Monk prayer solitude

Josealbafotos - pixabay - cc0

أمانةٌ للتعليم هي، أَم هستيريا التديّن؟

ما رأي الكنيسة بهذا الموضوع؟

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry
– مقدّمة
بادئ بدءٍ أودّ التأكيد على أنني لست بوارد الردّ على أحد، فلا أهوى النزول إلى هذا المستوى من الذمّ، خاصّةً وأنّ غالبيّة المهاجمين لا يمتلكون أيّ خلفيّة علميّة أو لاهوتيّة. كما وإنّني لست بوارد الدفاع عن أخٍ لي بالكهنوت لأنّ تعليم الكنيسة ووثائقها كفيلة هي بالردّ والدفاع، هذا إن قبل هؤلاء الموتورون، كهنةً وعلمانيين، التروّي في إطلاق الأحكام جزافًا، وتضليل النفوس ببعض المشاهد المقتطعة من هنا وهناك، والكلّ يعلم أنّ الهروب من الإطار العامّ للحديث المُجتزأ هو جبنٌ، وخوف من سقوط أقنعتهم التي تُظهرهم حملانًا “ولكنّهم من الداخل ذئاب خاطفة” (متى ٧: ١٥).
أمّا وقد قررّت أن أكتب، فهو لتبيان حقيقة ما تعلّم الكنيسة، استنادًا إلى وثائق عديدة أوّلها الكتاب المقدّس، وآخرها المجامع الكنسيّة، وفي مقدّمها المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢-١٩٦٥)، طبعًا دون أن أغفل كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة.
1. في نظرة الكنيسة لمريم
– تعلّم الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ مريم هي مخلوق، ومخلّصة بنعمة المسيح مثلنا. ما قلته جليٌّ في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني في الفصل ٨ من دستور عقائدي في الكنيسة – Lumen Gentium – نور الأمم: “لا يمكن لخليقةٍ أبداً، أن تُوضع على قدم المساواة مع الكلمة المتأنِّس والمخلّص (يسوع). ولكن كما أنّه في كهنوتِ المسيح يشتركُ تحت أشكالٍ شتّى   الخَدَمَةُ والشعب المؤمن، وكما أنَّ صلاحَ الله الواحد يفيض فعلاً على الخلائق بأنواعٍ مختلفة، كذلك وساطة المُخلِّص الفريدة لا تمنع، بل بالأحرى تَحثُّ الخلائق على التعاون المتنوِّع المشترَك، النابع من مصدرٍ واحد. وإنَّ الكنيسةَ لتعترف دون تردُّدٍ بمثلِ هذا الدور الذي تقوم به مريم مرتبطةً بابنها، وإنّها لا تبرح تختبره، كما أنّها لَتنصح قلوب المؤمنين، حتى إذا ما ساعدهم هذا العون الأمومي، أن يتمسَّكوا تمسّكاً أوثق بالوسيط المخلِّص (يسوع) (فقرة ٦٢ من الفصل ٨).
– مريم ثانيًا هي مُخلَّصة بنعمة يسوع المسيح مثل أيّ إنسان آخر. فمن يقول أو يعتقد خلاف ذلك يكون قد خلط الأمر مع عقيدة الحبل بها بلا دنس. ماذا تعني عقيدة الحبل بها بلا دنس؟ “إنّ الطوباوية مريم العذراء حُفظت معصومة من كلّ دنس الخطيئة الأصليّة منذ اللّحظة الأولى من الحبل بها، وذلك بامتياز، ونعمة خاصّة من الله القدير بالنظر إلى استحقاقات يسوع المسيح فادي الجنس البشري”. ”العصمة من الخطيئة الأصليّة كانت لمريم هبة من الله وتدبيراً استثنائياً لم يُعطَ إلاّ لها، ومن هنا تظهر العلّة الفاعلة للحبل بمريم البريئة، فهي من الله القدير، وتظهر أيضاً العلّة الاستحقاقيّة بيسوع المسيح الفادي، والنتيجة هي أن مريم كانت بحاجة إلى الفداء وقد افتديت فعلاً، وهذا نتيجة لأصلها الطبيعيّ، لضرورة الخطيئة الأصليّة، مثل أبناء آدم جميعاً إلا أنّها بتدخل خاص من الله قد وُقيت من دنس الخطيئة الأصليّة، وهكذا افُتديت بنعمة المسيح لكن بصورة أكمل من سائر البشر وكانت العلّة الغائيّة القريبة للحبل بمريم البريئة من الدنس هي أمومتها الإلهيّة”. إذًا، مريم هي بحاجة إلى الخلاص وخُلّصت، لكن بطريقة سامية “فقد فداها المسيح إذًا، ولكن بطريقة الوقاية، المناعة”. بمعنىً آخر، فإنّ حقيقة ولادتها دون الخطيئة الأصليّة، وبعد ذلك لم ترتكب خطيئة، حدث بسبب نعمة مجّانية من يسوع المسيح. وفي الكتاب المقدّس، مريم نفسها تُنشد بكلّ صدقٍ وتعترف أنّها مُخلّصة  “تبتهج روحي بالله مخلصي” (لو ١: ٤٧).
– حياة مريم بأكملها تتّجه نحو الله وتكرّم يسوع. ففي الكتاب المقدّس بعد أن امتلأت أليصابات من الروح القدس، كرّمت مريم عند رؤيتها قائلة: “مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك! فمن أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ؟” (لو ١: ٤٢-٤٣). أمّا مريم فقامت على الفور بتحويل كلّ المجد لله : “تعظّم نفسي الربّ، وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنّه نظر إلى اتّضاع أمته” (لو ١: ٤٦-٤٨). هل يحجب الكتاب المقدّس يسوع عندما يروي قصص المؤمنين؟ بالطبع لا: تُذكّر حياة الرجال والنساء القدّيسين الذين خدموا الله بواسطة نعمة يسوع المسيح وتكريمهم، هو في النهاية وسيلة لتكريم الله. الشيء نفسه ينطبق بشكل خاصّ على مريم، التي هي أفضل وأكمل مثال على الإيمان وأمّ ربّنا يسوع المسيح.
– أمّا إشكاليّة الظهورات، فكيف تقرأها الكنيسة؟ التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة يميّز بين “الوحي العامّ” و”الإيحاءات الفرديّة”، حيث إنّ بين الاثنين فرقٌ في الجوهر لا في الشكل فقط. الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، هو ما يُسمّى بـ “الوحي العامّ”، فمن خلاله عرّف الله بذاته تدريجيًّا للبشر: الأنبياء ومن ثمّ تجسّد الابن… ليوحّد العالم به من خلاله. وذلك ليس تصرّفًا عقليًّا، بل تصرّف حيويّ بامتياز، بحيث إنّ الله تجسّد، ولبس بشريّتنا ليصير قريبًا منّا. لكن بالرغم من أنّه تصرّف حيويّ، إلاّ أنّه يهمّ العقل أيضًا، فنحن بحاجة إلى العقل لنفهم سرّ الله. فتصرّف الله، وعمله في التاريخ يهمّ الإنسان بكليّته، إذًا يهمّ أيضًا عقله، ولكن لا العقل وحده. ولأنّ الله واحد، فالتاريخ الذي عاشه مع الإنسان هو أيضًا واحد (بالرغم من وجود عهدين: قديم وجديد، إلاّ أنّ تاريخ الله مع البشر هو تاريخ واحد) وصل إلى كماله بموت وقيامة يسوع. ففي