إنّ صورة الله في الإنسان تُدخِل الإنسان في نسيج متعدّد من العلاقات، ينتجُ منه تحديد متعدّد للإنسان: أن يسبّح الله، ويحبّ قريبه، ويعيشَ في العالم ويعتني به، ويقدّر ذاته ويسهرَ على ذاته.
سنرى بعضا من الفقرات التي تعطينا صورةً خاصّة للإنسان كي نستطيع، من خلالها، أن ندخلَ، ولو قليلا ، في سرّ الإنسان.
1 – الإنسانُ هو كائنٌ قائمٌ في علاقة مع الله. لكن، هذه العلاقة لا تُضاف من الخارج وفي ما بعد إلى الكيان الإنسانيّ، بل تـــــُكوّن الإنسان في كلّ كيانه وفي كلّ ما هو عليه. تعني أنّ الإنسان كائنٌ مرتبط بالله في عمق كيانه، وليس نيزكـــــًا سقطَ من السماء، ولا نتيجة تطوّر وإرتقاء من القرود (كما تقول النظريّة الداروينيّة!)ـ هذه نظريّة، ولا زالت فرضيّة. على الرغم من أنّ فيها أمورًا صحيحة من الناحية العلميّة، ولا شكّ فيها طبعًا، إلاّ أن الكنيسة لا يمكنها أن تكونَ مزاجيّة في فهمها للأمور التي ترتبطُ بهكذا مواضيع مهمّة !. فهي، ككنيسة جامعة، وعلى الرغم من أنّ لها مجمعٌ علميّ يتدارسُ هكذا قضايا، إلاّ أنّها لا تنفي، وفي ذات الوقت، لا تقبلَ، في نتائج القضيّة الداروينيّة وفي موضوع التطوّر الإنسانيّ!. فهناكَ، أباءٌ وأساقفة لاهوتيّون وعلماء في ذات الوقت، أعطوا للكنيسة وللعالم نتائجَ إيجابيّة لما درسوه وبحثوا فيه، وأعطونا إيضاحات ٍ لا بأس بها، ولا يمكننا، في هذا الموضوع الآن، أن نقومَ بطرح كلّ ما قالوه ودرسوه واستنتجوه. لربّما في المستقبل نستطيعُ أن ندرسَ هكذا مواضيع في مقالات ٍ أخرى. ليسَ فقط لضيق الوقت، ولكن، في بعض الاحيان، هكذا مواضيع هي مستمرّة ولا ينتهي البحث فيها، وكلّ يوم ٍ وكلّ ساعة ٍ تظهرُ أمور جديدة تدهِشنا وعلينا التوقّف أمامها لإكتشاف سرّ الله وسرّ الإنسان.
لكن، لا بدّ لنا من قول ِ شيء مهمّ في هذا الأمر: مبدئيّا،لا يوجدُ هناكَ شكّ ورفض قاطع لموضوع ” التطوّر“ـ فنحنُ، وعندما أقولُ نحنُ؛ أقصد بها: الكنيسة، نؤمنُ بأنّ الله، الذي بيده كلّ شيءٍ، وله كلّ شيء، وهو ماليء الكلّ بسيادته اللطيفة، الغير متجبّرة والقاسية والمتسلّطة بشكل ٍ فوضويّ، هو ذاته، وضعَ في العالم وفي الكون وفي الإنسان وفي الحياة البشريّة، منذُ أوّل خليّة حيّة، بذورَ روح ٍ حيّة تنمو بشكل ٍ رهيب وعجيب. لا بطريقة الصدفة المحض، ولا الطبيعة المحض، لأن الطبيعة ، هي أيضا، من خلق الله ولم تأت ِ من الفوضى واللاشيء! فكلّ شيء هو مرتّب ومنظّم بشكل فائق لا يوصَف. الله ذاته، وضع في صميم الحياة، وفي أوّل خلية وبذرة، روحه لكي تنمو وتتطوّر وتسيرُ إلى أن تصلَ إلى الملء العجيبْ. فكما قلنا سابقا، إن موقف الإنسان الحقيقيّ والخاصّ، وقوّته وصورته، لا ينتجُ من مشابهته للحيوان أو القرود! بل من مشابهته لما هو أعلى منه، أي الله. ليس هذا فحسب، لا بدّ لنا من قول ِ أمر مهمّ آخر، قد يقع به الكثيرونَ اليوم: إنّ نصّ الخلق في الكتاب المقدس، لا يمكننا أن نقرأه بشكل ٍ ” توفيقيّ “، بمعنى: أنّ هناكَ تعارض بين العلم والإيمان! فلقد سبق ودحض توما الأكوينيّ هذا قائلا: ” إن نشأة العالم موضوعٌ إيمانيّ ولكنّه ليس موضوعًا خاضعا للبرهان أو العلم “. فلقراءة نصوص الخلق، علينا أن لا نذهبَ بعيدًا في فهمنا له، ونكونَ مثل هذا الشخص الذي يريدُ عمل توفيقية بين ما يقرأءه في الكتاب المقدس، وبين ما يقوله العلمُ!
