار البنية الساميّة وراءَ النصّ اليونانيّ، نستطيع أن نترجم: ” إعمل كي لا ندخل في التجربة “، أي ” احفظنا من الدخول في وجهات نظر المُجرّب “. في هذه الحالة، نحنُ نطلب من الله، لا أن يعفيـــنا من التجربة، بل أن يعيننا كي لا نقبلها، ويساعدنا على الخـــــروج من الحلقة الجهنّمية التي توقعنا فيها التجربة ومن السلبيّة. فهم يواكيم جيريمياس وآخرون هذه الطلبة، مستندين إلى المعنى الذي حملته صلاة يهوديّة قديمة تتلى مساءً: ” لا تسمح أن أسقط بين أيدي الخطيئة والزلة والتجربة والفضيحة” . ويُعلّق جيريمياس : ” أن يكونَ موضوع هذه الطلبة الحماية في أوان التجربة، لا النجاة من التجربة، فهذا ما تؤكّده عبارة على لسان يسوع وردت في نصّ خارج عن الأسفار القانونيّة. فبحسّ تقليد ٍ قديم يكون يسوع قد قال في المساء الأخير، وقبيلَ صلاته في الجتسمانيّة : ” ليس بوسع أحد أن يبلغَ ملكوت السماء ما لم يمرّ بالتجربة. إنه تأكيدٌ صريح أنّ ما من تلميذ ليسوع يُعفى من إمتحان التجربة، وأنّ الغلبة وحدها هي موضوع وعد. وهذا القولُ يقدّم لنا برهـــانـــا جديدًا : ذاك لأنّ الطلبة الأخيرة من الصلاة الربيّة، لا تلتمس أن يعفى المصلّي من التجربة، بل أن يعينه الله كي يتغلّب عليها.
يقول البابا فرنسيس في المقابلة : ” بأنّ الفرنسيين قد غيّروا النص بترجمة ” لا تدعنا ندخل في التجربة ” . أنا هو من يقع، ليس هو من يرميني في التجربة لينظر فيما بعد كيف وقعت. إنّ الأب لا يقوم بذلك، الأب يساعد على النهوض بسرعة ؟.