المسيح قال الله كلّ شيء، وكشف عن ذاته بشكلٍ كامل. بهذا المعنى يقول يوحنا الصليبيّ: “لقد أعطانا الله ابنه، الذي هو كلمته، فلم يعُد لديه كلمة أخرى يعطينا إيّاها. قال لنا كلّ شيء معًا دُفعةً واحدة في هذه الكلمة الواحدة…، لأنّ ما كان يقوله مجزّأً للأنبياء، قاله كلّه كاملاً في ابنه…”. من هنا يمكننا أن نقول -والكلام للكردينال جوزف راتزينغر (البابا بينيديكتس السادس عشر): “كلّ من يريد الآن أن يسأل الله، او يرغب في الحصول على رؤيا أو على وحي، لا يرتكب جنونًا فحسب، بل هو يهين الله…”. بالتالي فإنّ وحي الله الموجّه إلى الإنسان قد اكتمل مع المسيح، وذلك في البيبليا التي تتضمّن هذا الوحي وتفسّره. هل هذا يعني أنّه محكوم على الكنيسة أن تبقى أسيرة الماضي وأن تبقى في دوّامةٍ عقيمة؟ يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة في الفقرة ٦٦ منه: “ولو أنّ الوحي قد اكتمل، فهو لم يتّضح كليًّا، ويبقى على الإيمان المسيحيّ أن يُدرك تدريجيًّا مغزاه على مرّ الأجيال”. هذه الديناميكيّة بين الوحي ومحاولة فهمه، قد عبّر عنها يسوع نفسه عندما ودّع تلاميذه، فقال: “لديّ أمور كثيرة أيضًا أقولها لكم، ولكنّكم لا تقدرون الآن أن تحتملوها. ومتى جاء الروح الحقّ فهو يقود خطاكم في الحقّ كلّه، لأنّه لا يأتيكم بشيء من عنده… وهو سوف يمجّدُني، لأنّه سيأخذ مّما لي ليُنبئكم به” (يوحنا ١٦: ١٢-١٤). فالروح القدس إذًا هو القائد الذي ينهل من كنز يسوع ليُظهر كنزه الخفيّ للكنيسة (المؤمنين). والقدّيس غريغوريوس الكبير وعلى خطاه المجمع الفاتيكاني  الثاني يذكّر أنّ ثلاث طرق أساسيّة ليتحقّق هذا العمل القياديّ للروح في المؤمنين: بواسطة التأمّل والدّرس أوّلاً، بواسطة الفهم العميق الناتج عن الاختبار الروحيّ ثانيًا، بواسطة تبشير أولئك الذين بالتسلسل في الأسقفيّة، نالوا موهبة الحقيقة ثالثًا. في هذا الإطار يُصبح بإمكاننا أن نفهم “الوحي الفرديّ”، حيث ينبغي أن نضع ظهورات العذراء (وهي وحيٌ فرديّ…). وأبدأ بما تعلّمه الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا الصدد في الفقرة ٦٧: “على مرّ الأجيال، كانت إيحاءات تُدعى فرديّة، وبعضها أقرَّت به سلطة الكنيسة… ليس دورها (هذه الإيحاءات)… في أن تُكمِّل وحي المسيح النهائيّ (وحي المسيح ليس ناقصًا لتكمّله)، بل في أن تُساعد على العيش منه بصورةٍ أكمَل في حقبة معيّنة من التاريخ” (الإيحاء الفرديّ يفسّر ما يريده الله في هذه الحقبة لننهل منه كمؤمنين فنحيا). من هذا الكلام نستنتج أنّ الوحي الفرديّ هو مساعد للإيمان، ويكون قابلاً للتصديق لأنّه يُعيدنا إلى الوحي العامّ والنهائيّ. بالتالي، كلّ وحيٍ فرديّ يتعارض مع الوحي العام أي البيبليا، فهو مرفوض من الأساس. واللاّهوتي الفلمندي دانيس، وهو العالم والخبير في موضوع الإيحاءات الفرديّة، يؤكّد أنّ مصادقة الكنيسة على أيّ وحيٍ فرديّ يرتكز على عنصرين اثنين: ألاّ تحوي رسالته شيئًا يناقض الإيمان والأخلاق الحسنة من جهة، وأن يكون نشره شرعيًّا بإذنٍ من الكنيسة من جهةٍ أخرى. المقياس إذًا لصحّة الوحي الفرديّ، إنّما هو توجيهه نحو المسيح نفسه. أمّا عندما يُبعدنا عنه أو عندما يدّعي أنّه يمنح خلاصًا آخر وأفضل وأهمّ من الإنجيل، فحينئذٍ لا يكون من الروح القدس الذي يقودنا داخل الإنجيل لا خارجًا عنه. كما على الوحي الفرديّ أن يكون غذاءً للإيمان والرجاء والمحبّة.