لعلم الإنثروبولجيا المسيحية كلامٌ في هذا الشأن: ” إنّ نظريّة التطوّر الماديّ الطبيعيّ من الجماد إلى الإنسان مرورًا بالحيوان، لا تتنافى إطلاقا وتدخّل الله في خلق الإنسان، إذ إنه (الله) ” نفخ في أنفه نسمة حياة ” (تك 2 : 7)، أي منحه الروح، ذلك بأنّ الإنسان مكوّن من عنصرين اثنين : العنصر الماديّ (ولا مانعَ من أن ترتبطَ بنظريّة التطوّر)، والعنصر الروحيّ (وهو يخصّ تدخّل الله المباشر). فلا يتعارض خلق الإنسان مع قبول هذا الجانب من نظريّة التطوّر، لأنّ هذه تشرحُ جانبًا واحدًا فقط من جانبي الحقيقة البشريّة، ولا يحقّ لها أن تقول كلمة في الجانب الآخر، أي الجانب الروحيّ، وهو من صنع الله الذي أعطى الصورة الحقيقيّة للإنسان. الأعلى يشرحُ الأسفل لا العكس. أي ، إنّ الإنسان، الذي هو على صورة الله، بالعقل والحبّ والحريّة، هو الذي يعطي ويضفي معنىً على الإنسان جسدًا من أصل تطوريّ. هذا الأمرُ، يبيّن لنا، كيف أنّ نصوص خلق الإنسان أتت في اليوم السادس، بعد خلق الكواكب والشمس والنباتات والحيوان .
الإنسان كائنٌ يلائم الله، ويمكنُ الله أن يخاطبه. لأنّ الله خلقَ بالكلمة، وهو ناطقٌ، وجُعِل الإنسانُ أيضا كائنٌ ناطق، ومتكلّم. بإستطاعة الإنسان أن ينسى علاقته بالله، وأن يرفضها، ويشوّهها، لكنّه لا يستطيعُ أن يُزيلها ويجعلَ من الله غير محبّ. حياة الإنسان كلّها هي سؤال عن الله وسعيٌ له. هذا هو قِوامُ عظمته وكرامته وحريّــــــــــــــته.
2 – علاقة الإنسان بالله ومشاركته إيّـــــاه تنعكسان في كيان الإنسان الإجتماعيّ.
الإنسان لا يمكنه أن يعيشَ وحده. فإن شخصيّته لا تتكوّن إلا من خلال الإتصال مع العالم ومع مَن هم حوله. فإن حصلَ وأضحى وحده، أي كائن منعزل، فإنه يصبحُ فردًا أو مجرّد ذرّة وليس علاقة! . بينما الإنسان، في عمق طبيعته، هو كائن إجتماعيّ لا يستطيعُ أن يحيا ولا أن ينمّي مواهبه إذا لم يكن له علاقاتٌ بالغير. أبسطُ مثال نستطيع أن نأخذه، هذا الشاب النشط ذوو المواهب الرائعة والراقية، المُبدِع، فإنّ أبقيناه لوحده من دون أن يطوّر مواهبه ووزناته في مكان ٍ ما، ومن دون أن ينظرَ إليه أحدٌ لكي يحتويه، فهو سينعزلُ ويصابُ بالوحدة والكبتْ، وتغدو مواهبه وطاقاته حبرًا على ورق فقط، أو حلمًا يتمنّى ولو يتحقّق في يوم ٍ من الأيّام. فهذا الشاب، بالرغم ِ من طاقاته ومواهبة غير المكتَشفة من قبل الآخرين، سيكونُ عرضة ً للشعور بالكبت والحزن.
