Pixabay - stars - CC0

ملء الزمان، هو ينبوعٌ لا ينتهي أبدًا

المسيحُ، هو صورةُ إكتمالنا ومستقبل العالم والإنسان ومحورُ التاريخ

Share this Entry

كلمة ” ملء ” في معجم اللاهوت الكتابيّ، هي للدلالة على القوّة الخلاصيّة للمسيح، الذي آولى كلّ سلطان ٍ في السماء وعلى الأرض. لم يكن هناك تعبير أفضل من كلمة ” الملء “، وهي توحي بالكمال في الوفرة. غير أنّ الإسم اليونانيّ المقابل لهذا اللفظ ينطوي على معان  كثيرة متنوّعة: إنه يعني أساسا إمّا العنصر الذي ينتشرُ في حيّز ما، كالبحر ( 1 أيام 16 : 32)، أو الأرض (مزمور 24 : 1)، وإمّا ما يكمّل شيئا ما (متى 9 : 16 ، مرقس 2 :21 ، كولسي 1 : 24). وقد يشيرُ هذا الإسم كذلك إلى العنصر الحاوي نفسه، أو إلى شمول الشيء (رومة 11 : 12)، والوفرة (رومة 15 : 29)، والإكتمال (رومة 13 : 10).

ملءُ الزمان (الأزمنة):  كما أنّ في الكلام على إليصابات (لوقا 1 : 57) ومريم (2 : 6)  ” تتمّ الأيّام التي يجبُ أن تلدا فيها، في الكلام عن الأرض تتمّ الأزمنة. ويمكنُ الحديث عن  ملء الازمنة المسيانيّة والإسكاتولوجيّة (غلاطيّة 4 : 4 ، أفسس 1 : 10). هذا الملء، لا يرتبطُ بنضج ٍ أو كمال وصل إليها البشر، بل بزمان حدّده الله، إذ ذاك يكمّل يسوع النبوءات ويحقّقها.

على مرّ تاريخ العالم المحتشد،  تَناوبَ الأحداث في الزمان والمكان سادةٌ ملهَمون وحكماء، قادة جريئون وبواسل، مفكّرون ذوو عبقريّة خارقة، متبحَرون في حقول المعرفة البشريّة المختلفة. في جميع الشعوب شخصيّاتٌ بارزة شرّفوا أوطانهم والبشريّة جمعاء. ولكن، لم يؤثّر أحد في تاريخ البشريّة مثل يسوع الناصريّ. لم يَدُم تبشيره إلاّ ثلاث سنوات. ومع ذلك أشعل به العالم. وإنّ سرّ موته وقيامته قد أدخلَ في التاريخ رجاءَ حياة ٍ لا نهايةَ له.

نالَ التاريخ به ملأه الحقيقيّ، وكثافته ومعياره. ولادة يسوع وتجسّده، أعطى للتاريخ فداءً جوهريّا، وتحريرًا من سلطة مظلمة داخليّة تكبتُ علينا! لم يكن الزمانُ هو الذي سبّب إرسالَ يسوع، بل كان إرسالُ يسوع هو الذي حقّق ملء الزمان. إذا ألقينا نظرة ً على تاريخ البشريّة في زمن ميلاد المسيح، تبيّن لنا أنّ العالم القديم كان قد حصلَ على تهيئة دينيّة واسعة ومتنوّعة: ففي الشرق الأقصى كانت قد ترسّخت، منذ أجيال عديدة، التقاليد الهندوسيّة والبوذيّة، المعروفة إلى حدّ ما في منطقة البحر المتوسّط في ذلك الحين؛ بالإضافة إلى المفاهيم الدينيّة التقليديّة لكلّ شعب، كانت الديانات الوثنيّة واليونانيّة والرومانيّة الواسعة الإنتشار، تــــُفرَض أحيانا على الشعوب التي يتمّ إخضاعها بقوّة السلاح، في الشرق الأوسط والغرب. في إحدى مناطق أطراف الإمبراطوريّة الرومانيّة النائية، كانت الديانة اليهوديّة حيّة،  وقديمة قِدَم الهندوسيّة، وقد قامت بتحضير مباشر لمجئ يسوع: ” لا شكّ أنّ التدبير الإلهيّ للعهد القديم موجّه لتحضير مجيء المسيح فادي الكون ولإعلان ملكوته المشيحيّ.

ولا بدّ من الإيضاح، أنّ ديناميّة الخلاص الحاضرة في العهد القديم، إن في تاريخ الشعب المختار، وإن في شخصيّة الوسطاء، كالملوك والكهنة والأنبياء، كانت قد دخلت في مرحلة  من الضياع الكبير، وبعد المراحل الآولى الحاسمة، التي بدأت بدعوة إبراهيم (القرن التاسع عشر ق. م)، مرورًا بالخروج من مصر، وبمعاهدة الله مع شعبه (القرن الثالث عشر ق.م)، حتى زَهو ِ الملكيّة في أيّام داود وسليمان ( القرن العاشر ق.م)، وتعاقبت أحداث من الفشل إبتداءً من إنقسام المملكة (القرن العاشر ق.م)، ثم جلاء بابل (القرن السادس ق.م)، أدّت إلى خضوعها للفرس خضوعًا سياسيّا ودينيّا، ثمّ لليونان ( 332 – 63 ق.م). وأخيرًأ  للإحتلال الرومانيّ مع بومبيوس سنة 63 ق.م؛ هكذا باءت بالفشل جميع الوساطات الخلاصيّة لأجل  الشعب المختار، أمام الله وأمام التاريخ.  وقد شجّع تدهورُ تقاليد ومؤسّسات هامّة في إسرائيل ” الجديد  ” من رجاء مشيحيّ أخيريّ ” إسكاتولوجيّ “. وقد عبّر عنه اشعياء على النحو التالي: ” هكذا يقولُ الربّ (…)، لا تتذكّروا الأوائل ولا تتأمّلوا القدائمَ هائنذا آتي بالجديد (أش 43 : 16 – 19).

فالتغيير بين كارثة القديم ورجاء الجديد ” عبورٌ بلا عبور ” أي، بل يحصلُ بدافع من خطورة الوضع القصوى، بل بفضل التدخّل الإلهيّ، الذي يقتحمُ نقطة الصفر في التاريخ، بجديد ٍ مطلق، ليُدخِل إليه الخلاصَ النهائيّ المفتوحَ على البشريّة قاطبة. لا يوضعُ العبورَ من العهد القديم إلى الجديد على خطّ أفقيّ لتطوّر متجانس، بل إنه نتيجة قفزة نوعيّة من العلاء. وهذه القفزة النوعيّة تحقّقت بمولد يسوع المسيح : ” لا يمكنُ البحثُ عن أصل يسوع في العالم، إنه مستترٌ في الأزليّة “( أوغطسين).

فالمسيحُ هو محورُ التاريخ والزمان، ليس مجرّدَ عرف ٍ تاريخيّ، بل هو معيارٌ لاهوتيّ: مجيءُ المسيح هو المركز والمحور و الثقل. لأنه يمنح التاريخ معناهث وقيمته التاريخيّة. فعلى ضوء التجسّد، يفقد التاريخ العالميّ طابعه الدنيويّ، فيصير تاريخا مقدّسا وخلاصيّا، من خلاله ندركُ  الله والإنسانَ معا، وحقيقة التاريخ البشريّ وفكّ أسراره. ملء الزمان، هو أنّ التاريخَ والزمان أصبحا لهما معنىً، زمانٌ مملوءٌ من الله، زمانٌ خلاصيّ يكشف الله من خلاله، حقيقة العالم الإنسانيّ، ومخطّطه لأجل التاريخ. إنه زمانٌ أبديّ . يذكّرنا هذا بما قاله كلوديل في ليلة من ليالي عيد الميلاد:

