ذكرنا في خاتمة الجزء الثالث من دراستنا عن طفولة يسوع _ النسب، أنّ هناك أربعةَ نساء ٍ في نسب المسيح، لماذا ذكرهم الإنجيليّ، وما الهدف من ذلك، وهل هناكَ تشكيكٌ بأنّ سلالةيسوع الناصريّ، التي جاءَ منها، هي خاطئة، كما نسمعُ مرارًا وتكرارًا؟؟
ما عدا مريم، هناكَ أسماء أربع نساء تسلّلن إلى النسب: تامار، وكان عليها أن تستسلم للزنى كي تحصل على الذريّة التي تحقّ لها ( تكوين 38)؛ وهذه المرأة، بحسب بعض التقاليد اليهوديّة، هي غريبة اهتدت إلى الإله الحقّ. راحاب، وهي الأخرى زانية كنعانــــيّة أدخِلَت في الشعب الإسرائيليّ (راجع يشوع 2 : 1 – 21 ، 6 : 22 – 25). راعوث، جدّة داود، وكانت هي الأخرى غريبةٌ، موآبية، مثالا للتقوى والفضيلة (راجع راعوث: 1 : 16 ، 3 : 10). ” إمرأة أوريّا “، بتشابع زوجة رجلٌ حثّي غريب، وقد أصبحت زوجة داود عقب الخطايا الجسيمة التي أقترفتها (2 صموئيل 11 – 12).
لعلّ القارئ الكريم الآن، الذي له درايةٌ سطحيّة بالكتاب المقدس وباللاهوت وبالإسلوب المنهجيّ الدراسي، يتشكّك ويصطدمُ في موضوع الخطايا الكثيرة المتواردة في الكتاب المقدّس من زنا وفحشاء وما غير ذلك! . لا يجبُ أن نصطدمَ ونشك في ذلك، لأن الزمان الذي نعيشُ فيه الآن، في عالمنا المعاصر اليوم، ليسَ أجملَ وأفضل وأروع من زمان الكتاب المقدّس وزمان الآنبياء ! فكلّ الوقائع والأحداث، وبصورة عامّة، التاريخ القديم، هو صورةٌ واقعنا البشع، وصورة عالمنا الناقص غير المكتملْ. من الطبيعيّ جدّا أن نرى هذا الأمر وعلينا، إن كنّا منطقيّين وواقعيّين ومنفتحين أكثر، أن نقبلَ به بكلّ أريحيّة ومنهجيّة.
على كلّ حال، كان بوسع متّى الإنجيليّ أن يختارَ ” جــــدّات ” إسرائيليّات لا غشّ فيهنّ، كسارة أو رفقة. وحين آثرَ أولاء النساء شبه الغريبات، قد يكون فكّــــر في ” التضـــــامن ” المُقبل الذي سيُنجزه المسيح مع العــــــالــــم الوثـــــنيّ. على مثال تلك الكنعانيّة التي جاءت تستغيثُ به ( متى 15 : 21 – 28). ولكن الأهمّ، هو أنّ التقاليد المتداولة، في مجامع القرن الأوّل، كانت تعتبرُ أولاء النساء قدّيسات. فما كان في ظاهره ” خطيئة ” لديهنّ، كان بسبب ظروف تدخّلت فيها عناية الله: ” هذا من عند الله “! قالها التقليدُ بخصوص تامار. وبعبارات أخرى، يكونُ الله قد تدخّــــل، عبر ظروف غير شرعيّة، كي يؤمّن سلالة مسيحِه. وأولاء النساء اللواتي، بحسب التقليد، قادهنّ الروح القدس، أصبحن من ثمّ نموذجًا لمريم في نقطة واحدة: فهي أيضا، وإن لا تنتمي إلى سلالة داود، فقد كانت موضع اختيار ٍ من قبل الله، لتلد، بشكل منتَظَر، ابنا لداود.
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر، إنّ ذكرهنّ قد يعني أنّ يسوعَ حمل الخطايا، ومعها خطيئة العالم، وأنّ رسالــــــته تعني تبـــــريرَ الخطأة. إلا أنه لا يمكنُ أن يكون ذلك هو الناحية الحاسمة للإختيار، بالاخصّ أنه لا يطبّق على النساء الأربع. الواقع الأهم، بالنسبة للبابا، هو أنّ أيـــــّا من تلك النساء لم تكن يهوديّة. فمن خلالهنّ إذا يدخلُ عالمُ الأمم في نسَب يسوع – وتتوضّح رسالته باتجاه اليهود والأمم.
يبقى أنّ النسبَ مهم، فيوسف هو، شرعا، والدُ يسوع. بواسطته، ينتمي يسوع بحسب الشريعة، ” قانونيــــّا “، إلى عشيرة داود. إلاّ أنه يأتي من مكان آخر،” من فوق ” – من عند الله نفسه. إنّ سرّ ” من أين يأتي ؟”، سرّ الأصل المزدوج يُعرَض علينا بطريقة واقعيّة للغاية: يمكن إثـــــبات أصله، إلاّ أنه مع ذلك سرّ. الله وحده هو، بالمعنى الحقيقيّ، أبوه.
كـــــ خاتمة لموضوع النسبْ، يقول البابا بنديكتوس السادس عشر، لخصّ يوحنا الإنجيليّ المعنى الأكثر رسوخــــًا للأنساب، وعلّمنا أن نفهمها أيضا كشرح ٍ لأصلِنا بالذات، لــــ ” نسَبِنا ” الحقيقيّ. وبما أنّ الأنساب تتوقّف في النهاية، لأن يسوع لم يلده يوسف لكنه وُلد حقا من العذراء مريم بواسطة الروح القدس، بالطريقة نفسها، يسري ذلك الآن أيضا علينا نحنُ : ” نسبنا ” الحقيقيّ هو الإيمان بيسوع، الذي يمنـــــحنا أصلا جديدًا، ويجعلنا نولد ” من الله “.