في هذا الوقت المقدس من السنة ونحن نستعد للاحتفال بعيد الميلاد، ندرك أن رسالة الميلاد لهذا العام تمثل تحدياً لنا جميعاً في هذه الأوقات الصعبة، حيث مررنا بالعديد من الأحداث، العامة والخاصة، والتي لمست حياتنا بطرق مختلفة.
فوسط مخاوف وقلق شعوب العالم العربي، حيث الأطفال والمدنيين هم ضحايا حروب قاسية، وملايينٍ من الأشخاص مشردين من منازلهم، مبعدين عن أراضيهم ويعيشون في ظروف مأساوية، تأتي رسالة الميلاد لهذا العام لتكون رسالة سلام “طوبى لصانعي السلام”، رسالة محبة “أحبوا بعضكم بعضاً”، رسالة صفح “اغفروا سامحوا”.
فعيد الميلاد هو وقت السلام والفرح، وهو وقت الأمل لا في إعطاء المزيد فحسب، بل في إعطاء المزيد من أنفسنا، إنه فرصة لنشر الدفء والسعادة في العالم أجمع، لكن ومع الأحداث المؤلمة التي بتنا نعيشها في عالمنا العربي الجريح سواء في سوريا أو في العراق أو في فلسطين وفي القدس الحبيبة على وجه الخصوص، يبدو أن عملية السلام قد أصبحت بعيدة المنال على الرغم من الجهود الحثيثة، ونتساءل عن السبب؟ هل لغياب الثقة بين القادة؟ هل للشعور بالإحباط لدى الشعب؟ هل لعدم تحقيق الآمال المرجوة؟ أم أن رسالة السلام نظرية وغير واقعية؟.
ومع كل هذه التساؤلات، هل فكرنا أن السلام لا يأتي نتيجة مفاوضات أو بأنه ليس عملاً تنظيمياً يستطيع أن يقوم به أفراد أو دولة أو مجموعة دول أو هيئة الأمم في الدرجة الأولى…الخ، بل بأنه لا بد أن يبدأ من حيث بدأت الحرب، وحيث أن الحرب بدأت أولاً بين الإنسان وأخيه الإنسان بسبب الغيرة والحقد، فإن السلام بالتالي لن يبدأ إلا بانتزاع بذور الشر من قلب الإنسان، فالمشكلة الأساسية هي مشكلة روحية، وليست تنظيمية أو عقائدية، إنها مشكلة الإنسان الذي فسد جوهره الإنساني، فصار عاجزاً عن تحقيق إنسانيته، إنه بحاجة إلى ميلاد المسيح المخلص لتغيير داخله حتى تتواءم أعماقه الروحية وجذوره الحضارية، وما لم يتغير القلب سيظل هناك صراع بين الروح والجسد، بين الميول والمادية والوحشية، والسمو الروحي الإنساني! وهذا هو أول الطريق وهذا هو عيد الميلاد، فهو ليس عيد الأطفال أو عيد بابا نويل، كلا! بل هو عيد ميلاد المسيح رسول السلام، بين الناس وفي الناس كي يحب الإنسان الله في أخيه الإنسان، فالسلام منوط بيسوع هذا هو طريق السلام، فمن سار على طريق السلام نال السلام.
يعلمنا عيد الميلاد أننا بشر، لذلك علينا أن نتذكر إنسانيتنا وأخانا في الإنسانية أولاً، فالبشرية لن تحقق سلاماً إلا إذا عملت على سلام مبني على معرفة واحترام كرامة كل إنسان “أحبب الرب إلهك وأحبب قريبك حبك لنفسك”، فلا سلام بلا محبة، ولا سلام ما دام هناك إنسان ينافق ويتجبر وآخر ينطق بالكذب ويقتل ويظلم ويعذب أخاه الإنسان، ولا سلام ما دام لم يتحرر الإنسان من الغدر والقسوة وزرع الرعب والكراهية، ولا سلام ما دام الإنسان قد فقد الحس أمام الأسى والألم الذي يتجرعه الآخرون من حوله وهو صامت! ولا سلام للإنسان ما دامت الشعوب لم تتجاوز طموحات المصلحة الشخصية اقتصادية كانت أم تجارية، إذ كيف يمنح الله سلامه للإنسان إذا كان الإنسان نفسه يحرم أخاه من السلام؟.
فإذا مضينا في هذا الطريق الوحشي وضربنا برسالة مولود بيت لحم عرض الحائط فسيسجل التاريخ أن عصرنا هو أكثر العصور خزياً على امتداد تاريخ الجنس البشري، فالسلام في الشرق الأوسط عامة وفي فلسطين خاصة منوط بإيمان سكان الأرض وإرادتهم الطيبة، وهذا ما ترنم به الملائكة ليلة الميلاد: “المجد لله في العلى! والسلام في الأرض للناس أهل رضاه”، فعيد الميلاد إذن باعث للمؤمنين ليتكلموا ويعملوا فيتغلبوا بلغة الحب على لغة التعصب والتعنت، ويثقوا بالله تجاه المستقبل وينتظروا سلاماً من ميلاد ذاك الذي أصبح قريباً من الإنسان وحاضراً في البشرية، إنه تعالى ينطق بالسلام لشعبه وأوليائه، وإن خلاصه من متقيه قريب.
فعيد ميلاد المسيح هو زمن الأمل، فحيث الأمل هناك المحبة وحيث المحبة هناك السلام، فالأمل لحظة أساسية في حياة الإنسان، إنها لحظة لتغيير جذري في موقفه، إنها الفرصة الأخيرة، فإذا لم يتخذ الإنسان اتجاهاً روحياً وأكثر تعقلاً وإنسانية، فإن الخراب على الأبواب، وإن نتيجة الحرب القادمة ستظهر في الدقائق الأولى، وبعدها لن يقوم للسلام قائمة.
فهناك ملايين العيون الدامعة التي تتطلع إلى سلام ينقذ العالم وأرضنا من هول الحرب فلا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفاً، ولا يتعلموا الحرب فيما بعد! وملايينٌ من البشر يرفعون أدعية للسماء أن يهب الله السلام للأرض في القلوب وينتزع الحقد والطمع والشر من النفوس فيعم سلام الله في ارض الله.
لذلك لنرفع صلاتنا في عيد ميلاد يسوع الطفل رسول السلام لأجل أن يديم الله علينا نعمة الأمن والسلام في وطننا الأردن، ضارعين له أن يبلسم جراح أخوتنا الأحباء في فلسطين، سوريا والعراق الذين حرموا من الفرح في عيد الميلاد، بعد أن تحملوا العواقب الرهيبة للحرب والعنف وكل أنواع الاضطهاد، ولنبعث معاً نداء إلى جميع المؤمنين في العالم أن يتضامنوا مع إخوتهم المؤمنين الفلسطينيين الذين يحافظون على شعلة “الكلمة” الذي تجسد في أرضنا، ولنجعل من عقولنا وقلوبنا مغارة نستقبل فيها بتفاؤل وأمل جديد يسوع الطفل، فطوبى لمن يصنعون السلام!