رأينا في الجزأين الأوّل والثاني، بعض معلومات حول روايات طفولة يسوع، من الناحتين التاريخية والأدبيّة. وأريدُ فقط التذكير- كما قلتُ سابقا في الجزء الأوّل من الموضوع – أنّ هناكَ مفاتيحَ للقراءة استخدمها الإنجيلي متّى (خاصّة)، في الفصلين الأوّلين منه، اللذان يعتبران الفصلان المُحيّران للفكر المعاصِر. يعطينا هذه المفاتيح مفسّرا بيبليّا مختصّا في الكتاب المقدّس وهو كلود تاسان:
1 – الطفل ” يسوع ” ليس سوى حـــــجة. فالمقصود هو تقديمُ صورة (ايقونـــــة) عن المسيح كما أعلنه، أوّلا، أنبياء العهد القديم، وكما أُعلنَ، آخرًا، ربّ المسيحيّين.
2- من جهة، تعجّ روايات متى (1 – 2) بتلميـــــحات ٍ إلى شخوص العهد القديم، ليس إنطلاقا من النصوص البيبليّة حسب، بل أيضا إنطلاقا من تفسيرات لهذه النصوص كانت متداولة في مجامع القرن الأوّل : فيـــــسوع، منذ اصوله الآولى، يمنـــــــــــــحُ الأســــفار المقدّســـــــــــــة معنىً، كونه يُكمّــــــلها : تلك هي رؤية الإنجيليّ.
3 – ومن جهة أخرى، جعلَ متى من هذين الفصلين ” إنـــجيلا مصغّرا “؛ ذلك أنّ مصير المسيح ملخّص فيها بشكل رمزيّ: رفض سلطات أورشليم ليسوع، وإقبالُ الوثنيّين إلى الإيمان المسيحيّ. ويقترحُ عددٌ من الاختصاصيّين تقسيمَ فصلي الطفولة إلى وجهتين : الآولى (الفصل 1 : النسب، حلمُ يوسف) تجيب على السؤال : مَن هو يسوع؟. والثانية (الفصل 2 : الولادة في بيت لحم، الإقامة في مصر، السكنى الناصرة) تجيب على السؤال الآخر: مِن أين هو يسوع؟ . ومثلُ هذه القسمة تبدو عمليّــــــة، في الأقلّ، وتشمل سؤالا أكثر أهميّة: كيفَ العمل للتأكيد، عبر نسيج البدايات، بأنّ يسوع هو مسيح اليهود المزمع أو يكون له إشعاعٌ شامل؟ ومتى ما أعتُمِدتْ هذه الرواية، فبوســـــــع النصّ أن يتجزأ بشكل طبيعيّ إلى مشاهد ستّة. لكننا سوف لن ندخل في دراسة المشاهد كلّها، بل فقط، لضيق الوقت، ولسعة الدراسات، سنتاول فقط: النسب، بشارة مريم ويوسف، ولادة يسوع (متى ولوقا)، مشهد المجوس وسجودهم للطفل، النجم، الحبل البتوليّ، الهرب إلى مصر.
نسب يسوع
لا بدّ من ملاحظة أوّلا، أنّ فصل نسب يسوع في إنجيل متّى، لا يهدف إلى إعطائنا نسبَ يسوع فقط. فالنصّ يبدأ بهذه العبارة: ” نسبُ (أو كتاب تكوين) يسوع المسيح، ابن داود، ابن ابراهيم ” ( متى 1 : 1 ). أنّ مثل هذه العبارة لا توجد إلاّ في سفر التكوين ( 5 : 1) من الكتاب المقدّس : ” هذا كتاب مواليد آدم، وفي (2 : 4) بشأن السماء والأرض : ” هذه مبادئ السماوات والأرض “. وقد قامَ عددٌ من النقّاد بالمقابلــــــــة بين هذين النصّين ومطلع إنجيل متّى. وهذه المقابلة ليست مجرّد مصـــــــــادفة، كما أنّ المقابلة بين يوحنا ( 1 : 1) ” في البدء كان الكلمة ….” ، وبين التكوين ( 1 : 1) ” في البدء خلق الله ….. “، ليست مجرّد مصادفة.
ونتيجةَ ذلك، أنّ متّى يضعُ في خطّين متوازيين خلقَ آدمَ وتجسّد الكلمة. فهو يركّز على حدث التجسّد، والتجسّد يعتبر خلقَ بشريّة جديدة وتكرارًا للخلق الأوّل. ويتّضح من ذلك، أنه كما أنّ خــــــلقَ آدم هو عملٌ إلهيّ، كذلك خــــلقَ آدم الجديد هو عملٌ إلهيّ. وهذه الموازاة بين العملين، كما يقولُ الكاردينال دانييلو، تنطوي على إثبــــــات الحَبــــــل البتولـــــيّ.
