في نهاية الحلقة السابقة، تطرّقنا إلى نقطة مهمّة، ألا وهي: أن الإنسان يتسامى من خلال الإعتراف بوجود فجوةً فيه ونافذة مفتوحة في كيانه. فلا يمكنُ للإنسان أن يُصغّر ويكونُ شيئا (وهذا ما نراهُ اليوم في عالمنا المعاصر، عصرُ الالات والميكانيكيّة، والإنسانُ يأتي في المرتبة الثانية!).
سنرى في هذه الحلقة العاشرة، إنه لا يمكن للإنسان أن يكونَ، هو، مصدرَ ذاته وكيانه ومحورُ وجوده. فالإنثروبولوجيا تصطدمُ بصعوبة ٍ بالغة وجوهريّة عندما تدرسُ الإنسان كـــموضوع ٍ لها، في تصطدمُ بالشيء الذي لا يمكنُه أن يصبح مجـــــرّد شيء فقط. وهذا يكشف أنه يريد أن يكونَ هو النبع والأساس لكلّ تخيّلاته، فيتكوّن من باطن ٍ ووعي، لكن هذا الإنسان فاعل تمامًا لا يمكنُ قلعه من الأحوال والأحداث، فاعل روحانيّ، لا يمكن أن يخلعَ عنه العالم الذي يحيطُ به، ولا يمكنُ أن يقفَ، أو يتماسَك من دون أن يكون على أرضيّة وعالم محيط به من الأشياء.
لذلك، نرى كلّ المفكّرين (توما الأكوينيّ وهوسّرل وسارتر) يقولونَ، كلّ على طريقته، : ” لا يوجدُ الإنسان إلاّ في الغــــيريّة “، أي في ذاك الذي يختلفُ عني، الذي نراهُ ونكتشفه فقط عندما يعطي الإنسان معنىً لهذا العالم، فيطلق، كما فعل آدم في سفر التكوين، إسمـــــًا على الكائنات ( أي: يتسلّط عليها)، وبهذا الإسم يصيرُ الإنسانُ إنسانــــــــــا بحقّ، ولا يظهر إلاّ بواسطة هذا العالم المليء بالأشياء. هنا وقع ديكارت في الفخّ! عندما اعتبرَ الإنسان كما لو كان مجرّد ” باطــــنيّة مــــحضة “، فتوقف عند وعي الإنسان بذاته.
لنتوقّف قليلا عند نقطة جميلة وعميقة، ” التسمية – القدرة على التسمية “، قبل أن ننتقلَ إلى موضوع ” الوعي “
يقولُ سفر التكوين في أصحاحه الثاني الآيات من 9 إلى 20، ” وجبلَ الربّ الإله من الأرض جميعَ حيوانات الحقول، وجميعَ طيور السماء، وأتى بها الإنسان ليرى ما يُسمّيها. وكلّ ما سمّاه الإنسان من نفس ٍ حيّة فهو اسمه. فأطلقَ الإنسانُ أسماءً على جميع البهائم وطيور السماء وجميع وحوش الحقول . وأما الإنسانُ فلم يجدَ لنفسه عونا يُناسبه “.
هذا الكلام يشيرُ إلى أمرين، أوّلا إلى قدرة الإنسان على ” الكلام – النطق “، مثل الله، وقد اعتبرَ بعضُ الفلاسفة النُطق البشريّ بمثابـة ” ولادة ثانية” ، بعدَ ” الولادة الآولى ” يوم الميلاد؛ وأمّأ اللاهوتيون، فاعتبروا أنّ الكلام البشريّ مبنيٌّ على كون الإنسان كــــ” مثال ” الله، فالحوار البشريٌّ مبنيٌ على الله ” الكلمة ” . ومن غنى رموز تسمية الإنسان الحيوانَ : إنه يتحاور مع مقوّماته الحيوانيّة ليتعامل معها بحكمة ٍ وليدمجها في كيانه البشريّ؛ ولا ننسَ أنّ الله قد خلق الحيوانات( غير المائيّة) في اليوم السادس الذي خلق فيه الإنسان، وأرادَ الله أن يُنقذ الحيوان مع نوح ( تك 6). كما أنه أوصى شعبه بأن يريح الحيوان يوم السبت، كما أننا نجدُ حنان يسوع في كلامه على الحيوان: طيورُ السماء التي يهتمّ بها الآب …. ( لوقا 12 : 6 – 7 )… كلٌ ذلك يوحي بنوع من التعاطــــــــف والألــــــفة بين الله والحيوان، وبالتالي بين الإنسان والحيوان، ولا سيّما قبل الزلّة.
التسمية : عندما أسمّي شيئا، فمعنى هذا أني أتسلّطُ عليه. إنّ تسمية الشيء، في العقلية الساميّة، تعني السيطرة عليه، بذا، قد مارس الإنسانُ سلطته على الحيوان، وكما أنّ الله أخرجَ الكونَ من الخواء بكلمة ٍ منه، هكذا الإنسانُ عندما سمّى الحيوانات (التسمية ترمز إلى أولويّة الإنسان على الحيوان، لا العكس، فالأعلى يشرح الأسفل وليس العكس، الله يشرحُ الإنسان وليس العكس، والإنسان في مسيرة إلى إكتماله في الله).
هكذا، أشركَ الله الإنسان في الخلقْ. بالتسمية والحريّة وبالحبّ والعقل. لكن، حصلت، في سفر الخروج، مشكلة ً جعلتْ من الإنسان عبدًا للمادة، لإله ٍ آخر صنميّ، ألا وهو ” العجل الذهبيّ ” . فلقد جعل الإنسان غايته تنحرف في إتجاه آخر. فيضع الحيوانَ، بهذا المعنى، فوقه: فيقومُ الحيوان بشرح الإنسان!. فتشوّهت الصورة والمعنى ضاعَ وفقدت البوصلة.
الإنسان، كائنٌ متكلّم، يُشركه الله في خلق العالم وصنع التاريخ والحضارة. فالمصدر والنبع هو الله، وليس الإنسان، لكنّ الله أنعمَ على الإنسان، من خلال العقل والحبّ والحريّة، بأن يكونَ ” علة ثانية“، تبدع وتخلق وتجدد الخليقة.
” عندما ينامُ الإنسانُ على منجزاته، وعلى ما عنده، من دون أن يكونَ له بعدَ نظر ٍ للعمق، وللماوراء، وعندما لا يكونُ مستيقظ البصيرة، بحكمة ٍ وتعقّل، وبمعرفة حقيقة كيانه، سيصابُ بالغربة وعدم الوعي، ويتيه في غياهب العالم فاقدًا جوهره وسرّ حياته”. سنرى ذلكَ أكثر في الحلقة المقبلة: الوعي.