تطرّقنا في الحلقة السابقة لموضوع : الحريّة هي نعمةٌ من الله. لكن في هذه الحلقة سنتطرّق إلى موضوع الإنسان. ما هو الإنسان؟! وهل هو أيضا نعمةٌ من الله؟! وسيكونُ هذا السؤال من ضمن نقطتنا الآولى، التي كانت: الحريّة نعمةٌ من الله.
لنرى ما هو الإنسان. السؤال عن الإنسان، هو سؤالٌ عن الكرامة والصورة المقدّسة، والكيان، والعلاقة. فهو دُعيَ مركزُ الخليقة وقمّتها. فكما أنّ الحريّة هي من نِعم الله لخليقته، فلا يمكنُ أن يكونَ الإنسانُ حرّا إلاّ إذا كانت كرامته من كرامة الله الحرّ، ومركزه من مركزيّة الله. ومعياره من معيار ووزن الله. بعد سؤالنا عن الإنسان، سنتطرّق إلى معنى المعرفة في الحريّة، وكيف يمكن أن تولدَ الحريّة من المعرفة والثقافة والعلم.
السؤال عن الإنسان
السماء والأرض هما بُعدا الكون. وإنّهما يحدّدان المجال الذي في وسطه ينتصبُ الإنسان. يقولُ المجمع الفاتيكانيّ الثاني: ” يكاد يتّفق المؤمنون وغير المؤمنين على أنّ كلّ ما على الأرض يجبُ أن يوجّهَ إلى الإنسان كما إلى مركزه وإلى ذروته” (ك ع 12). ومع ذلك، ألا يناقـــــــض هذا القول الإختبارُ بأنّ الإنسان هو كائنٌ بائس في نواح متعدّدة من كيانه؟ نعلم اليوم أنّ أرضنا ليست مركز الكون، وأنّ الإنسان بحسب إعتقاد معظم علماء الطبيعة، يندرجُ في تطوّر الحياة. فنتساءل من جديد : ما هو الإنسان؟ هذا السؤال الأصليّ للبشريّة الغربيّة منذ بدايتها. والسؤال عينه يطرحه الكتاب المقدس أيضا (مزمور8 : 5 ، 144 : 3 ) و (أيوب 7 :17).
هذا السؤال يجدُ اليوم أجوبة مختلفة بل متناقضة. فإمـــــّا يحدّد الإنسان بنظرة تفاؤليّة ومثاليّة ككائن حرّ يــــُترَك له تقرير مصيره بذاته. وغالبًا ما يكون هو القاعدة العليا لذاته (وهنا المصيبة، وسنراها لاحقا في حلقات تتكلّم عن العقل والضمير). ويعتقد أنه عليه التحرّر من كلّ ما يعيق إستقلاله، وأنه يجدر تحقيق ذاته بذاته. وإمـــّا يُعطى الإنسان ” صورة ماديّة فارغة من أيّ سرّ، يبدو من خلالها الإنسان كائنا له حاجاتٌ ولكن لا توقَ له، وهذا يعني كائنا لا يمكنه أن يحزن من شيء وبالتالي لا يمكنه أن يجد تعزية ً في أيّ شيء، ولا يرى في التعزية سوى كلام فارغ ” (السينودس العامّ :رجاؤنا 1 : 1).
وكثيرًا ما يتأثر الناس اليوم بصورة الإنسان في النظرة الماركسيّة إلى العالم، التي تعتبرُ الإنسان مجرّد ” مجموعة العلاقات الإجتماعيّة”، ونتيجة للمجتمع ومنتجـــــــًا له، وترى أن لا قيمة له إلا بقدر ما يخدم المجتمع ويسهم في تقدّمه.
كل هذه الأجوبة تتضمّن ناحية جزئيّة صحيحة؛ ولكنها، بسبب نظرتها إلى الأمور من وجه ٍ واحد، تخطئ في فهم الواقع المعقّد للإنسان، الذي لا يمكنُ إدراك سرّه في جواب واحد يقطع الطريق على سائر الأجوبة. ومع ذلك فما يدعو إلى التفكير أكثر من تلك الأجوبة الضيّقة الجزئيّة هو أنّ كثيرين من الناس اليوم لا يطرحونَ بعدُ السؤالَ حول معنى كيانهم الإنسانيّ، وأنهم يجتنبون هذا السؤال ويتهرّبون منه. لربّما بهذا تقومُ ” أزمة الإنسان المعاصر الأكثرَ عمقــــــــــــًا “.
فالإنسان هو من بين جميع الكائنات الحيّة الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يتساءل عن ذاته، والذي يلاقي في هذا السؤال سرّا يعجَزُ هو نفسه عن حلّه. كلّ الأجوبة عن السؤال عن سر الإنسان، مهما كانت غنيّة وعميقة، تبقى جزئيّة ما لم تتصوّر الإنسان بالنظر إلى أساسه الأخير وغايته القصوى.
يتبع