يقولُ المفسّر البيبليّ كلود تاسان، يُفتَتَح الإنجيل، على غرار مقدّمة فيلم، بلائــــــــحة نسب تُضجر القارئ العصريّ! أمّا بالنسبة إلى الشرقيّين القدامى، فبالعكس، كانت للأنساب ِ أهميّة كُبرى: إنها تحلّ محلّ السجل المدنيّ، إذ تُدرِج شخصــــــــــًا في النسيج التاريخيّ والإجتماعيّ. من جهة أخرى، كانت الأنساب تسعى إلى أن ترقى في الزمن، قدر المستطاع، ولكن أيضا إلى حيثُ يراد لها أن ترقى: إلى ذلك الجدّ الذي يُطالب بالميرات، على سبيل المثال. وفي الحالة التي نحن بصددها الآن، يرقى متّى إلى إبراهيم، مشيرًا إلى أنّ يسوعَ ينتمي كليّا إلى إسرائيل، وأنه من نسل الجدّ المشترك. ونعلمُ أنّ إبراهيم قد وُعِد، في نسله، ببركـــــــة الله التي ستشملُ كلّ الأمم (تكوين 12 : 3)؛ وهكذا، عبر اسم أبي الآباء، ترتسمُ السمة الشموليّة لرسالة يسوع. فضلا عن أنّ هذه الآية الآولى تسبقُ اسم شخصيّة أخرى : داود. ذلك أنّ المسيح (الممسوح)، بالنسبة إلى اليهود، يجبُ أن يكونَ من نسل الملك داود؛ ويسوع، في إيمان المسيحيّين الآوّلين، هو من نسل داود بحسب الجسد.
ويعطينا المفسّر الفرنسي تاسان بعض مفاتيح لقراءة النسب :
1 – تُقرأ الآية 1 حرفيّا بهذا الشكل : ” كتابُ تكويـــــن( = أصلُ) يسوع، المسيح، ابن ابراهيم، ابن داود”. وبالنسبة إلى المسيحيّين الأوّلين الناطقين باليونانية، كانت عبارة ” كتابُ تكوين” مألــــــــــوفة لديهم، وهي عنوان السفر الأوّل من الكتاب المقدّس الذي يحكي قـــصّة الخلقة. ففي يسوع، إذن، يُلخّص كلّ التاريخ الماضي، منذ الخلقة. والأفضل أن نقولَ بأنّ المسيح يعطي معنىً للخلقة؛ ففي شخصه يبدأ تاريخ جديد للعالم.
2- الهدف من الألحاح على هذه النقطة، هو التأكيدُ على أنّ سلالة يسوع تقترنُ بمراحل التاريخ البيبليّ الكبرى. ومن هنا جاء التقسيم إلى ثلاثِ حقبات، شدّد عليها متّى حينَ أجرى حساباته في الآية 17: حقبة الآباء (آية 2 – 6)، حقبة الملوك حتى الجلاء، ( آية 12 – 16). وكلّ الجدود الذين نُسبوا إلى يسوع هم من سلالة ملكيّة، كما يليقُ بالمسيح، حتى وإن كان جدود الحقـــــبة الأخيرة شبه مجهولين إذ إن النظام الملكيّ كان قد زالَ في إسرائيل.
3- جدول الضرب يقدّم، هو أيضا، معلومات : فالرقم 42 هو ناتجُ 6×7 أو 3×14 ! ذلك أنّ الإنجيليّ، في الآية 17 من الأصحاح الأوّل من إنجيل متّى، يحصي 3 x 14 جيلا. وهذا يعني أن كلا من الحقبات البيبلية الثلاث يعكس ضعف الرقم الكامل من سبعة أجيال، وهو الرقم الذي كان يطيبُ للمؤلّفين اليهود القدامى أن يقسّــــموا إليه تاريخ العالم. ومهما يكن، فإنّ مجرّد عمـــليّة ” حساب ” في صفحات التاريخ، يعني الرغـــبة في البحث عن فكرة تنظّم الأحداث. وهكذا أيضا، حين أدخِلت هذه الرموز الرقميّة في سلالة المسيح، فالمقصود منها أنّ الله هو الذي وجــّه التاريــــــــخ، من أجل مجيء مسيحه.
4 – الأنسابُ القديمة، من دون أن تتناسى النساء، هي في مجملها ذكوريــــــــــــّة. ونرى أنّ الآية 6 تشكّل ” إنـــحرافــــًا ” في النسبْ: ذلك أنّ عبارة ” فلان ولد فلان” التي ألفتها الأذن، توقّفت مع يوسف ” زوج مريم التي ولد منها يسوع، وهو الذي يقال له المسيح”، وهكذا يبلغُ النسب هدفه: تبيـــــــانُ أنّ يسوع هـــــــو حقــــــًا المسيح، عبر السلالة الداوديّة. ولكن، هذا النسب ذاته يكشفُ عن حدوده: ذلك أنّ يسوعَ لا ينتمي إلى سلالة داود عبر الإنــــــجابَ الذكوريّ – ومريم ذاتها لم تكن ولا شكّ من هذه السلالة، وإلاّ لما اضطرّ الإنجيليّ إلى مثل هذا الإلتواء الذي سيتوجب عليه تفسيره في المقطع الذي يلي.
يتبعْ النقطة الخامسة: لماذا هناكَ أربعُ نسوة في النسبْ؟!