– أمّا حدث البشارة فيُظهر لنا مدى الحريّة التي منحها الثالوث للعذراء. رغم اهتمام الله بها اهتماماً خاصّاً وجيّداً فجعلها بريئة من الخطيئة الأصليّة، إلاّ أنّ هذا لم يمنع الربّ أبداً من احترامه لإرادة وحرية مريم، بحيث إنّها ومن حيث المبدأ لو أرادت أن تقول لا، لقالَت. فالحبّ يتّسم دائماً بالاحترام وبالتقدير لشخصِ وكيان الآخر وهذا ما يتّسم به الله لأنّه محبّة، ولا إكراه في المحبّة.
– أختم كلامي عن مريم بما قاله القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني في معرض حديثه عن المسبحة الورديّة، بحيث يختصر كلّ ما أردت قوله: “إنَّ المسبحة الورديَة، وإن تميّزت بطابعها المريمي، هي صلاة تضع المسيح في المحور، وهي بالرغم من عناصرها الموجزة تجسّد عمق الرسالة الإنجيليّة وتكاد تلخّصها، فإنّ فيها صدىً جديداً لصلاة مريم ونشيدها الدائم “تعظم نفسي الرب” الذي أنشدته لحادث التجسّد الفدائيّ والذي ابتدأ في أحشائها الطاهرة. فمع المسبحة الورديّة يقتدي الشعب المسيحيّ بمثَلِ مريم، ويدَع نفسه يُؤخذ بمشاهدة جمال وجه المسيح وبالخبرة العميقة لحبّه. بمعنى آخر، عندما أصلّي    الورديّة، فأنا لا أصلّي   لمريم، بل مع مريم ليسوع، ماسكًا يدها لتقودني إليه.
2. في إشكاليّة التديّن الطبيعي والإيمان المسيحي
– أعتقد أنّني لو أردت اختزال الفرق بين التديّن الطبيعيّ والإيمان المسيحيّ، لاستطعته بنقاطٍ ثلاث: يقوم التديّن أوّلاً على مبدئيّة بحث الإنسان عن الله، أمّا الإيمان فهو قائمٌ على مجيء الله إلى أرضنا باحثًا عنّا وكاشفًا ذاته لنا. التديّن ثانيًا يرتكز على مجهود الإنسان الشخصيّ من خلال الحفاظ على الفروض الدينيّة والاحتفالات الطقسيّة مبتغيًا الحصول على مغفرة خطاياه، في حين أنّ الإيمان يؤكّد أنّ الخلاص من الخطيئة يُعطى لنا بنعمةٍ مجّانية من حدث موت وقيامة يسوع. التديّن ثالثًا، يفترض أعمالاً صالحة يقوم بها الإنسان لينال رضى الله، بينما الحياة الجديدة هي ثمرة الصليب والقيامة لا ثمرة من ثمار المجهود البشريّ الشخصيّ، والحياة الجديدة هذه، هي التي تمكّنه من العمل الصالح. نستنتج ممّا سبق، أنّ الإيمان المسيحيّ والتديّن هما على طرفي نقيض. لذلك، وفي عظته على الجبل (متى ٥)، يحذّرنا يسوع من الوقوع في فخّ التديّن فنصير مجرّد متديّنين مسيحييّن، بهذا المعنى قال: “ليس من يقول لي يا ربّ، يا ربّ يدخل ملكوت السماوات” (متى ٧: ٢١)، وقال أيضًا “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا ربّ يا ربّ أَليس باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوّات عظيمة؟! حينئذ أجيبهم: إنّي لم أعرفكم قطّ، إذهبوا عنّي   يا فاعلي الإثم” (متى ٧: ٢٢-٢٣).
– من هم المسيحيّون المتديّنون؟ هم ناسٌ يؤمنون بالله الآب، وبابنه يسوع وروحه القدّوس، يؤمنون بالصليب والقيامة والكتاب المقدّس، ويجهدون في التزامهم بممارسة العبادات، والاحتفالات الطقسيّة الخ… هؤلاء يؤمنون بالله ويعبدونه، دون الدخول بعلاقة حقيقيّة وناضجةٍ معه، كثمرةٍ من ثمار امتلاكه لتلك الحياة الجديدة، التي تجسّد يسوع ومات وقام لكي يهبها لمن يقبله ويؤمن به. هؤلاء لا يؤمنون بالله كشخصٍ فهموا حبّه واستقبلوه في قلوبهم، بل يؤمنون به “قوّة” موجودة، هم بأمسّ الحاجة إليها. لا همّ لهم غير تنفيذ أوامرها لتقف إلى جانبهم وتحميهم من جهة، وتكفّ غضبها عنهم من جهةٍ أخرى. جلّ ما يريدونه هو جيب الله ويده (أن يعطيهم ويحميهم) لا وجهه وقلبه، هؤلاء من قال عنهم النبيّ “هذا الشعب يكرمني بشفتيه أمّا قلبه فبعيدٌ عنّي”. هم دائمًا يتوهّمون أنّهم يقومون بأعمالٍ صالحة مرضية لله، ولا يعترفون بفسادهم وعجزهم، وإن قالوا يومًا بضعفهم، فهذا أيضًا من باب التكابر ليمدحهم الناس، فيطوّبونهم على اتّضاعهم. إثباتًا لذلك، هم يرفضون الدخول بتفصيل خطيئتهم، سهل عليهم القول “أنا خاطئ” أو “نحن خطأة”، ولكن صعبٌ عليهم القول “أنا كاذب”، “أنا حاقد”، “أنا زاني”… لأنّ ذلك يحطّم لهم كبرياءهم ويجلب لهم العار. هؤلاء لا يهمّهم ما تعلّم الكنيسة، ولا ما يقوله الكتاب المقدّس… همّهم يقتصر على تنفيذ أوامر كاهنٍ أو خادمٍ في الكنيسة، هكذا يستشعرون حجم نجاحهم ورضى الله عنهم. وإلاّ ما معنى هذه الجماعات التي تلهث وراء كاهن أينما حلّ، فيصبح لها هو المرجع، ومقياس صحّة التعليم، لا الكتاب ولا الكنيسة. هؤلاء لا يعرفون شيئًا عن الفرح الروحيّ الناتج عن العلاقة الصحيحة مع الله، ففرحهم هو نتاج إشباع غريزتهم الدينيّة من جهة، لكونهم يخرجون مسرورين لأنّهم أزاحوا حملاً عن كاهلهم لمجرّد أنّهم أدّوا ما عليهم. أو هي متعة النشوة الدينيّة من جهة ثانية، وهي ثمرة العبادة الجماعيّة بمختلف أشكالها، بفعل الطقوس وأسرارها، أو الموسيقى وآثارها. بكلمة أخرى، إنّ عبادتهم هذه، هي مجرّد امتدادٍ لعبادات الفراعنة وتسبيحات كهنة أمون أو ترانيم أخناتون تحت مسمّياتٍ وأشكالٍ مسيحيّة.