أوّل دليل ٍ على أنّ الإنسان هو ” كائن إجتماعــــــيّ” ، هو أنّ الله خلق الإنسان رجلا وامرأة، علاقة لتَشارُك ِ الأشخاص. وكلاهما، في تمايزهما، صورة الله على حدّ سواء. وهذا هو الإمتحانُ الصعب : ” إمتحـــــــــــان الإختلاف وسرّ التمايُز “. وحبّهما المتبادل هو خدمة للحياة. في إتحاد الرجل والمرأة يُتاح للإنسان مشاركة الله في الخلق : ” وباركهم الله وقالَ لهم : أنموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها ” (تك 1 : 28) . فمـــــهمّة خدمة الحياة هذه على الأزواج أن يقوموا بها، كما يقتضي ذلك كيانُ الحبّ عينه، بمسؤوليّة شخصيّة وإنسانيّة ومسيحيّة، كلاهما أمام الله وكلّ منهما أمام الآخر.
3 – الإنسان كائن قائم إزاء سائر الخليقة
ثمّ إنّه، من خلال وضعه الخاصّ والمميّز الذي أعطاه الله له (العقل – الحبّ – الحريّة)، هو كائنٌ قائمٌ إزاءَ سائر الخليقة. فعليه وله أن يستخدم سائر المخلوقات وينعمَ بها. ولكنّ سيادتـــــــــه على العالم لا تعني الحريّة في إستغلال الطبيعة إستغلالا اعتباطيـــــــــّا وأنانيـــــــــّا، بل يتضمّن عناية بالحياة ومسؤوليّة تجاهها. يرى الكتاب المقدّس تحقيقا لسيادة الإنسان على العالم في أنّ الإنسان هو الذي ” يُسمّي ” الأشياء والعالم ( تك 2 : 19 – 20). من خلال هذه التسمية يعترف الإنسان بالأشياء والحيوانات كما هي عليه، وبذلك يقودها إلى ما هي عليه. فالخلائق الأخرى لها أيضا قيمتُها ونواميسها التي وضعها الله لها، وعلى الإنسان أن يحترمها، إذا أراد ألاّ يدمّرَ العالم الذي يعيشُ فيه. فالإحترامُ هو جزءٌ من فهمنا للحريــــــــــّة !
4 – الإنسانُ كائنٌ قائمٌ في علاقة ٍ مع ذاته
يتكلّم الكتاب المقدّس في هذا المضمارُ عن قلب الإنسان. هذا التعبير لا يعني عضوًا جسديّا مركزيّا وحسب (أي لا يعني هذه العضلة اللحميّة)؛ القلبُ الجسديّ هو بالحريّ رمزٌ للمركز الشخصيّ للإنسان. إنه باطنُ الإنسان، حيث يستطيع الإنسان أن يدرك الله، ويطيعه، وأيضا أن يرفضه ( لكن هذا الرفض هو ، ظاهريّا، يُعتبَر حريّة، لكنّه، وعلى المدى البعيد، سيولّد ويخلق مشكلات ٍ في الإنسان وفي علاقاته مع العالم ومع ذاته، لأنه سيضعُ ذاته في المركز، وسيكون هو المحور وليس الله). القلبُ هو الذات، هو شخصُ الإنسان. الشخصيّة تعني، أنّ الإنسان، لدى كل إنفتاح ٍ منه على الله (الوجود المفتوح) وعلى الناس والعالم وفي انفتاحِه هذا، إنـــــّما يتحرّك من داخل ذاته، بحيث يملك في ذاته قيمته الخاصّة ويحملُ هو نفسه مسؤوليّة عمله. فيُدرِك أنّ أصله ومحوره ليسا هما المحصّلة النهائيّة والغاية، بل إنّ الله، عندما يتركُ الإنسانَ الساحة له، سيكونُ هو الكاشف لشخصيّته الكامنة ويكتشفُ من خلال هذه العمليّة حقيقة العمل الإلهيّ في العالم، والتدبير الخلاصيّ الأزليّ!
يتبع