نتوقّف قليلا الآن حول السؤال الذي طرحه الشاعر إيليّا أبو ماضي عندما كرّر : أنا لا أعلم شيئا عن حياتي الماضية، لست أدري لماذا أنا على الأرض. أمام إستحالة الأجوبة على هذا السؤال، لا يجوزُ أن نتهرّب منه، ولا أن نحرم أنفسنا من طرحه والغوص فيه، بل علينا أن ندخلَ في عمقه، لأنّ فينا ” رغبةٌ ” في ذلك. والرغبةُ مهمّة جدّا، لكي نستنتجَ بأنّ الحياة لا معنى فيها، كما قالَ مونييه : ” من غير المعقول أن يكون كلّ شيء غير معقول!”. هكذا، خابَ ظنّ الإنسان في أغلب الأحيان، عندما لمسَ في تفكيره الحدود، ووصلَ إلى نهاية الطريق. مع ذلك، ما أن يستسلمُ إلى الخيبة، حتى يستيقظَ عنده رغبة لا متناهية، فتراه يرجو عكس التيّــــــــار وضدّ كلّ يأس، ولعله في عمق بؤسه أمام الفراغ والغياب الذي يكتشفه في داخل وجوده، يحاول أن يتحسّس قابــــــليّة إمتلاء ٍ فيه، لامتناه ٍ هو فراغه، فلا بدّ أن اللامتناهي فقط يمكنُ أن يملأ فراغـــــــــه الهائل، وهذا ما عبّــر عنه عمّانوئيل مونييه عندما قال : يــــصبح العــــدمَ كاشفـــــًا، كالصورة النيجاتيف، فتساعدنا صورته على أن نتكيّف لما هو مطلق.
هذا يكشفُ حقيقة ً رائعة وجوهريّة في مفهوم العدم، يدركها فقط من عاشَ وغاص واختبر العدم في حياته، ثمّ شعرَ كم أنّ الإمتلاءَ من المطلق أمرٌ ضروريٌّ في حياتنا. إنه مفارقةٌ عجيبة: الذي كانَ ممتلئــــا من المطلق، ثمّ فرِغَ منه، فأكتشف واختبرَ كم أنّ العدمَ ( عدم الإمتلاء) أمرٌ مأساويٌّ وفوضويٌّ وتيهانٌ مؤلم!.
الرغبـــــــــة، هذه الرغبةُ التي فينا، يغذّيها هذا الوعي بغيـــاب ما، أي هناك شيءٌ ما موجودٌ في مكان ما، هو فقط يمكن أن يملأ هذا الفـــراغ! . لسنا هنا في صدد الوقوع في أيّ فكرة صوفيّة أو روحانيّة، ولسنا نتيهُ في ما جرتْ العادة أن نسمّيه ” الكلّ “، لئلّا يتحوّل هذا الكلّ إلى كائن جامد، فعندئذ يصيرُ الجمود – بالنسبة إلى الإنسان – جمودَ كلمة أو عبارة أو هويّة أو إمتلاءٍ (من شيء ما)، يكتسبه ويسيطر عليه فلا يدعُ مجالا فيه لرغبة ٍ أخرى، وهذا ليسَ الوجود الذي نبحث عنه ولا نريده، فالإنسانُ يعمل إسقـــاطات ٍ دائمة، وبلا توقّف، على المطلق والكلّ، يتخيّله، فيعبدَ ما يتخيّل. والحريّة كذلك، من الممكن أن تكون، أو بالأحرى، تصيرَ ما يمكننا تخيّله، فنقومُ بعبادة ِ الصورة الوهميّة ( نعملُ إسقاطات ٍ فقط).
الكلُّ _ الشامل، مسألة ً صعبة لا يمكنُ أن نفكّر فيها، إلاّ على شكل ” فكرة ” نفي الحدود، ولا يوجد حقيقة أخرى لأنّ الحقيقة الأخرى هي خارج، ولهذا، لا يمكنُ أن يكون هناكَ ” مُطلقيّة “، ولا يمكنُ أن نــــفكّر بـــالكلّ المطلق، وإنـــــــّما نتخيّله فقط كالأفق ِ اللامتناهي.
يكمنُ، فيما ذكرناه، خطرين يهدّدان الإنسان: الرغبةُ أن يكون الإنسان شيئا بسيطـــــــــًا جدّا، أو الرغبةُ بأن يصيرَ كلّ شيء ٍ ( إلهــــــــــًا). وتأتي الحياة بلا توقّف لتنصحه أنّ عليه أن يقلعَ نفسه من هذين الخطرين المهدّدين:
التصغير (كأن يكون فقط هذا الشيء، أي محدّدا، متأثّرا)
التضخيم ( أي أن يصيرَ هو إله) ….. كيف الخروج من هذا؟!
يمكنُ القول: لنفكّر فنقول ماذا يعني الوجود بالنسبة إليّ؟ أي هناك هذا التناقض، بأن لا أكون مجرّد هذا أو ذاك، بل أن أكونَ إنسانا، أي أن أقبلَ أن أكونَ في ” حركــــــة دائمـــة “، لا جمادًا، أن أوجّه حياتي نحو هذا ” الكلّ” في محاولة للتخلص من الوقوع في الخطر الثاني الذي يهدّدني، ويجعلني أغذّي مشروعــــًا بأني يمكنُ أن أصيرَ إلها، فأسعى إلى التشبّه بالمطلق كقصّة الضفدعـــة التي أرادت أن تصيرَ مثل الثور.
إنّ تسامي الإنسان في الحركة، أي في ما يجعله يتميز عن الأشياء الأخرى، ويُقلعه من الإستكانة والتبعيّة، وذلك بالإعتراف بوجود ” فجوة ” فيه ، و ” نافذة ” مفتوحة في كيانه. إذ لا يمكنُ أن يـــُصغّر وجودي على ما أنا الأن وهنا. فالكائن الفاعل الواقعيّ هنا، يمكنُ أن يتأثّر بالأحداث والظروف والخصوصيّات. مع ذلك، لا يمكنها أن تملأ كلّ طبيعته وكلّ جوهره، ولهذا يمكنه ( الإنسان)، أن يقولَ بثقة:
” أنا (فعلا) كلّ ما لستُ أنا ” . أي أنا في المستقبل، أصير يومًا بعد يوم، أنا مستقبل وحركة وسيرورة. أنا لا زلتُ في اليوم السادس بإنتظار اليوم الثامن الآتي إليّ دائمًا . قال نيتشه : ” الإنسان جسرٌ وليس غاية، إنه حبلٌ يلقى في الأعماق السحيقة “. خارجًا عن هذا المشروع وهذه الديناميكيّة، لا وجودَ إنسانيـــــــــّا. يتبع