3. في وقائع حلقة الأب رمزي جريج عن مريم
– يا ليت شعبنا يمتلك القليل من الحسّ النقديّ  لكان شاهد الحلقة كاملة قبل الحكم جزافًا. أمّا وهذا الحسّ النقديَ غائبٌ، أراني مرغمًا وباختصار إلى تفنيد ما قال الأب جريج علّني أستفز من يقرأ لمشاهدة الحلقة.
– أقسّم الحلقة إلى ثلاثة: أوّلاً وبعد استمزاج رأي الناس في الشارع عن دور مريم في حياتهم ونظرتهم لها، تحدّث الأب رمزي عن علاقة الشعوب الوثنيّة بالأمومة فهي بنظرهم الأطهر والأشرف والأحنّ… مقابل صورة الأب الديّان والقاسي… وهذا ليس استنتاجًا في معرض دفاعي عنه، بل هذا ما صرّح به هو بوضوح في ردّه على مداخلة أحد المشاركين في الحلقة… قال حرفيًا “أنا لم أزل أتحدّث عن علاقة الشعوب الوثنية بالأمّ ولم أتحدّث بعد عن مريم”. إذًا لم يقل عن مريم إنّها وثنيّة أو إنّها ليست عذراء كما تذرّع بعضهم ليبررّ هجومه.
– افتتح الأب رمزي القسم الثاني بتذكير المشاركين والمشاهدين، أنّه كاهن وراهب عازاري، كاثوليكيّ يؤمن بما تعلّم كنيسته، من كهنة سيّدة لورد الفخريين ومسؤول عن مزار سيّدة الأيقونة العجائبية… في محاولةٍ منه لتطويق أيّ اتّهام يُساق ضدّه فيُجهضه قبل أن يولد. في هذا القسم قال: أوّلاً مريم هي والدة الإله لا يسوع الإنسان فقط. ثانيًا يجب أن نزور المزارات المريميّة ونصلّي   ونطلب ونقوم بالتساعيات (حتى قال أنا أيضًا أقوم بتساعيات)، لكن لمن نصلّي؟ وماذا نطلب؟ ثالثًا نصلّي مع مريم ليسوع، وهذا ما قاله القدّيس يوحنّا بولس الثاني في صلاة الورديّة: هي ليست صلاة مريميّة أي ليست موجّهة لها بل أمسك يدها وأسير صوب يسوع. هل قال الأب رمزي غير ذلك؟ رابعًا ليس لدى مريم أيّ شيء تعطينا إيّاه، لا قوّة ولا حنان،…. هي أعطتنا أغلى ما لديها، تأعطنا ابنها يسوع. خامسًا لم يقل هي ليست شفيعة، بل فسّر معنى الشفاعة: شفيعة لا تعني هي وسيط بيني وبين الله، مدعّمًا رأيه بما قال الكتاب المقدّس: “وسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (١تي ٢: ٥). شفيعة لا تعني أن تقنع الله بما لم نتمكّن من إقناعه به، بل تعني رفيقة تُمسك يدي وتسير معي وتكون إلى جانبي في كلّ مأزق كما كانت إلى جانب الكنيسة، حتّى أصل إلى حيث وصلَت، أعني العيش في أحشاء الله.
– ثالثًا وأخيرًا ختم الأب جريج مستشهدًا بعظة البابا فرنسيس في ١٢ أيار ٢٠١٧ في فاطيما: شدّد قداسته على “مع المسيح ومريم، نبقى في الله. في الواقع، “إذا أردنا أن نكون مسيحيّين، علينا أن نكون مريميّين، أي علينا أن نعترف بالعلاقة الأساسيّة، والحيويّة النابعة من العناية الإلهيّة التي تجمع بين السيّدة العذراء ويسوع، والتي تفتح لنا الطريق الذي يقودنا إليه” (بولس السادس، كلمة قداسة البابا خلال الزيارة الرسولية إلى معبد السيدة العذراء في بوناريا، كاليغاري، 24 أبريل/نيسان 1970). وتابع قداسته “حجّاج مع مريم… أيّة مريم؟ معلّمة الحياة الروحيّة، الأولى التي تبعت المسيح طيلة “درب الصليب الضيّقة” وأعطتنا المثال، أم سيّدةٌ “من الصعب البلوغ إليها” وبالتالي لا يمكن التمثّل بها؟. “المباركة لأنّها آمنت” بالكلمة الإلهيّة على الدوام وفي أيّ ظرف كان (را. لو 1، 42. 45)، أم “قدّيسة صغيرة” نلتجئ إليها لطلب الخدمات بسعر زهيد؟. مريم العذراء الماثلة في الإنجيل، التي تكرّمها الكنيسة المصلّية، أَم مريم ما صوّرتها مشاعر ذاتيّة تراها توقف يدَ عدالة الله المستعدّ للمعاقبة: مريمٌ ما أفضل من المسيح، الذي ننظر إليه على أنّه قاضٍ لا يرحم؛ مريمٌ أرحمُ من الحملِ الذي ذُبح من أجلنا؟ إنّنا نرتكب ظلمًا كبيرًا ضدّ الله ونعمته، عندما نؤكّد أولّا أنه يعاقب الخطايا، بدل أن نعطي الأولويّة –كما يظهره الإنجيل- لكونه يغفر الخطايا برحمته! علينا أن نعطي الأولويّة للرحمة قبل الإدانة…” ويختم والكلام دومًا لقداسته “التمجيد الوحيد الممكن لي إنما هو: أن تأخذني أمّك بين ذراعيها، وتكسوني بعباءتها وتسكنني قرب قلبك. آمين”.
– خاتمة
نصائح وبعض تساؤلاتٍ أضعها بمتناولكم كهنةً وعلمانيين ختامًا لما أوردت، لا من باب التكابر على أحد، ولا فيضًا من قداستي فأنا خاطئ في قلبي نزعةُ تكابرٍ في الكثير من الأحيان تدغدغ أنانيّتي فأجعل من نفسي صاحب كلمة الفصل في مسائل لاهوتيّةً عديدة، لكن من باب محبّتي لكنيسة يسوع ومن باب الدفاع عن خرافٍ ضُلِّلَت من قبل من جعلوا من أنفسهم مرجعيّاتٍ تقيّم كهنوت فلان وتدين تعليم علتان، ووصل بهم خبثهم إلى الذروة، فراحوا يتسابقون بالدعوة إلى لقاءات صلاة وساعات سجود طالبين من يسوع الخلاص من كهنة ومعلّمين كذبة، وغيرهم وصلت بهم سطحيّتهم إلى اعتلاء الشاشات وامتطاء وسائل التواصل الاجتماعيّ للذمّ بأحد الآباء المشهود له بعمق إيمانه وتجذّره بالكتاب المقدّس وأمانته لتعليم الكنيسة وإن كان أسلوبه صادمًا وهو واحد من أساليب تربويّة كثيرة. أمّا المهزلة فهي في استعمالهم لكلماتٍ وكلمات ينسبونها إلى الكتاب المقدّس وأنا أتحدّاهم أن يذكروا لنا مرجعًا كتابيًا لما يقولون، وكان آخرهم بالأمس أحد الشمامسة المنضوين في جماعة الأخت ڤيرونيكا جولياني -التي أجلّ قداستها وأحترم حتّى   لا أصبح مادّة دسمة لهجوم بعض الجهلة، لا خوفًا من الهجوم فأنا متسلّح بكلمة الله وبتعليم كنيستي، لكن كي لا أسمح لهؤلاء بأن يتكابروا على حسابي- أتحفنا الشمّاس العزيز في معرض ردّه على الأب رمزي جريج بهدف الدفاع عن الإيمان كما يدّعي ذلك لأنّ “الصامت عن الحقّ شيطان أخرس” كما يقول الكتاب المقدّس بحسب قوله دائمًا. وها أنا أبحث وأفنّد الكتاب بين عهد قديم وجديد علّي   أجد هذه الآية فلم أجد. فلنتخطّاها إلى ما هو أهمّ وأعمق، هذا الشمّاس الذي ذكرت وأتحفّظ عن ذكر اسمه حتى لا أُتّهم بذمّه، والذي وجد نفسه مجبرًا للردّ دفاعًا عن تعليم الكنيسة لأنّ الأب رمزي جريج المعلّم المُهرطق (بحسب رأيه طبعًا)، قال إنّ مريم إن لم تصل بنا إلى يسوع نكون قد ضللنا الطريق وهذا من صلب التعليم الكاثوليكيّ، وقال أيضًا إنّه يجب أن نصلّي ليسوع… هذا الشمّاس أنصتوا جيّدًا لما قال: “إنّ الكنيسة وضعت لنا مريم الأمّ لنصلّي   لها ونطلب شفاعتها -إلى هنا نحن متّفقون- لكن لماذا؟ لأنّ يسوع ديّان وقاسٍ أمّا هي فأمٌّ حنون….” لا أدري بماذا أجيب أو إن كنتَ تستحقّ منّي الردّ، حتى لو ظهرتَ ملتحٍ وعينيك مغمضتين دومًا لأنّك بحالة انخطافٍ دائم وصليبك على صدرك، وحتى إن كنت تصلّي   سائلاً الربّ أن يقضي على المعلّمين الكذبة وقد ذكرت بالاسم الأب رمزي، طبعًا هكذا يكون القدّيسون، لكن اسمح لي بتساؤلٍ بسيط: هل يسوع الذي تكلّمت عنه هو غير يسوع الذي أنا أعرفه؟ يسوعي حبٌّ ورحمة ومسامحة حتّى   لقاتليه، يسوعي مات لأجلي أنا الخائن… أمّا يسوعك فغضوب حاقد ديّان ومريم هي من تحمينا من انتقامه.
أمّا أنتم المؤمنون والمؤمنات فأدعوكم أن تدخلوا وتشاهدوا حلقات الأب رمزي كاملةً لا الأجزاء المقتطعة بخبث ولأهدافٍ مبيّتة… ادخلوا واسمعوا ما أجمل ما قاله عن مريم على شاشة نورسات، اسمعوا ما كتب عن مريم وقد أنشدوها له… من المعيب في هذا الزمن أن ننجرّ خلف أشخاصٍ نعرف جيّدًا ما يبتغون ونعرف تمام المعرفة ماذا يعني ما يمارسون بحسب الطبّ النفسيّ.
هل تصدّقون فعلاً أنّ الأب رمزي دعانا عبر الشاشة لتكون علاقتنا بالله علاقة تديّنٍ لا علاقة إيمان؟
هل صدّقتم ما قالوه لكم أنّه نعت مريم بأنّها وثنيّة؟ هل تريدونني أن أصدّق أنّ المسؤول عن مزار  “الأيقونة العجائبيّة” (وهو مزارٌ مريميّ) في الأشرفية رفض الاعتراف بقداسة مريم وعصمتها من الخطيئة الأصليّة؟
أبتي الحبيب، بئس زمنٍ صار لزامًا على من يعلّم بأمانةٍ أن يدافع عن نفسه، بوجه هستيريا جماعيّة يقودها أناسٌ مضطّربون نفسيًا. أنحني أمام تواضعك واعذرني إن تولّيت الردّ، لكن حاول أن تتفهّم ظرفي كما تفهّمتَ ظروفهم، فأنا صاحب ضميرٍ، وضميري لم يتحمّل أن أكون شيطانًا أخرس فرفضتُ السكوت عن الحقّ، والسلام.
(الخوري أنطوان القزي)
Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الخوري أنطوان القزي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير