Désert, Pixabay CC0 - Ljvdbos0

القليلُ من اللاشيء، أفضلُ من اللاشيء المطلق!

الحلقة الثامنة

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

كتب عمّانويل مونييه في كتابه : ” مدخل إلى المذاهب الوجوديّة“، يقول: ” من غير المعقول أن يكون كلّ شيء غير معقول ” . لعلّ الشعور بالعدم ليس سوى في الظاهر، لأنّ كومــــــة التراب هذه، التي تشكّل كياني، وهي الآن هنا، فيها حياةٌ وتقيمُ في قلب العالم، وهي تشعرُ بكلّ هذا اليأسَ، لعلّ هذا الشعـــــــور لا شيء، أو أقربُ إلى اللاشيء!. لكن، أليسَ هذا  ” ألقليلَ من اللاشيء”، أفضل من الـــــ لا شيءَ المُطلق؟ فإن كنتُ في الوجـــــــود أحسنُ من ” اللاشيء” المطلقْ. وإن كنتُ هذا القليل، حتى وإن كان بائـــــــسا، لكن مع ذلك، أجدُ في ذاتي من القوّة الكافية كي أتأمّـــل وأرجوا وأشعر أنّ في ما وراءَ الحدود سرٌّ يجعلني موجودًا.

هذا الشيءُ القليل كـــ ” ذرّة الرمل “، لا يأسَ لديه، بل يشعر أنّ فيه حياة وهو يريد أن يفهم. وبرغم بساطـــــة الوسائــــل لديه، فهو يشعر أنه إنسان. أليسَ هذا عظيـــــمًا؟ لا نُهلــــهِل بإنتصارنا فرحين، إذ أننا سرعانَ ما نصاب بالخيبة، ففي تلك اللحظة يحدثُ أمرٌ غريبْ؛ ستتحوّل معارفنا المسكينة الفقيرة إلى سجــــــــــن ٍ لنا، لمــــاذا؟ لأنّ الإنسان المُــــفكّر الفاعل، الذي فينا، يفلتُ دائمًا من سيطرة عقلنا، فنفقد إمكانيّة الدخول في التعاريف التي انتجناها نحنُ. فعندما نقولُ إننا ” نـــنتج ” ، نعني أننا في أصل الفعل، نُنتِجَه  – نفعله. وهذا خطر، إذ لا يمكنُ أن نمسكَ بالفعل كما لا يمكن للحيّــــة أن تتغذّى إذا أكــلت ذيلها. الأصلُ هو الذي يتجدّد، والفعلُ هو الذي يتغيّــــر في الحاضر، والإنسانُ الحيّ المفكّر هو الذي يغيّر العالم. ولكنه لا يستطيعُ أن يغيّر نفسه، ولا أن يفكّر في نفسه، ولا أن يتجاوَزها فيعبرَ إلى الـــــ ” ما وراء “، لا يقدرُ أن يمتحنَ نفسه عندما يجد نفسه تفكّر كما قالَ ديكارت : ” أنا أفكّر، فإذن أنا موجود “.

عارضَ الفيلسوف عمّانوئيل كانط هذا الطرح وانطلقَ من منطق ٍ خاصّ به، فتساءل:

– ماذا يمكنني أن أعرف؟

– ماذا يمكنني أن أفعل؟

– هل يحق لي أن أرجو؟

– ما هو الإنسان؟

– ما هي وسائل المعرفة وما هي الرغبة؟

– وهل هنالكَ طريق، وإلى أين يقود هذا الطريق، وما محطّاته؟

لنحاولَ أن نأخذ موقفـــــًا من كلّ هذه التساؤلات :

كان دأب الإنثروبولوجيا (علم الإنسان – العلوم الإنسانيّة) دائمًا أن تجابه خطر تصغير الإنسان واعتباره مجرّد شيء. فالكائن البشريّ دائمًا أكبرُ من كلّ ما يمكن أن نقولَ عنه: هناكَ شرط أساسيّ لنتمكّن من قول هذا الكلام، بحيث لا نقارن الإنسان بأيّ شيء من الأشياء، ولا نحاول فهمه إنطلاقا من الأشياء فقط، فما هو الإنسان في كيانه إذن، يقعُ في ما وراء كلّ وصف. ولكي نفهمَ، يجبُ أن نلجأ إلى فـــكرة نسمّيها ” المشروع“. ما هي يا ترى هذه الفكرة؟!

الإنسان يسقط صورة تخيّل على ما لا يظهرُ في الواقع، لكنه يريدُ أن يعرف. فالفلسفة لا تتجـــــاهل عالم المادّة العاديّة، بالعكس، تفكّر إنطلاقا من هذا العالم، والتفكيرُ ليس حُلـــــما ولا هَربــــًا. فالفلسفة ” مجرّد محاولة ” كما يقول لا كروا : أي إنها تغيّر الحدث إلى خبرة، أي إنها تعطي معنىً للأحداث وتقرّبها إلى ذاتها كي تفهم. ولكن، الفلسفة تطرحُ أيضا تساؤلات خاصة بها، فإن كانت العلوم تشرح الحوادث أو الظواهر في العالم (كيف؟)، ولكن الفلسفة هي الوحيدة التي تطرح مسألة القيم والحُريّة والوجود والموت (لماذا؟). يفكر الإنسان في نفسه، وفي العالم، وفي المكان الذي يحتلّه، أي يفكّر في معرفته، في معنى حياته. لذا، يذكر الفيلسوف لا يبنتز بأنّ السؤالَ الأساس هو : لماذا يوجدُ شيء ما، ولا يوجد اللاشيء؟. وبدون أن ندخل إلى العمق، من الأن، يمكن أن نتوقّف قليلا حول السؤال الذي طرحه الشاعر إيليّا أبو ماضي عندما كرّر : أنا لا أعلم شيئا عن حياتي الماضية، لست أدري لماذا أنا على الأرض. يتبع

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير