يحذر الرب على لسان أشعيا من الويل الذي يقع على “القائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المرّ حلوًا والحلو مرًا” (إش 5: 20). ونسمعه في الرسالة الأولى الى كورنتس يتحدث عن الإنسان ” الروحي الذي يحكم في كل شيء” (1 كو2: 15)
يشرح علماء الكتاب المقدس عن الكلمة اليونانية المستخدمة في آية كورنتس عن الحكم و هي (anakrino) تأتي بمعنى تمييز أو دراسة. وهكذا بينما يحثنا الرب على عدم إدانة الآخرين بمعنى عدم “لعنهم” (krino) هو ما يزال يشجعنا على “الحكم على كل شيء.”
على ضوء ضرورة التمييز و لتفادي “لعن” الآخر، كان لا بد من الإضطلاع على مضمون حلقة علت الصيحة في الأيام المنصرمة على خلفية كلام ورد فيها على لسان الأب رمزي جريج . الإطار هو برنامج تلفيزيوني تناول الأب اللعازريي في أحد موضوعاته دور مريم العذراء. وبعد الإضطلاع ، نستخلص الآتي من فكر و طرح الأب الجليل :
* مريم ” الدالة” و ليست ” المدللة !
إذ نتأمل في الأيقونات البيزنطية، نرى العذراء تحمل المسيح و تدل عليه. لذلك تدعى “الدالة” ! و يضيف الأب في تفسيره هذا: أن الناظر الى الأيقونة يشعر كأنه ” الأقرب ” الى الرب بحيث أن نظر القدير يقع عليه و كأنه محور الإهتمام. و هنا تأتي عظمة الأم السماوية، بأنها لا تدير لنا ظهرها، متعالية و حاجبةً المسيح إبنها و هي حتماً لا تقيم نفسها على شاكلة بعض المقربين من زعماء أرضيين : فهم يسعون لتسويق أنفسهم ك “ممر إجباري” نستقي منه ” الخدمات”. لا! بل أنها هنا تدل على نبع النِعم و هي ” المسيحية” الأولى بإمتيازِ “نَعَم” قالتها و أتقنتها، لذلك هي “المسيحي (ة) ” النموذج و القدوة التي نتطلّع إليها!!
ومريم لم تكن مدللة، فما أن قالت ال “نَعَم”، توالت الصعوبات: كادت أن تُرجم لولا عناية الرب و حكمة يوسف و عانت الأمرين بُعيد ولادتها، و إضطرت أن تهاجر في زمن لم يكن فيه تسيهلات التنقلات… وصولاً الى أقدام الصليب: و هي واقفةٌ أبداً متشبثة بهذه العلاقة الحميمة مع من تعرف أنه الله الأمين!
* مريم ” أم الله” في الكنيسة هي عقيدة “كريستولوجية” أكثر منها “مريولوجية”
فمجمع أفسس أنهى جدالاً حول الطبيعتين عند المسيح. فأقر أن المسيح هو شخص واحد في طبيعتين. وأن مريم هي أم هذا الشخص الواحد ذو الطبيعة الإلهية والإنسانية, أي أن مريم هي أم شخص ابن الله، فهي حقاً ” والدة الإله “ و لكن طبعاً ليست والدة الثالوث! بل إن حبل مريم العذراء بيسوع المسيح لم ينتج عنه تكوين شخص جديد لم يكن له وجود سابق، كما هي الحال في تكوين سائر البشر، بل تكوين طبيعة بشرية اتخذها الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الموجود أقنومًا منذ الأزل في جوهر إلهي واحد مع الآب والروح.
* مريم الأم الشفيعة والحنونة و لكن ليس في وجه الله “الغاضب و الضارب”
نعم، مع مريم التي تحل العقد نصلي تساعيات، فإننا رأيناها “الدالّة” على يسوع. معها نسير لكي نميّز إرادة الله في شؤون و شجون حياتنا. و لكن لا يمكن و لا هي – الحقيقة – أن تكون هي أرحم من الرب (الحمل الوديع الذي بذل نفسه من أجلنا) !!!
فهي قراءة غير سليمة لأمومة مريم و لطبيعة الله الذي يجمع في شخصه كمال حنان الأب و الأم معاً!!
مريم ليست صورة مسيحية عن آلهة وثنية كأرتميس!
و هنا أهمية فهم حقيقة دور مريم في المسيحية. فهي ليست صدى أقاصيص قديمة تؤله الأمومة في شخصيات وثنية إنما هي حقيقة عذراء قبلت الرب ووثقت به و مشت معه بأمانة… صيّرها أمه في مسيرة خلاصنا و عاد وأعطاناها: أماً تساعدنا و توّلدنا للملكوت السماوي. إن تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني يعبر عن واقع وساطة مريم بوصفها اشتراكاً في وساطة المسيح نفسه المصدر الأوحد للاستشفاع. و نجد في هذه الأم من السند والمعونة ما يربطنا بشكل أوثق بالوسيط والمخلص. ونحن حتماً نفتخر بها و نتخذها مثال و قدوة- لا لنتقي شر إله غضوب وثائر” إنما لنتعرّف على وجهه الحبيب الذي كشفه بإبنه و لم يتراجع في حبه حتى أمام موت الصليب !!
وعليه، كي لا نكون من القائلين ” على الشرّ خيرًا و عن الخير شرًا” يجدر بنا التأكيد أن قراءة متأنية لما قيل في هذه الحلقة ، لا يمكن أن تخلص إلاّ الى أن الأب رمزي جريج لم يقدم ما يناقض تعليم الكنيسة الكاثوليكية ولا الكتاب المقدس! لا بل أن تميّز الكلام يأخذنا الى علاقة أمتن مع مريم و مع الرب!!! قد لا يوافق البعض الأب رمزي في طريقة و كيفية طرحه أو تعبيره عن بعض الأمور أو يخالفه في تشديده على فكرة أنّ التدين الطبيعي أمر سلبي…. و لكن يمكن للجميع أن يتحاور في هذه بشكل أو بآخر، مباشر أو عبر نشر أفكار واضحة في مقالات و صفحات تغذّي العقول لا الأحقاد و تفيد النفوس ولا تطيح بالكرامات !!!
ليس هذا المقال بمعرض دفاع أو هجوم أو دخول في جدال.. و إنما هو دعوة للتروي، للبحث والإصغاء والتفكير قبل التكفير!!