إنّ مسألة قيمة الأناجيل التاريخيّة لمسألة أساسيّة بالنسبة إلى الإيمان. فلو لم يكن المسيح قد حُبِلَ به حقا من الروح القدس، ولو لم يكن قد قامَ حقا من بين الأموات، لكان إيماننا باطلا. ولدينا اليوم موقفان متناقضـــان إزاءَ هذه المسألة. فالبعضُ يجهلونَ أو يرفضون البحثَ النقديّ للكتاب المقدّس، ويخلـــــطونَ بين المعطيات التاريخيّة وبين طريقة عرضها، وهم بالتالي مسؤولونَ عمّا يثيرونه من صعوبات ٍ إضافيّة لدى غير المؤمنين. وعلى نقيضهم، لا يرى البعض الآخر في الأناجيل إلاّ تصوّرات اسطوريّة لا أساسَ لها في الواقع التاريخيّ. فكلا هذين الموقفين مترتّبان على نفس الجهل لعلم التفـــــــسير الحقيـــقيّ، فهو يعلّمنا أن نميّز، في هذه النصوص الإنجيليّة، بين المعطيات التاريخيّة من جهة، وبين العناصر التي تساعد على إبراز معناها من جهة أخرى.
يعطينا الكاردينال جان دانيلو في كتابه ” أضواء على أناجيل الطفولة” صورة ً جميلة ورائعة ومنطقيّة في فهمنا لجانبين مهمّين ولا تناقضَ بينهما ألا وهما : الإيمان والتاريخ في أناجيل الطفولة، فيقول:
” إنّ الأساليب الأدبيّة المستعملة في تدوين الفصلين (إنجيل متّى) :النسب، البشارة، الهرب إلى مصر، والعودة منها، ومقتل أطفال بيت لحم”، قد يجعلنا نظنّ أنها ليست سوى طريقة تربويّة تهدفُ إلى تعليم لاهوتيّ ليس له أساس تاريخيّ. في الواقع، يعرض علينا القديس متّى قراءة صحيحة للتاريخ، ولكن التاريخ ليس في معناه الحَدثيّ، ولكن في أبعاده كلّها.
ويقولُ راتسنجر(البابا بنديكتس السادس عشر)، في كتابه ” يسوع الناصريّ بجزئه الثالث” : إنّ متى ولوقا – كلاًّ بطريقته الخاصّة – أرادا، ليس أن يقصّا ” روايات ” بقدر أن يكتبا تاريخا، تاريخًا حقيقيًّا، قد حصل، طبعًا تاريخا تمّ تفسيره وفهمُه وفقا لكلام الله. هذا يعني أيضا، في نظر البابا، أنه لم تكن هناك نيّة بأن يُروى بصورة كاملة، ولكن بأن يدوّن ما يبدو مهمّا، في ضوء الكلمة والجماعة المؤمنة الناشئة. يضيف ويقول، ” إنّ روايات الطفولة هي تاريخٌ مـُـــــــفسّر، إنطلاقا من التفسير، تمّت كتابتها وتلخصيها.
روايات الطفولة نادرة هي في مجمل الكتاب المقدس، ويُخيّل للمرء أن ليس هناك أحداث هامّة في هذا العمر. والرجال العظام، كما تدلّ عليهم العبارة، توقّفوا عن كونهم صغارًا ما أن أصبحوا ذوي شأن! ولكن، لماذا هناك بعض الإستثناءات من أمثال يعقوب وعيسو، موسى وصموئيل، شمشون… وبالأخصّ يسوع؟
الطفولة، صورة مسبقة
سنرى الآن صورة الطفولة هذه- المسبقة – في عدّة أماكن متفرّقة: في الكتاب المقدّس، وفي خارج الكتاب المقدّس، صورة القائم من الأموات، وفي حياة الكنيسة، وفي الأسفار.
أوّلا، يذكرُ الكتاب المقدّس أنّ يعقوب وعيسو، منذ تكوينهما في بطن أمهما، كانا يتنازعان( تكوين 25). وهكذا، قبل ولادتهما، نراهما يعيشان مسبقــــــًا العداوة بين الشعبين اللذين ينتسبان إليهما: إسرائيل وآدوم (2 صم 8 : 14)، وموسى، منذ الأشهر الثلاثة الآولى، كان في سلّته على النيل تحت حماية الله (خر 2 : 1 – 10). لم يردْ إسم الله في هذه الرواية، إلاّ أنه حاضرٌ لدى شعبه؛ وهكذا يصبحُ موسى المنتشل من المياه صورة مسبقة لمصير اسرائيل الذي سينتشله الله من مياه الموت (خروج 14).
وشمشون، إنّـــــما هو عطيّة من الله إلى منوح الذي كانت امرأته عاقرًا ( قضاة 13). وهكذا، أعلن عن المصير الأسطوريّ لهذا البطل الذي” يبدأ بخلاص اسرائيل من يد الفلسطينيّين ” (قضاة 13 : 5). والفتى صموئيل، كان هو الآخر عطيّة عجيبة من الله إلى حنّة العاقر، هو الذي ” كان يتسامى في القامة والحظوة عند الله والناس” (1 صمو 2 : 26) . وحين أصبحَ نبيّا بدعوة إحتفاليــــــّة من الله ( 1 صمو 3)، كان عليه أن يعيـّن الملكين الأوّلين : شاول وداود.
لدينا صورة الطفولة المسبقة أيضا خارجًا عن الكتاب المقدّس. فأدب كلّ شعب ٍ مليء بأمثلة من هذا النوع. فالملك سرجون الذي كان عتيدًا أن يؤسّس مملكة أكد، قرابة 25 قرنا قبل يسوع، قد أنقذ من الموت حين وضع، وهو طفل صغير، في سلّة من الصفصاف على نهر الفرات. ولا بدّ أنّ راوي طفـــــــولة موسى (خر 2)، تذكّر هذه القصّة الجميلة. ويحكي بلوتارك كيفَ أنّ الاسكندر الكبير كان قد أظهرَ، منذ طفولته، علامات تنبئ بمستقبله الخارق: لقد كان قادرًا أن يلجم حصانا متهوّرا، أو أن تبقى عينـــــــــــاه محدّقتين بالشمس.
وسيرة القدّيسين مليئةٌ بروايات ساذجة، حيث تتلألأ فضائلهم وأعمالهم الباهرة منذ الطفولة المبكّرة؛ فهكذا كان القدّيس نيقولا يرفض ثدي أمّه يوم الجمعة كي يلتزم بالصوم، والقدّيس ريمي كان يشفي ضريرًا بلمس عينيه بحليب أمه. وفيما يصفُ العقلانيّون هذه الروايات اللامعقولة بــــ” أكاذيب” ، سيقول عنها القرّاء، الذين يلمسونَ وظيفتها، أنها ” حقائـــــــق رمزيّة “؛ ذلك لأنّ هذه الروايات تكشفُ منذ الطفولة عمّا سيكون عليه البالغ، وتنقلُ، في الوقت ذاته، تعليمًا.
هناكَ إنجيليّان، مرقس ويوحنا، لم يستشعرا الحاجة للتحدّث عن طفولة يسوع. فالبنسبة لهما، كان العماذُ هو البداية الحقيقيّة ليسوع. ولذا، لم يقولا شيئا عن الثلاثين سنة السابقة. وعلى العكس، هوّذا متى ولوقا يمنحُ كلّ منهما (وبشكل ٍ شخصيّ جدا بحيث يصعب التوفيق بينهما) حيّزا مهما لبعض المشاهد من طفولة يسوع.
الصورة المسبقة لطفولة يسوع نراها في وجه القائم من بين الأموات. فليسَ من المعتاد أن يبدأ الحديث بالطفولة، وإنّما صعودًا إليها. فمتّى ولوقا سعيا ولا شكّ، بتأثير التقوى الشعبيّة التي تتّسم دومًا بالفضول، إلى تسليط الضوء على هويّة الربّ عبر مشاعد دخوله في التاريخ. واختار كلّ منهما وجه نظر: فبالنسبة إلى لوقا، فقد كتبَ من وجة نظر مريم؛ أما متى، فمن وجه نظر يوسف. والذين كتبوا الأناجيل، يعرفون مسبقــــــــا قيامة يسوع. وهكذا، فإنّ رواية فقدان يسوع لمدّة ثلاثة أيّام ووجدانه في الهيكل، تلمّح بالتأكيد إلى موته وقيامته في اليوم الثالث.
أما في حياة الكنيسة، فحين يحكي متّى ولوقا قصّة طفولة يسوع، لا يمكنهما أن ينسيا ماذا أصبحت في زمنهما ” حــــــركة يسوع “، بنجاحها واخفاقاتها. ولا عجبَ أن تكتشف كنيسة لوقا، المكوّنة من فقراء، بأنّ الرعاةَ الهامشيّين لدى ولادة يسوع، هم أولئك الصغار الذين تلقّوا الوحي. ففيهم ترى الكنيسة كلّها ذاتها، وكأنها في مرآة ٍ، بفقرها وبفرحة كونها مختارة.
أمّا متى اليهوديّ، فهو بحاجـــــــــة أن يفهمَ لماذا شعبه لم يتقبّل مسيحه. ولذلك فهو يُسقِط على طفولة يسوع هذا الرفض من قبل اليهود وقبول الوثنيّين له. وهاهُم الملوك المجوس (سنراهم لاحقا) يطلبون من الشعب اليهوديّ نورَ الأسفار المقدّسة. وهكذا نراهم يذهبون إلى بيت لحم، ولو أنّ الرؤساء اليهود رفضوا المسيح. فمنذ البدء، ما كان ينبغي أن يتمّ خلال كرازة يسوع، ولدى ولادة الكنيسة، قد تمّ مسبقا. ولكي يفهمَ المسيحيّون حدث يسوع فهما أفضل، كان عليهم أن يربطوه بالأسفار المقدّسة، وأن يعبروا عنه من خلالها. ولذلك، سجّل لوقا، في رواياته، استشهادات ضمنيّــــة من الأسفار المقدّسة دون أن يفصح عن ذلك. ولا عجب إذا لم يشعر بهذا الأمر القارئ المعاصر الذي أصبح متغرّبا عن نصوص العهد القديم! . ومتّى يصف يسوع بصفته موسىً جديدًا، وعلى مثاله نجا بشكل عجائبيّ من المذبحة (متى 2 : 13 – 15). وحين يذكر متى بأنّ أربع نساءٍ (تامار، راحاب، راعوث، تشابع) دخلن، بعكس المنــــطق البشــــــريّ، في نسب المسيح، فذلكَ لكي يشدّد على الدور الخاصّ الذي لعبته مريم التي، بفضل الروح القدس الذي قادَ يوسف، أدخلت يسوع في سلالة داود المسيحانيّة.
يتبع