” بيسوع المسيح دخلت الأبديّة إلى قلب الزمان، إلى قلب التاريخ، إلى قلب الإنسان … ” . ملءُ الزمان، هو الزمان الخلاّق، هو زمانُ كشف الحقّ، وزمانُ إكتمالُ الإنسان وخلقه الدائم. ملءُ الزمان، يكشفُ لنا أن الله لو خلقنا في نقطة النهاية ” الياء “، لما كنّا بشرًا، بل أشياء جاهزة كاملة الصنع مستقرّة بدون حركة أو تغيير.

علمُ الرياضيّات الصرف والفيزياء الدقيقة يكشفان لنا أنه من المستحيل ِ أن  يخرج الأكثر من الأقل. فهذا غيرُ معقول! . نجدَ اللغز أيضا في التطوّر: فمن ذرّات ومواد جامدة تمامًا، إذن تخرجُ الحياة والنباتات والحيوان، وأخيرًا الإنسان. فلا يمكننا إذن أن نشرحَ هذا النموّ والتطوّر والحركة التصاعديّة، لأنّ الأقلّ لا يستطيعُ أن ينتجَ الأكثر.  هذا هو السبب عندما نقولُ إنّ الأبديّة في قلب الزمن، ولأنّ في الزمن والتاريخ مبدأ أسمى منهما، فهما ليسا مكتملان، يصبحُ الإنتقال من الأقلّ إلى الأكثر ممكنـــــًا.

ملءُ الزمان، منطقيّا يعني:  أنّ الله يتمتّع بحسّ قويّ بالوقت. في ملء الزمان، عندما أصبح كلّ شيء معدّا، ولد يسوع. وهذا صحيح!. فلو أنّ يسوع كان قد ولد في أيّ وقت ٍ آخر، ربّما لم نكن سنسمعُ عنه في الوقت الحاليّ. إلاّ إذا كان لدى الله طريقةٌ أخرى لفعل ذلك لماذا؟ إذا كان ولد في عام 100 قبل الميلاد مثلا، كانت الجمهوريّة الرومانيّة، في ذلك الوقت، فاشلة. وكانت هناك اثنين أو ثلاثة حروب أهليّة مشتعلة خلال هذا القرن. الإمبراطوريّة كلّها كانت غارقة في الدماء. وإذا كان قد أتى بعد ذلك في عام 480 مثلا، كان سيكون متأخرا جدّا، حيث كانت جحافلُ البرابرة تغزو الإمبراطوريّة الرومانيّة. لكنه كان توقيتا مثاليّا، عندما ولد يسوع كان الحاكمُ هو اغسطس قيصر، وكانت الإمبراطوريّة قد استقرّت أحوالها،  ووضعت إشارات المرور في الشوارع، إذا جاز التعبير. كان يمكن للناس السفر برّا أو بحرًا متمتّعين بالحصانة والأمان. هكذا، تمكّن الرسول بولس من السفر لتوصيل  البشارة المفرحة، في آسيا الصغرى واليونان وايطاليا. حيث أصبح السفر آمنــــًا عبر البحر المتوسّط. وكان توقيتا مثاليّا لأنه كانت هناك لغة واحدة عالميّة مستخدمة حول البحر المتوسّط ولم تكن اللاتينيّة، بل اليونانيّة الشائعة في التجارة. اللغة نفسها التي كُتب بها العهد الجديد. فقد كان وقـــتا مثاليّا بوجود وسيلة دوليّة للتــــــواصل.

المسيحُ، هو صورةُ إكتمالنا ومستقبل العالم  والإنسان ومحورُ التاريخ. لأنه الإنسان الكامل الشموليّ، سيّد التطوّر والتاريخ. به نرى مستقبلنا الآتي. ملء الزمان، هو ينبوعٌ لا ينتهي أبدًا.

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير